دخلت الثورة الاسلامية في ايران عامها العشرين وهي تشهد تحولات مثيرة وتجاذبات بين تياري التجديد والاصلاح والتقليديين المحافظين الذين يحاولون ان يضفوا على صراعهم مع الاصلاحيين طابعاً قيمياً ليضمنوا التفاف الايرانيين حولهم، خصوصاً المتمسكين بأهداف وشعارات الثورة الاسلامية وقيادة الامام الخميني الراحل التاريخية. ويراهن دعاة التغيير بقيادة الرئيس محمد خاتمي على جيل الشباب الذي يشكل اكثر من نصف المجتمع الايراني من الذين بهرتهم شعارات خاتمي وأسلوبه الخطابي وطريقته في التعبير عن احاسيسهم. ويعتمد خاتمي على كونه ابن المؤسسة الدينية الذي كان من ابرز المقربين الى قائدها الخميني اضافة الى قربه اللصيق ايضاً من منظر الثورة محمد حسين بهشتي الذي اغتالته حركة "مجاهدي خلق" مع اثنين وسبعين من قادة النظام الجديد في حادث تفجير حزب الجمهورية الاسلامية العام 1981. لقد واجهت الثورة الاسلامية تحديات ما بعد الانتصار للانتقال من مرحلة النظرية الى مرحلة التطبيق فتمكنت من تخطي عقبة التنظيمات المسلحة مجاهدي خلق وفدائيي خلق وغيرهما التي مارست العمل المسلح ضد النظام الجديد في أقسى الظروف ايام الحرب مع العراق، الا ان النظام تمكن من حشد خطاب تعبوي لمصلحته بقيادة الامام الخميني. وعلى رغم ان الحرب العراقية اعاقت بناء المؤسسات المدنية وعرقلت الانتقال الى مرحلة الدولة الا ان الواضح من السنوات الثماني التي استغرقتها ومع كل الاضرار والتبعات الاقتصادية والاجتماعية التي نتجت عنها ورافقتها كانت لايران الثورة الاسلامية "الخير في ما وقع" وهو التعبير الذي استخدمه الخميني في اللحظة الأولى التي ابلغ فيها بوقوع الحرب. لقد وفّرت الحرب للقادة الدينيين فرصة ذهبية لتصفية الجماعات المحاربة والحركات الليبيرالية وابعادها عن شؤون الحكم، خصوصاً "حركة تحرير ايران" التي رفعت شعار معارضة استمرار الحرب بعد استعادة مدينة خورمشهر الايرانية في أيار مايو 1982. وفي هذا الواقع تواجه الثورة الاسلامية اليوم تحدياً اخطر من الحرب مع العراق ومن الحصار الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة وهو تحدي التجديد والتغيير. فالتغيير مطلوب في ايران، ومعاصرة العالم لا يعارضها احد، حتى من المحافظين التقليديين، لكن المخاوف التي يثيرها المؤيدون لنهج الثورة والامام تتلخص في التحذير من اولئك الذين يتربصون بإيران الدوائر ليحولوا الجمهورية الاسلامية الى نظام من دون طعم ولا لون ولا رائحة من الملتفين حول شعار المجتمع المدني الجديد والداعين الى نظام المؤسسات على طريقة الليبيرالية الغربية. ويمكن القول في شأن التغيير والتجاذب الحاصل الآن بين دعاة الاصلاح والمحافظين انه ليس بالضرورة معركة بين المنادين بالانفلات واسدال الستار على قيم الثورة وأصولها، وبين المتمسكين بتلك المبادئ او بارث الخميني، لأن التطبيقات العملية اكدت ان التنافس، في معظمه، هدفه الاستحواذ على مراكز القدرة والنفوذ، عدا بعض المواقع. وللتدليل يجب ان نرجع بالذاكرة الى الوراء قليلاً، فعندما طلب الامام الخميني من مجلس الشورى المصادقة على تعيين مير حسين موسوي رئيساً للوزراء الغي هذا المنصب بعد وفاة الخميني صوت 99 نائباً من اصل 270 ضد موسوي بحجة ان طلب الامام ارشادي وليس مولويا لازماً، وهذه واحدة من طريقة الأداء لها اكثر من دلالة. اما بعد رحيل الخميني وتنصيب السيد علي خامنئي خليفة له فقد ساد اخيراً سجال على الموازنة العامة التي تقدم بها الرئيس خاتمي للمصادقة عليها من قبل المجلس التشريعي الذي صار المحافظون من جماعة الپ99 السابقة يسيطرون عليه. وتسرب ان المرشد خامنئي ايد وأمر بالمصادقة على الموازنة في دعمه المستمر للرئيس. ويبرر الذين عارضوا الموازنة ممن رفعوا لواء "ولاية الفقيه" ضد خصومهم ان ما طلبه الولي الفقيه واجب كفائي وليس عينياً، اي ما دام انه سيحصل على موافقة الغالبية فليس من الضرورة علينا التصويت له .... واللافت ان المهيمنين على اللجنة العليا المشرفة على انتخابات المجالس البلدية والقروية كانوا من متبني تبرير "الواجب الكفائي" وهم قاموا باقصاء 1312 من المتقدمين بملفات الترشيح لهذه الانتخابات في طهران وحدها بينهم 50 من المقربين جداً من خاتمي بزعم انهم غير متمسكين عملياً بولاية الفقيه. ويبرز التغيير في 3 فرق أساسية: الأول ينادي بالتغيير الكامل ونسيان الماضي ويقول اصحابه حبيب الله بيمان وباقي الليبراليين من ذوي الاتجاه الغربي ان ايران ستطوي عاجلاً ام آجلاً صفحة الماضي وتنسى حقبة الثورة. لذلك يقترب هؤلاء كثيراً من دعاة المجتمع المدني الجديد ويلتفون حول شعارات الرئيس ويشاركون في كل الفعاليات والمراسم ويتقدمون بالترشيح للانتخابات، اي انتخابات، ويتحملون الاقصاء لكنهم يصبرون لأنهم يراهنون على اخطاء متشددي اليمين المحافظ الذي يخلطون في الاقصاء مقربين من الرئيس قد يلتقون مع الليبراليين في موضوعات الانفتاح لكنهم ليسوا مثلهم بما يجعل هؤلاء وأولئك يصطفون في المطالبة بحذف نظرية "الاشراف الملزم" وهو السلاح المتبقي بيد المحافظين. الفريق الثاني التقليديون المحافظون المنادون بالابقاء على نهج الثورة بكل شعاراتها خصوصاً المواجهة مع الولاياتالمتحدة، وبينهم متزمتون عبر عنهم الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني بأنهم لا يملكون رحابة الصدر محذراً من اولئك الذين يظهرون حماسة غير عادية اكثر من الذين يطرحون مفاهيم الحريات ويتبنون بطريقة مقصودة اثارة حريات غير منضبطة ليؤججوا الصراع داخل المجتمع بين جيل الثورة والجيل الجديد. الفريق الثالث هم الاصلاحيون الوسطيون، اي الرئيس خاتمي والقلة المتفهمة معه لأسس وحقائق التغيير المنشود. ويمكن القول ان احتفالات "عشرة الفجر" التي بدأت في ايران لاحياء ذكرى انتصار الثورة الاسلامية على نظام الشاه محمد رضا بهلوي تميزت بتجاذبات حادة بين الاجنحة الايرانية التي يعمل كل جناح منها على تأكيد ان الثورة الاسلامية ما زالت مستمرة انما بلغة عصرية. حتى التقليديون الذين يواجهون تحدياً باسم المجتمع المدني الجديد لا يخفون رغبتهم في التجديد ومواكبة العصر، الا انهم يصرون على المضي في قافلة الثورة مثلما اطلقها الامام الخميني وبالشعارات نفسها التي يقولون انها من مبادئ الثورة وقد فصلت لكل عصر ومصر محذرين من المتصيدين الذين يعكرون الاجواء ليرفعوا من وتيرة الصدام الى نقطة افتراق نهائي بين الاصلاحيين والمحافظين. مقص الاشراف الملزم وخلال العام الماضي وصل التجاذب بين الاجنحة الرسمية ومن يدفع بهذا الاتجاه الى المناداة بمنع استخدام مقص "الاشراف الملزم" على اساس ان اليمين يمسك به لحرمان الايرانيين من اختيار ممثليها في أية انتخابات. و"الاشراف الملزم" برز بعد تصاعد حدة الخلاف بين مجلس الشورى عندما كان يسيطر عليه اليسار الديني ومجلس صيانة الدستور الذي ما زال اليمين التقليدي يهيمن عليه. ولا يزال التقليديون الذين يرفعون قميص الحفاظ على قيم الثورة الاسلامية، بعد مرور 20 عاماً عليها يحتفظون بمواقع حساسة وخطيرة في النظام ويمسكون بپ"الاشراف الملزم" في الانتخابات اي انتخابات، على رغم ان أداء مجموعات العنف والتطرف والتفاف الغالبية حول خطط الرئيس تجعل من الصعوبة على هؤلاء ايقاف عجلة التاريخ. وفي غمرة الاحتفالات، في جانبها الاستعراضي، اطلقت عند الساعة 9.33 من صباح الاثنين الأول من شباط فبراير وهي اللحظة التي حط فيها الخميني قبل 20 عاماً قادماً من منفاه الاختياري في باريس، صفارات القطارات والسفن وقرعت اجراس الكنائس والمدارس وعلت شعارات التكبير في المساجد والمنازل تزامناً مع الساعة التي نزل فيها الامام الخميني من طائرة "الخطوط الفرنسية" التي نقلته من ضاحية نوفل لوشاتو الباريسية الى مطار مهراباد ليحمله بدلاً من ذلك اكثر من ستة ملايين ايراني اصطفوا لاستقباله ثم يتوجه مباشرة الى مقبرة "جنة الزهراء" حيث يرقد الآن. وحرص الجميع، وأقطاب الحكم وأركان النظام، على زيارة ضريح الخميني لتجديد الولاء. وكان الرئيس خاتمي سبق الجميع وأعاد التأكيد انه على نهج الخميني متعهداً بالمضي قدماً في بناء دولة القانون والدفاع عن الحريات. واعتبر خليفة الخميني المرشد علي خامنئي الذي دشن الاحتفال عند ضريح سلفه ان اهم واجبات النظام تتركز في تعزيز قواعد الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي، داعياً الى الوفاق والى الالتفاف حول الحكومة. اما الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، فحذر عند الضريح الذي ضج بالحاضرين وبالشعارات الثورية من الاختلاف بين الاجنحة الرسمية ونبه الى مؤامرة يشارك فيها من وصفهم بالمتصيدين، وقال ان هدف الاستكبار هو ايجاد هوة بين جيل الثورة والجيل الجديد. واهتم رفسنجاني بتوجيه رسالة للولايات المتحدة في "بازار" العداء المفتوح هذه الأيام للادارة الاميركية، فربط بين تعزيز قدرات ايران الصاروخية وانتاجها الصواريخ عابرة القارات وبين قدرة ايران على قول "لا" قوية لأميركا و"نستطيع ان نرد عليها غطرستها" كما قال. وتبلغ الاحتفالات اوجها يوم الحادي والعشرين من الشهر الجاري اي يوم 22 بهمن الشهر الايراني، ذكرى فرار شهبور بختيار آخر رئيس وزراء للشاه، ليتفرغ الجميع بعدها لاستحقاق الانتخابات البلدية. جيل الثورة وجيل الشباب وإذا كان الاحتفال العشريني للثورة يأتي في ظل صعوبات اقتصادية تمر بها ايران فان البرامج الاقتصادية الضخمة لتنفيذ مشاريع البنى التحتية ستمكن ايران من جني الثمار في سنوات لاحقة اذا استمرت في سياسة الرئيس خاتمي على رغم تدهور اسعار النفط والكساد الاقتصادي الذي هو حالة عامة. ولكن، وفي باب الاخفاقات، فان الثورة الاسلامية، وعلى رغم كل ما اكده الامام الراحل في شأن مواكبة العصر كادت تصل الى طريق مسدود قبل الانتخابات الرئاسية العام قبل الماضي. وفي الواقع فان الرئيس خاتمي يشكل الأمل الأخير لاعادة اللحمة بين جيل الثورة وأهدافها من جهة وجيل الشباب والغالبية التي انكفأت وصارت في خانة الصامتين اللامبالين من الذي حرك فيهم خاتمي دماء التجديد، وها هم اليوم يخوضون التعددية الثقافية والسياسية. وفي هذا السياق تمكن الاشارة الى مهرجان موسيقى "البوب" وسيطرة التقاليد الغربية على ازياء ومظاهر الحياة العامة في البلاد وسط تحذيرات لا تجد اصداء قوية. والمهرجان الذي يستمر 11 يوماً هو الأول من نوعه في محاولة من القائمين عليه التقريب بين ما يريده الشباب والتخفيف من حدة اي ردة قيمية لدى الجيل الصاعد بما جعلت رفسنجاني يحذر من مخاطر عدم الالتفات الى طموحات الشباب داعياً في الملتقى الخاص الذي حمل عنوان "الشباب وتحديات العقد الثالث للثورة الاسلامية" الى برنامج في اطار خطة التنمية الثالثة يكون قابلاً للتطبيق ويأخذ في الاعتبار احتياجات الشباب وتساؤلاتهم المشروعة