من الواضح أن الغروب يلف الرواد الأوائل، رواد حركة الشعر الحديث بالصمت أو بالموت أو باستنفاد الطاقة والتكرار. ولكن الزخم الإبداعي الشعري لا يزال في أوجه، على الرغم من الصراعات حول بعض المفاهيم، وعلى الرغم من صراخ الأجيال الجديدة، ودعواهم، التي لم تنضج بعد، من خلال طرحهم لما يسمى ب "قصيدة النثر". إذا كان الرواد يغيبون، فإن جيل شعراء السيتنات قد خلفهم، وها هي اللوحة الشعرية تضج بالغزارة والكثافة. ولنقرأ معاً هذه الاعمال الشعرية الكاملة التي تصدر في مصر والعراق والشام، لنعرف ان جسد الحركة الشعرية بعافية. ولنتذكّر أنّه منذ فترة قصيرة - على سبيل المثال - صدرت الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد عفيفي مطر عن "دار الشروق"، واستقبلت بفتور وصمت مريب. الكلام نفسه ينطبق على سائر شعراء الستينات في مصر: وفاروق شوشة وحسن توفيق واحمد سويلم وملك عبدالعزيز... ناهيك بشعراء مثل العراقي علي جعفر العلاق وغيرهم. هناك نوع من التجاهل لصدور كثير من الاعمال الشعريّة، ما يوحي بأن حصاراً مضروباً حول حركة الشعر، بل إنني اقول إن الشعر يتعرض لمحاولات الاغتيال، ولا يموت من تلقاء نفسه. إن الشعر يواجه حصاراً تكنولوجيا وإعلاميا على مستوى العالم. ولا أحب ان احصر الاتهام في تقصير النقاد، لكن اجهزة الأعلام، والتلفزيون خصوصاً، تتخذ موقفا سلبياً جداً من الشعر. أما الادعاء بأن العصر اصبح عصر الرواية، لا عصر الشعر، فأعتقد أنّه باطل ويثير عدد من أسئلة الاستفهام. هناك خلل في الواقع الثقافي، يتمثل في هذا التدفق الإبداعي لأجيال الستينات والسبعينات، وصولاً إلى الموجة الجديدة على رغم خلافنا معها. ومع هذا فإن هذا التدفق الابداعي يختنق فلا يصل الى الجمهور. الخلل ايضا يتمثل في إنصراف الجمهور عن لون من الشعر يروج له النقاد. أعتقد أن المرحلة الأخيرة من الحركة الشعرية التي يمثلها شعراء التسعينات، تتحمل مسؤولية كبيرة في تمزيق الاستجابة لدى الجمهور لأنهم اصابوا هذا الجمهور بصدمة بتخليهم كلية عن الايقاع الذي اتصور انه روح الشعر. ولم يتخلوا فقط عن الايقاع، بل تخلوا عن جوهر القضايا التي جعلت من الشعر طوال تاريخه فناً متفجراً بالحيوية والحماس والجاذبية. فاللغة القبيحة، واختزال الشعرية في عنصر واحد، وتجاهل الواقع، والعزلة داخل سراديب النفس، والاسترسال في الفجاجة، كل هذا أصاب الجمهور بالاحباط، فنشأت حالة من الصدود والجفاء، بين الجمهور وهذا اللون من الشعر. ولا اعتقد ان ذوق الجمهور قد فسد، ولا اعتقد ايضا انه انصرف كلية عن الشعر، وإنما هناك وسطاء غير نزيهين يحاولون إخراج الشعر من المعادلة الثقافية.