تقف ايران على اعتاب الألفية الثالثة وهي تشهد تحولات مثيرة تعكسها حدة السجال بين التيارات المتنافسة. وقد وصل الأمر الى ان يتراجع ثوريون سابقون وأصوليون كانوا طوال العقدين الماضيين في مقدمة المعادين ل"الاستكبار الاميركي"، عن شعاراتهم ليضعوا أنفسهم في خانة "الليبرالية الوطنية الحديثة" الممزوجة بقليل من الدين على أساس "القراءات المختلفة للدين". وإذا كان الرئيس محمد خاتمي قد أكد حتى الآن تمسكه الكامل بأصوليته السابقة وشدد قبل أيام مع حليفه التقليدي حجة الاسلام مهدي كروبي على انه يظل وفياً لمبادئ الإمام الخميني الراحل ونهجه، فإن أنصاره والعديد من أقطاب الأصولية "سابقاً" لا يرون ذلك وهم يروجون لفكرة "ان ايران لكل الايرانيين ولا فرق بين ايراني وآخر في معادلة الولاء وان اختلفت قراءاتهم لما يجري في البلاد". ويبدو أن أنصار الرئيس تلقفوا مقولة خاتمي "ايران لكل الايرانيين" على طريقة الاحزاب الوطنية والقومية، وحتى العنصرية، التي حرصت خلال احياء ذكرى ضحايا اغتيالات العام الماضي على ترديد نشيد "أي ايران" الذي هز مكان الاحتفال، ولذلك حرص حجة الاسلام عبدالله نوري خلال محاكمته أمام محكمة علماء الدين على تأكيد ان "حركة تحرير ايران" القومية المحظورة لها الحق في ممارسة النشاط السياسي، مشككاً برسالة يقول سلفه في وزارة الداخلية حجة الاسلام علي أكبر محتشمي انه تلقاها من الإمام الخميني، وتصف الحركة بأنها مرتدة ولا يحق لها العمل السياسي. وأبعد من التشكيك قال نوري الذي يوصف ب"جنرال الاصلاحيين" ان كلام الإمام الراحل متغير كالمفاهيم والقيم التي ليست الدين بعينه، ولماذا لا يكون لكلام الإمام قراءات مختلفة؟ معلناً ان خط الإمام انتهى بوفاته. لكن نوري لم يقبل بإمامه خليفة الإمام المعين من قبل مجلس الخبراء آية الله علي خامنئي. وورد حديث نوري في اطار الدفاع عن رأيه في فتح حوار مع الولاياتالمتحدة متسائلاً: "صالحنا صداماً وهو دمر بلادنا بالصواريخ وقتل أبناءنا ونحن نقيم علاقات مع روسيا وبريطانيا، فلماذا لا تكون لنا علاقات مع الولاياتالمتحدة؟!". وجاءت محاكمة نوري ومن ثم سجنه في سجن ايفين الشهير، لتفتح جروحاً كانت غائرة بين المحافظين والاصلاحيين لأن نوري الذي كان تخرج من البرلمان الحالي عندما اختاره الرئيس خاتمي ليصبح وزيراً للداخلية قبل ان يقيله البرلمان، فاز في أول انتخابات بلدية بالمرتبة الأولى وصار رئيس المجلس البلدي في طهران، وها هو اليوم يريد - حتى وهو في السجن - معاقبة المحافظين عبر صناديق الاقتراع ليؤكد من جديد ان خصومه فقدوا أوراقهم وما عليهم الا ان يقبلوا بقواعد اللعبة وينسحبوا. لكن هذا الكلام لا يبدو مقبولاً من المحافظين فهم ما زالوا أقوياء على رغم ضعفهم في الشارع وعلى رغم التفاف جيل الشباب والقوى الليبرالية والوطنيين حول برامج الاصلاح - وان اختلفت المقاصد - وقد عمد المحافظون الى التلويح بوجود أخطار تهدد إرث الإمام الخميني الجمهورية الاسلامية وولاية الفقيه وما أصبح يعرف بخطه ونهجه. وفي هذا الواقع جاءت دعوة "رابطة علماء الدين المناضلين" التي تمثل اليمين الديني المحافظ لعقد اجتماع مشترك مع "مجمع علماء الدين المناضلين" الذي يمثل اليسار الديني وينتسب له الرئيس، وحضره الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني واتفق فيه الجميع على الحفاظ على إرث الخميني والألتفاف حول نظام الجمهورية الاسلامية وولاية الفقيه باعتبارهما ما تبقى من الامام الراحل. وبعد دخول نوري السجن يتساءل كثيرون الى أين يسير الصراع السياسي في ايران المتجهة الى بداية الألفية الثالثة وسط تحولات ربما تكون غير متوقعة. وبإيجاز، ان الصراع اليوم في ايران هو بين الخمينية الأصولية، ودعاة التجديد وتجاوز الإرث الخميني من الذين عبر عن آرائهم وزير الداخلية السابق عبدالله نوري بدعوته الى تخطي أفكار الامام الخميني ونهجه للدخول الى القرن المقبل بجمهورية اسلامية عصرية. ولقد جاء الاعلان قبل أيام، من محاولة اغتيال كبار قادة النظام من قبل تنظيم مغمور باسم "المهدوية" ليفتح ملفات الصراع على مصراعيها بين التيارين الرئيسيين في البلاد، على رغم ان السلطات كانت اعتقلت اعضاء شبكة "المهدوية" مطلع العام الحالي وأعلنت عنها يوم 26 نيسان ابريل على لسان قائد القوة البرية للحرس الثوري العميد محمد علي جعفري. ويرى مراقبون ان وزارة الأمن التي تلقت مطلع العام، بالاعلان عن تورط عدد من كبار مسؤوليها في ملف اغتيالات المثقفين والمعارضين الليبراليين، ضربة قوية هزت من سمعتها وأضعفت موقعها في الشارع الايراني، كانت بحاجة الى عمليات "ضبط" أمنية قوية على شاكلة الكشف عن الشبكة ومخططها لاغتيال كبار المسؤولين وعلى رأسهم خاتمي ورفسنجاني وآخرون. ويلاحظ المراقبون نشاطاً مكثفاً لوزارة الأمن في مواجهة عناصر منظمة "مجاهدين خلق" المعارضة التي توصف بالارهابية وهي تستغل الفرص لتوجيه ضرباتها للنظام بزيادة عدد عملياتها التفجيرية الى درجة انها وصلت الى القصف بمدفعية الهاون، اذ نظمت وزارة الأمن بالتنسيق مع وزارة الثقافة والاعلام، رحلة للصحافيين للاطلاع على آثار هجوم "مجاهدين خلق" الأخير في الأهواز مركز اقليم خوزستان جنوب غربي ايران. وربما لا يجد المراقب أي صلة بين الاعلان مرة ثانية عن تنظيم "المهدوية" والتطورات الداخلية الراهنة غداة الحكم على نوري بإغلاق صحيفته "خرداد" وسجنه خمس سنوات، خصوصاً ان المؤشرات تدل الى ان معركة الانتخابات التشريعية المقررة في شباط فبراير ستكون من العيار الثقيل، على ضوء معلومات تتحدث عن عزم الرئيس السابق رفسنجاني المشاركة في السباق الانتخابي، في محاولة مدفوعة أو مدعومة من المحافظين ومن حزب "كوادر البناء" الاصلاحي المتحالف حالياً مع الرئيس وتياره "اليسار الديني". الا ان ما يجري هذه الأيام في ايران من تحولات يبدو مثيراً خصوصاً عندما يصل الأمر الى حد ان يعلن عبدالله نوري ان أفكار الإمام الخميني الراحل ليست نهجاً مطلقاً لا يمكن تجاوزه "على قاعدة التناسب مع الزمان والمكان" أي بلغة العصرنة والحداثة والإصلاح، وهي لغة بدت غير مفهومة لدى المحافظين. وإذا كان أعضاء وزارة الأمن وصفوا من قبل الإمام الراحل ب"جنود إمام الزمان الغائب المنتظر"، لدورهم الخفي في الحفاظ على إرث الخميني "أي الجمهورية الاسلامية وما تبقى من نهجه"، فإن عودة رفسنجاني الى حلبة الصراع لا تعني لدى الأصوليين المؤيدين لهذه العودة الا ان الرئيس السابق الذي تأسست وزارة الأمن أثناء رئاسته للبرلمان، يريد مرة أخرى ان يؤسس لمشروع جديد للأمن في البلاد ربما سيتمثل في تقديم اقتراح بحل الوزارة والمصادقة على تشكيل "وكالة استخبارات" تخضع لإشراف المرشد بما يعزز من سلطاته على خلفية تحليل يروجه خصوم النظام ويعتقد بأن رفسنجاني هو المرشح القوي لخلافة المرشد الحالي خامنئي الذي تحالف معه على مر السنين. عودة الشيخ الرئيس وفي شأن سجن نوري فإن العديد من الاصلاحيين المتحالفين مع خاتمي ربما يكونون مسرورين لأن تغييب نوري عن السباق الانتخابي سيخدم الداعين الى عودة رفسنجاني مرة أخرى الى البرلمان ويمسك العصا من وسطها، كما كان في السابق، لأن الذين يعرفون رفسنجاني يدركون جيداً ان "الشيخ الرئيس" السابق لن يرضى بأقل من رئاسة البرلمان وهو ايضاً لا يذهب الى مكان إلا إذا "عزز هو أو فعل ذلك القانون بعد تعديله" من سلطاته. وليس خافياً على ذاكرة التاريخ ان رفسنجاني منح البرلمان في الدورات التي سبقت رئاسته الجمهورية، المزيد من القوة والفاعلية ليكون الأكثر تأثيراً في صنع القرارات. وعندما اقترح عليه الترشيح للانتخابات الرئاسية العام 1989 من دون منافسة، اشترط دمج رئاسة الوزراء مع الرئاسة لتصبح الأخيرة ذات فاعلية بعدما كانت "تشريفاتية". وبعد انتهاء ولايته الثانية العام 1997 صار رفسنجاني رئيساً لمجمع تشخيص مصلحة النظام، ولم يقبل بهذا الدور الا بعد ان عزز خامنئي من دوره في البلاد على رغم ان حضور خاتمي القوي في الساحة، قلل من فرص ان يلعب رفسنجاني دوره كما يجب، في الحفاظ على إرث الإمام. ان عودة رفسنجاني الى العمل تحت قبة البرلمان لن تتحقق الا بشروط أقلها ان تعود الهيبة السابقة للبرلمان لتكون كلمته فاصلة، خصوصاً ان الاصلاحيين أو الذين يفكرون بتغيير النظام بطريقة دستورية، يرددون هذه الأيام ان للجيل الجديد الذي ولد بعد الثورة، الحق في تقرير مصيره، ويكررون من دون ان يتمكن المحافظون من الرد عليهم، ان مشروعية النظام تأتي عن طريق رأي الشعب