جلس الوالد مع ولده في بيت طيني لا يقيهم برداً ولا حراً وسط مدينة جلال آباد شرق افغانستان يتجاذبان أطراف الحديث الذي ملأ الدنيا الأفغانية وشغل ساكنيها هذه الأيام، وذلك في شأن العقوبات الاقتصادية المفروضة على حركة طالبان الأفغانية لرفضها تسليم اسامة بن لادن الى واشنطن التي تتهمه بالضلوع في نسف السفارتين الأميركيتين في دار السلام ونيروبي العام الماضي وهو ما ينفيه ابن لادن. قال الولد لابنه: "لماذا نحتفظ بهذا الرجل، يعني اسامة، ما دام العالم كله ضده، وعلاوة على ذلك يكلفنا من المتاعب والمصائب ما لا نطيق، ونحن دولة فقيرة ضعيفة بحاجة الى دعم كل دولة في العالم لنتخطى ما نعانيه؟" فحدّق الرجل المسن في وجه ولده وقال: "يا بني نحن لدينا أهم ورقتين نلعب بهما دولياً هما ورقة اسامة بن لادن، والمخدرات". ويتقاطع ذلك مع تصريحات لمصادر مقربة من طالبان وبن لادن تحدثت الى "الوسط" بعد عودتها من قندهار معقل الحركة، فأكدت ان "ابن لادن بنظر طالبان والكثيرين من المؤيدين لهم "لغم نووي" تستطيع الحركة استخدامه عندما تشاء". وقد أجرت بعض الأطراف المعنية استطلاعاً على مسألة تسليم ابن لادن أو إبعاده وسط شرائح افغانية مثقفة وسياسية وعسكرية وحزبية فأيدت الغالبية قرار طالبان عدم تسليمه "حفاظاً على سمعة افغانستان الدولية ومكانتها". ويستبعد كثيرون أن يحصل تأثير كبير للعقوبات الاقتصادية على "طالبان"، فهذه العقوبات تم حصرها حتى الآن في تجميد الأرصدة المصرفية للحركة وقادتها، الى جانب وقف الرحلات الجوية لشركة الخطوط الجوية الافغانية "أريانا" الى خارج البلاد. أما الاقتصاد الأفغاني، فهو منذ أكثر من عقدين اقتصاد حرب لا علاقة له بالاقتصاد المستقر الذي يمكن أن يتضرر بفعل العقوبات، انه اقتصاد طوارئ اعتاد على هذه الوضعية غير الطبيعية والطارئة، اضافة الى كونه يعتمد على التهريب من الدول المجاورة واليها، وينبغي التذكير بأن حجم التبادل التجاري السنوي بين افغانستان والعالم الخارجي لا يتعدى 14 مليون دولار أميركي، وهو ما يعزز من ضآلة تأثير العقوبات. وتحصل طالبان على دعم ومساندة قوية من قبل الجماعات الاسلامية الباكستانية التي أكد قادتها في أحاديث مع "الوسط" انها لن تلتزم سياسة العقوبات الاقتصادية المفروضة على افغانستان. وشدد زعيم الجماعة الاسلامية الباكستانية القاضي حسين أحمد على انه لن يلتزم سياسة الحصار وسيرسل سبع شاحنات محملة بالمواد الغذائية والأساسية للشعب الأفغاني، ودعا الشعوب الاسلامية الى كسر الحصار على افغانستان. كما تعهد زعيما جمعية علماء الاسلام مولانا فضل الرحمن ومولانا سميع الحق الأمر نفسه. ومعلوم ان الزعيمين مقربان من "طالبان"، ويرفدانها بالعنصر البشري القتالي والتثقيفي، كونهما يمتلكان شبكة قوية من المدارس الدينية التي تخرّخ المقاتلين والمناصرين للحركة. ولا يستبعد ديبلوماسيون غربيون ان تدفع العقوبات الحركة الى مزيد من التشدد والعزلة، واتخاذ قرارات قد تكون متعارضة مع المصلحة الأميركية، في حال لمست تأثير العقوبات أو في حال فرضت واشنطن عقوبات جديدة فتسمح لابن لادن بالتحرك والحديث الى الصحافة كنوع من التهديد وإشهار السلاح. سلاح المخدرات حسب تقرير الأممالمتحدة للعام 1999 فإن افغانستان انتجت ثلاثة أضعاف الانتاج العالمي من المخدرات وقد بلغ حجمه 4600 ماتريك طن من المخدرات، إذ ارتفع حجم الأراضي المزروعة تحت سيطرة طالبان الى نسبة 96 في المئة، وتقوم الحركة بجباية الضرائب من المواطنين على زراعة المخدرات بنسبة 20 في المئة من المبيعات. ويظهر أن سلاح المخدرات هو الذي دفع الحركة الى الاستقلالية في قراراتها ومواقفها، بعدما استغنت عن الآخرين، ولذا فالوضع الجديد يؤشر الى متاعب ربما تواجهها السياسة الأميركية في المنطقة، فالحركة وطدت علاقاتها الاقتصادية، ومتنت علاقاتها مع الأحزاب الاسلامية الباكستانية بجميع ألوانها السياسية، وعمدت الى نسج العلاقات مع دول وسط آسيا وكذلك مع المسلمين في الصين، ولعل هذا ما يفسر وقوف الصين الى جانب قرار الأممالمتحدة، فبكين تتهم الحركة بتدريب المقاتلين المسلمين وتسليحهم في الصين من أجل خلق اضطرابات في مناطق تركستان الشرقية. وكان رئيس لجنة مكافحة المخدرات الأفغانية مولوي عبدالحميد أخند أعلن عقب فرض الحصار أن المضطر يستطيع أن يأكل الميتة، والشعب الأفغاني في فاقة وحاجة ولذا فهو يسعى الى زراعة المخدرات"، الأمر الذي يعني تهديداً مبطناً بالسماح بذلك، بل والتلويح بتكثيف الزراعة لا سيما في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها الحركة. ولا شك في ان الحصار الاقتصادي على طالبان سيلقي بظلاله وتداعياته على باكستان أكثر من افغانستان، كون الأخيرة متعودة على الظروف الاستثنائية طوال السنوات الماضية، وما يزيد من المخاوف هو حصول هجرات افغانية معاكسة من افغانستان الى باكستان بسبب العقوبات التي تتخطى تأثيراتها النفسية التأثيرات الفعلية والواقعية بأشواط. ويبدي منسق نشاطات الاغاثة الدولية في الأممالمتحدة أحمد فرح في تصريح الى "الوسط" مخاوفه من هذا الأمر ويقول ان استمرار العقوبات قد يدفع الشعب الأفغاني الى القيام بهجرة معاكسة الى باكستان الأمر الذي سيرهق الأخيرة. وسيشمل التأثير التنافس المحموم وغير الشرعي بين التجار الباكستانيين والأفغان الذي اندلع حتى قبل العقوبات، فكيف بعدها؟. ويتخوف بعضهم من أن يؤدي إقدام الحكومة الباكستانية على اغلاق الحدود مع افغانسان الى حصول اضطرابات اجتماعية وسياسية بسبب التشاطر العرقي والحدودي الذي يصل الى 2500 كلم بين البلدين، فضلاً عن التعاطف الشعبي الباكستاني اللامحدود مع طالبان. ولا شك في أن باكستان في وضع حرج، فهي بين مطرقة العقوبات الدولية التي ينبغي ان تطبقها على الحركة وسندان الواقع الباكستاني المعقد المؤيد للحركة، بل واحتمال خسارتها طالبان التي استثمرت فيها طوال السنوات الماضية، فتفقد العمق الاستراتيجي التي طالما حلمت به في مواجهة العدوة التقليدية الهند. وما يقلق الأوساط السياسية والرسمية الباكستانية التي تفضل حجب هوياتها هو المؤتمر الذي دعا اليه الملك الأفغاني السابق ظاهر شاه في روما وحضره العشرات من الشخصيات الأفغانية السياسية والقبائلية والتكنوقراط وذلك من أجل تشكيل مجلس "لويا جركا" مجلس وطني للخروج بالبلاد من المآزق التي تعانيها. واللافت ان الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان دعم هذا المؤتمر، وارسلت الأممالمتحدة ودول عدة مندوبين اليه بيد أن باكستان لم تفعل ذلك. وتدرك الأخيرة ان فترة حكم ظاهر شاه 1933-1973 لم تكن مريحة للسياسة الباكستانية كونه أيّد الهند في صراعها مع باكستان، ولعل الطواقم التي تعمل مع ظاهر شاه يحمل معظمها أي تعاطف مع السياسة الباكستانية بل يحملها مسؤولية الدمار الذي لحق بافغانستان في اعقاب سقوط الشيوعية فيها في العام 1992. ويبدو أن واشنطن لم تعد تراهن على المعارضة الأفغانية بزعامة أحمد شاه مسعود لمواجهة طالبان واقصائها عن الساحة السياسية الأفغانية، ولذا بدأت تعمل على دعم خيار الملك الأفغاني السابق، ولعل هذا ما يفسر غضب زعيم طالبان الملا محمد عمر من اجتماع روما الذي سماه بالاسم على غير عادته، في مهاجمة خصومه، ووصفه بحفنة من المرتزقة مدعومين من الخارج والأجانب. سيناريو جديد للمنطقة ويرى الكثير من المراقبين ان المنطقة بحاجة الى رسم جديد لخارطتها السياسية من المنظور الأميركي، ولا سيما بعد الانقلاب العسكري الباكستاني الذي لم يكن حسب ما تريده الريح الأميركية، ولذا فإن العقوبات الاقتصادية على طالبان، وتعليق عضوية باكستان في رابطة الكومنولث، وتقوية الروابط العسكرية الأميركية - الهندية وكذلك روابط الأخيرة مع اسرائيل، ناهيك بتصريحات المسؤولين الأميركيين عن ضرورة وجود نظام أمني لمنطقة جنوب آسيا يشير الى وجود سيناريو غربي في هذا الصدد. لكن الى أي مدى تستطيع الاستراتيجية الباكستانية أن تتماشى مع المنظور الأميركي في المنطقة خصوصاً أن القادة العسكريين الباكستانيين معروفون بتشددهم في المسائل الأمنية والاستراتيجية