هكذا انتهت سابع انتخابات للرئاسة في ايران منذ قيام نظام الجمهورية الاسلامية لتقف ايران على اعتاب مرحلة جديدة تشهد غياب الرئيس هاشمي رفسنجاني عن السلطة التنفيذية التي امسك بها ثماني سنوات متتالية، وهي مجموع ولايتين رئاسيتين، لكن المرحلة الجديدة ستكون حبلى بالتطورات المهمة على صعيد هيكلية النظام وعلاقات الاجنحة السياسية والتيارات الفكرية وهرمية القيادة وتقاطعاتها مع بقية المؤسسات الرسمية. وأياً كان الفائز في هذه الانتخابات، ناطق نوري او محمد خاتمي، لن يكون امامه الا الانسجام مع ما بدأه رفسنجاني قبل ثمانية اعوام عندما أرسى بتوصيات مباشرة من الامام الخميني الراحل وخليفته خامنئي دعائم الاصلاح الاقتصادي واعادة البناء لينقل رفسنجاني ايران من مرحلة الثورة وما رافقها من شعارات الى مرحلة الدولة واستحقاقاتها للاندماج مع المجتمع الدولي من دون التخلي عن القيم الاساسية للجمهورية الاسلامية. ويجب التفريق بين المرحلتين لتأكيد ان ما قام به رفسنجاني يعد انجازاً بكل المقاييس، فهو غيّر في اسلوب اداء الاقتصاد الايراني المنهك وواجه بذلك انتقادات المواطن الذي يبحث عن حلول عاجلة لاقتصاده اليومي. وكذلك فان المعارضة الداخلية من جناح الذين يسمون انفسهم السائرين على نهج الامام والذين دعموا خاتمي في حملته الانتخابية، رفضت اساسيات برامج الاصلاح واتهمت رفسنجاني وانصار نهج البناء بادارة ظهرهم للامام الخميني الأمر الذي وضع رفسنجاني في موقف صعب أمام المواطن الذي تغذى طوال سنوات من الشعارات وأصبح من الصعب عليه تذوق برامج رفسنجاني. اما الآن فان هذا المرشح أو ذاك وهو يرفع شعار حملته الانتخابية بانتظار تسلم مهام الرئاسة في اغسطس آب المقبل فما عليه الا ان يواصل برنامج الاقتصاد في عهد البناء شاء أم أبى، لأن رفسنجاني قالها بالفم الملآن انه سيتدخل شخصياً لانقاذ عملية الاصلاح الاقتصادي اذا واجهت أية ردة داخلية من الرئيس الجديد بشكل خاص. وتدفع هذه الحقيقة الى فتح ملف "مجمع تشخيص مصلحة النظام" الذي سيتعزز دوره في المرحلة الجديدة في مقابل ضعف سيطرأ على الرئاسة. فقبل انتخاب رفسنجاني رئيساً كان منصب الرئاسة شكلياً، لكن المرشد خامنئي أو بتعديل دستوري دمج بموجبه رئاسة الوزراء بالرئاسة الايرانية ليصبح الرئيس ممسكاً بزمام السلطة التنفيذية. ويمكن القول ان خامنئي الذي عمل مع رفسنجاني قبل الثورة واثناء الحرب مع العراق وبعد تدعيم منصب الرئاسة، استخدم صلاحياته المطلقة قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مبادرة مثيرة لم يسلط الضوء عليها يوم اعاد خامنئي تركيب "مجمع تشخيص مصلحة النظام" كخطوة نوعية في آليات انتاج القرار الايراني. ولكن كيف تحول هذا "المجمع" وقد تأسس بقرار من الولي الفقيه السابق من اسلوب لحل اشكاليات موقتة الى بنية ثابتة داخل النظام؟ من مجلس إلى مجمع لقد توصلت ايران الى ان الممارسة العملية للحكم هي غير الممارسة النظرية التي على ضوئها انيطت بمجلس الشورى مهمة سن القوانين الاسلامية. والملاحظ ان الدستور الايراني خول مجلس الشورى هذه المهمة واوكل الى 12 شخصية نصفهم فقهاء والنصف الآخر قانونيون هم مجلس صيانة الدستور الاشراف على تشريعات مجلس الشورى. وقد رفض مجلس الصيانة اكثر من مرة تشريعات اقرها مجلس الشورى، الأمر الذي عرقل حركة النظام خصوصاً في فترة الحرب مع العراق وادى الى ارباك عالجه الامام الخميني بتعيين مجمع خاص باسم تشخيص مصلحة النظام يتألف من رؤساء السلطات الثلاث وأضاف اليهم شخصيات معروفة، وهم موسوي خوئينيها، وآية الله توسلي من مكتب الامام وفقهاء مجلس صيانة الدستور والوزير المعني اضافة الى ميرحسين موسوي. وراح هذا "المجمع" يعمل بناء على أمر مباشر من الخميني لحل التعارض بين مجلسي الشورى وصيانة الدستور من دون ان يكون للمجمع موقع دستوري الى ان جاء خليفته خامنئي وأمر بأن يتحول "مجمع تشخيص المصلحة" وفق المادة الجديدة 112 الى كيان ثابت داخل النظام العام 1989. وفي العام 1994 انتهت الدورة الأولى ومدتها خمس سنوات للمجمع وكانت تتألف من رفسنجاني كرئيس للجمهورية وحسن صانعي ومهدوي كني واحمد الخميني وموحدي كرماني وتوسلي وعبدالله نوري وحسن روحاني وحسن حبيبي وموسوي خوئينيها اضافة الى رؤساء السلطات الثلاث - وبينهم رفسنجاني بالطبع - وفقهاء مجلس الصيانة والوزير المعني. وكان رفسنجاني رئيساً للمجمع بحكم كونه رئيساً للجمهورية وظل هذا المجمع يمارس عمله الى ان صدر قرار من خامنئي بتركيبة جديدة تضمنت اعضاء جدداً وتوسعت مهمة المجمع لتشمل اضافة الى حل التعارض تقديم الشورى الى الفقيه. واصبح رفسنجاني استناداً الى الهيكلية الدستورية رئيساً للمجمع لخمس سنوات تتجاوز مدة رئاسة الرئيس الجديد وهي اربع سنوات. وبمعنى آخر سيشرف رفسنجاني مع خامنئي على عمل السلطات الثلاث من مواقع كون المجمع يقوم بدور استشاري، وليفصل في اكثر المسائل خطورة وحيوية إذا حصل التعارض بين مجلسي الشورى والصيانة. وانطلاقاً من هذا الواقع يصبح الرئيس الجديد، في موقع اضعف امام شخصية مثل رفسنجاني يعرف كيف يمسك العصا من وسطها ليمنح "مجمع تشخيص المصلحة" قدرات جديدة ويصبح في الموقع الثاني بعد المرشد وهذا ما أكده مساعد رفسنجاني للشؤون القانونية والبرلمانية عطاء الله مهاجراني. ويرى خبراء عارفون بتضاريس الرواق الايراني ان مبادرة خامنئي الأخيرة بتوسيع دائرة عمل "المجمع" جعلته ينهض بمهمة مزدوجة باعتباره ارفع هيئة تقدم للمرشد ما تنتهي اليه من توصيات. ويمكن القول ايضاً ان صلة رفسنجاني القريبة من خامنئي تمنح توصياته صفة اقرب الى الالزام منها الى مجرد الشورى، مثلما كان يفعل الامام الخميني الراحل. وأما من الناحية الدستورية فيرى احد الخبراء ان الاستشارة التي يمارسها المجمع تتحقق بأسلوبين: الأول يتمثل باعداد اقتراحات عن السياسات العامة للبلاد وتقديمها الى المرشد كتوصيات ومقترحات، في حين يتمثل الاسلوب الثاني بدرس المواضيع التي تحول الى "المجمع" من قبل المرشد ليقدم له بعد البحث والدراسة صيغ الحلول المناسبة. ويقول نص الحكم الذي اصدره خامنئي: "يتحلى هذا المجمع وفقاً للدستور بدور المستشار الفاعل الذي يثق به القائد لما يقوم به من تعيين السياسات العامة للنظام وحل المعضلات الأساسية للبلد ودراسة الامور التي يحيلها القائد اليه. كما يقوم من خلال اضطلاعه بتشخيص المصلحة في موارد التعارض بين مقررات مجلس الشورى وما يراه مجلس صيانة الدستور، بتذليل احدى معضلات النظام ورفعها عملياً. وعندما تؤخذ مجموع هذه الوظائف المقررة دستورياً في الاعتبار فان هذا المجمع يكون بمثابة الهيئة الاستشارية العليا للقيادة لنظام الجمهورية الاسلامية". ويلاحظ الخبراء نقاطاً اساسية في تركيبة "مجمع تشخيص المصلحة" اهمها انها جاءت قبيل انتهاء فترة الرئاسة الثانية لرفسنجاني واثناء التحضير للانتخابات الرئاسية الثانية. وكذلك فان هذه التركيبة شملت جميع الاجنحة السياسية والتيارات الفكرية داخل النظام بما فيها الحديثة الولادة، ومنها انصار نهج البناء ومنظمة الدفاع عن القيم الاسلامية. وان هذه التركيبة الجديدة جعلت الاستفادة العملية من خبرات رفسنجاني على صعيد الادارة والقيادة حقيقة واقعة. وليس خافياً ان خامنئي يمسك بتفاصيل السياسة الخارجية لايران ويتدخل حتى في التفاصيل، من قبيل تحديد زيارات وزير الخارجية ولايتي لبعض البلدان. وفي التفاصيل ايضاً عندما ارادت ايران دعوة الرئيس حسني مبارك لحضور قمة طهران الاسلامية المقررة في كانون الاول ديسمبر المقبل كان الرأي السائد داخل النظام يفيد بارسال مبعوث خاص غير الوزير ولايتي. واقترح بعضهم اسم حجة الاسلام محمد علي تسخيري بصفته مسؤولاً لدائرة الاعلام والاتصالات في وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي. لكن خامنئي امر بارسال ولايتي لكي يمنح قمة طهران المقبلة فرصاً اضافية للنجاح. وكذلك في موضوع استقبال سفراء دول الاتحاد الاوروبي في ازمة ميكونوس الاخيرة، اصدر خامنئي تعليماته المحددة حول رفض استقبال السفير الالماني، واطلق المقربون منه اصطلاح "الافك السياسي" الذي قالوا ان المانيا روجته ضد ايران. واما في الازمة المزمنة مع الولاياتالمتحدة فان مرشد الثورة ظل يعارض مجرد الحوار بين طهران وواشنطن ويرفض اعادة العلاقات معها على رغم اشارات من هنا وهناك المحت الى وجود رغبة لدى "بعض" الايرانيين للدخول في "حوار مباشر" مع الادارة الاميركية. القائد يرسم السياسة الخارجية وبشكل عام اطلق خامنئي في الآونة الأخيرة مصطلح "العزة والمصلحة والحكمة" كمثلث يحكم العلاقات بين ايران وغيرها من الدول وألزم به القائمين على السياسة الخارجية مضيفاً اليه تدخله الشخصي في التفاصيل. ولذلك فان مرحلة ما بعد الرئيس رفسنجاني تشهد اي تغيير يذكر في السياسة الخارجية. صحيح ان هناك اختلافات في الرأي بين انصار التغيير الذين وقفوا الى جانب خاتمي، وبين المحافظين من انصار نوري "لكن الاطار العام للسياسة الخارجية يرسمه القائد بالاستعانة المباشرة بمجمع تحديد المصلحة، والمجلس الأعلى للأمن القومي الايراني"، كما قال ل "الوسط" محمد رضا باهنر القطب البرلماني البارز الذي قاد الحملة الانتخابية لنوري. بعدما اصبح رفسنجاني رئيساً للجمهورية العام 1989 تعزز دور المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني في رسم سياسات البلاد. واللافت ان هذا المجلس الذي اريد له الاهتمام بالسياسة الخارجية اصبح في عهد رفسنجاني يقوم بمهمات اجتماعية خطيرة اهمها مواجهة مخاطر "الغزو الثقافي" وما يمكن تسميته ب "الردة الثقافية". ويصبح من الطبيعي ان ينحسر دور المجلس الأعلى للأمن القومي في مقابل تعزيز نفوذ مجمع تشخيص مصلحة النظام. ولترتيب الاولويات يتوقع ان يفرض خامنئي المزيد من سلطاته على الرئيس الجديد وان اختلفت تفسيرات المرشحين حول نظرية ولاية الفقيه ومدى قدراتها المطلقة التي تمنحها للمرشد. وستكون ل "خامنئي" المزيد من السلطة السياسية على البرلمان عملاً بتقليد سابق مارسه الامام الخميني مع مجلس الشورى في قضايا اثيرت ايام حكومة مير حسين الموسوي. فالقائد اولاً وثانياً رفسنجاني ومن بعد ذلك الرئيس الجديد ومعه البرلمان في الموقع الثالث على رغم نظام المؤسسات. واستطاع خاتمي ان يلفت اليه انتباه العديد من التيارات الفكرية المتباينة في ايران، حتى ان خطابه السياسي شد اليه معارضون يصنفون بأنهم في خانة "اعداء الثورة". ومع ان خاتمي ظل يرفض وصفه بالتحرر او الليبرالية لأن ذلك يثير ضده حفيظة الشارع. الا ان ممارساته الفعلية ايام تولي وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي كشفت انه يؤيد ان يصبح لليبراليين مكان حول الطاولة وهذا ما جعله رمزاً للوفاق الوطني يلتف حوله انصار الاجنحة المختلفة ما عدا المؤسسة الدينية التقليدية ومؤيدوها. وفي هذا الواقع سيكون امام الرئيس الجديد ان يعمل على معالجة "يقظة" القوى الليبرالية التي حركتها حملة خاتمي الانتخابية. ويجب التذكير بأن نوعاً جديداً من العلاقات بين الاجنحة السياسية المختلفة سيظهر الى السطح في العهد الجديد من دون ان ننسى علاقة البرلمان بالرئيس الجديد استناداً الى طبيعة القوى التي تتواجد تحت قبته بسيطرة نسبية للمحافظين انصار نوري. واخيراً فان مرحلة ما بعد الرئيس رفسنجاني ستكون في رأي البعض ممن يجدون انفسهم وثيقي الصلة ببيت المرشد خامنئي ستكون مرحلة رفسنجاني نفسه الذي كان في الرئاسة قبل ان يترك موقعه في البرلمان، وما على الرئيس الجديد الا الاستمرار في نهج الاصلاح في وقت يعتقد محللون بأن فترة الرئاسة الجديدة ستمنح دعاة التغيير فرصاً اضافية للنهوض... لكن في اطار الولي الفقيه الذي هو المنتصر الوحيد في جميع الانتخابات التي تجرى في ايران