قبل أشهر أدركت سورية الموجودة في لبنان والفاعلة الوحيدة فيه ان استمرار الصراع بين الموالين والمعارضين سينعكس سلباً عليها وعليه في آن واحد لأسباب عدة أبرزها الآتي: 1 - أدى الصراع إلى إثارة الحساسيات الطائفية والمذهبية في البلاد، الأمر الذي يهدد بزعزعة الاستقرار السياسي والأمني القائم منذ اتفاق الطائف، وكذلك الحد الأدنى من التوازن في التركيبة السياسية. وقد برز ذلك في صورة واضحة من خلال الصراع الحاد الذي نشب بين الحكم ممثلاً برئيس الجمهورية العماد إميل لحود والرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري الذي عبأ معظم ابناء الطائفة السنّية التي ينتمي اليها. إذ اعتبروا ان الهدف الأساسي الأول هو تهميش هذه الطائفة أو تقليص دورها في السياسة اللبنانية بغض النظر عما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا. وقد عبروا عن ذلك بأكثر من طريقة كان أبرزها اتهام الحكم بالسيطرة على مجلس الوزراء الذي يشكل السلطة التنفيذية وبالحكم من خلالها واتهام رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص بالتحول اداة طيعة له. وبرز ذلك أيضاً في صورة واضحة اثناء الصراع الحاد الذي نشب بين الحكم نفسه والزعيم الدرزي الابرز النائب وليد جنبلاط، خصوصاً عندما نجح الأخير في استقطاب الغالبية في الطائفة الدرزية، علماً أنه اساساً لا يشكو من قلة تمثيله لهذه الطائفة. وبرز ذلك أيضاً في صورة واضحة عندما شعرت المراجع المسيحية الاساسية بالقلق من طريقة تصرف الحكم ومن سياساته، إذ خشيت ان تنعكس سلباً على الدور المسيحي في البلاد وتدفع المسلمين، على تنوع مذاهبهم، إلى توحيد المواقف من المسيحيين لا بل الى التكتل ضدهم . 2 - وصول عملية السلام، خصوصاً على المسارين السوري واللبناني، إلى منعطف بالغ الخطورة لأسباب عدة: أولها اصرار سورية على استئناف المفاوضات مع اسرائيل من النقطة التي توقفت عندها في شباط فبراير 1996، وثانيها رفض اسرائيل هذا الأمر، لا بل انكارها له، واعتقادها بأن الظروف الداخلية السورية تجعل سورية في حاجة الى السلام اكثر من أي وقت مضى وتالياً مستعدة لتقديم تنازلات لم تكن تقبلها في الماضي، وثالثها رفض سورية محاولة الابتزاز الاسرائيلية هذه، ورابعها عدم استعداد الولاياتالمتحدة لممارسة دور الوسيط النزيه والشريك الكامل في المفاوضات وتفضيلها الانحياز الى موقف اسرائيل. أما خامس الأسباب وآخرها وربما اخطرها فهو محاولة اسرائيل استعمال لبنان ساحة للضغط على سورية، عن طريق استخدام موضوع الاحتلال الاسرائيلي لأجزاء من الجنوب والبقاع الغربي، إذ وعد باراك قبل انتخابه رئيساً للحكومة بسحب جيشه من لبنان بعد الخسائر الجسيمة التي تعرض لها على يد المقاومة وتحديداً الاسلامية. وأكد مراراً بعد تسلمه السلطة عزمه على تنفيذ الانسحاب قبل تموز يوليو المقبل كحد اقصى، وراح يعبئ اللبنانيين ضد سورية متهماً إياها مباشرة أو مداورة بعرقلة الانسحاب من ارضهم المحتلة، كما راح يعبئ العرب ضد لبنان الرسمي وسورية لأنهما يتمسكان بالاحتلال. كما راح يعبئ المجتمع الدولي ضد سورية لأنها تستعمل لبنان ساحة لتحقيق اهدافها ومطالبها غير عابئة بمصالحه واهدافه. وقد ادى ادراك سورية الواقع الصعب والخطير لهذا المشروع إلى ممارستها ضغطاً على الموالين والمعارضين معاً، وكذلك الى الضغط على حلفاء أساسيين لها ساهموا في ايصال العهد الحالي واستاؤوا من سلوكه حيالهم، وذلك من أجل تخفيف حدة الصراع، لأن من شأنه زعزعة الاستقرارين السياسي والامني الهشين اساساً ولأن من شأنه أيضاً جعل الورقة اللبنانية صالحة لنجاح محاولة الضغط الاسرائيلية على سورية ولبنان لتقديم التنازلات المطلوبة منهما. وأثمر هذا الضغط، وان بعد أشهر طويلة، ليبدأ حوار بين الرئيس اميل لحود ووليد جنبلاط ثم الرئيس رفيق الحريري يفترض ان يستمر. وكانت نقطة انطلاقه ان لحود هو رئيس الجميع والحكم بين الجميع، وان المصلحة تقتضي من المعارضين التمييز بينه وبين الحكومة ومن الموالين عدم التستر به والافادة من رصيده الكبير. وأعقب الجولات الأولى لهذا الحوار موقف لرئيس الجمهورية في رسالته لمناسبة ذكرى الاستقلال، أكد نجاح المساعي السورية، إذ دعا إلى تعاون الجميع من أجل لبنان في هذه المرحلة الصعبة وبتوزيع عادل للمسؤوليات عما اصاب البلد. علماً انه كان يحصر في الماضي هذه المسؤوليات بالعهد الماضي وحكوماته، خصوصاً تلك التي ترأسها الحريري. وارتاحت الأجواء السياسية في البلاد تبعاً لذلك، على رغم انزعاج الحكومة ورئيسها مما حصل لاعتقادهما بخسارة دعم ضروري للاستمرار ولمواجهة المعارضين. وانشغلت الاوساط السياسية بقانون الانتخاب . إلا أن هذا الارتياح شابه بعض القلق عندما استغل نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر مهرجاناً شعبياً ضخماً اقامه في ساحل المتن الشمالي لمناسبة مرور سنة على انتخاب اميل لحود رئيساً للجمهورية لشن حملة شرسة على المعارضين، خصوصاً معارضيه في المتن، وأبرزهم النائب نسيب لحود والنائب والوزير السابق ميشال سماحة. وحضر هذا المهرجان نجل الرئيس لحود وشقيقه. ومبعث القلق عبرت عنه تساؤلات عدة، منها: هل كان يمكن للمر ان يدعو إلى احتفال في ذكرى انتخاب لحود لشن هجوم على معارضيه من دون موافقة رئيس الجمهورية أو على الأقل من دون ممانعته؟ وهل قرر رئيس الجمهورية الاستمرار في صراعه مع المعارضين، وهل ينعكس ذلك سلباً على الحوار بينه وبين جنبلاط أو الحريري، أم ان القصة "متنية" فقط وهدفها تصفية حسابات سياسية عائلية وتحضير الأجواء لمعركة انتخابية ضد النائب لحود يخوضها نجل الرئيس؟ هل هذا القلق في محله؟ إنه كذلك تجيب المصادر. لكنها تعتقد بأن سورية التي فرضت الهدوء بين الموالين والمعارضين لن تسمح للخرق "المتني" بالتأثير سلباً على مناخ التهدئة الذي اقتضى منها شهوراً من الجهود وذلك يعني انها ستبقى حريصة على الا يعود الصراع الى الدوائر الاخرى المعروفة وهي قادرة على ترجمة حرصها هذا على نحو عملي على رغم كل ما يقال ويشاع . كما انها ستحاول تهدئة الجبهة المتنية بعد "التعادل" الذي حصل برد نسيب لحود القاسي على المر. علماً انها لم تكن مرتاحة كثيراً إلى تصرف المر لاقتناعها بأن هذا التصرف يسيء إليه وإلى مصالحه أكثر مما يسيء الى خصومه