لا اعلم كم كنت استطيع الوقوف امام "طوبيا والملاك" من دون ان اكتفي. لوحة اندريا دل فيروكيو مفعمة بالحركة والشفافية والخفة كأن لا ثقل فيها الا ثنيات ملابس الاثنين. كان الفنانون في فلورنسا في اواخر القرن الخامس عشر يغمسون الأقمشة في الطين او الجبس ويتركونها تجف قبل ان يرسموها. لكن الضوء والانسياب في ثياب طوبيا والملاك تبدو على درجة كافية من الخفة التي تجعلهما قادرين على الخروج من اللوحة وترك السهول والانهار والسماء في الخلفية البعيدة. العالم صغير، والشاب والملاك الذي ينصحه كيف يشفي اباه الأعمى يسيطران على اللوحة، ويبديان كأنهما لا يدوسان الارض بل يعبرانها برشاقة آسرة. حتى الكلب الأبيض الأجعد الشعر الذي يعتقد ان تلميذ دل فيركيو، ليوناردو دافنشي، رسمه يبدو شبحاً نبحث عنه جيداً قبل ان نتبينه، حتى اننا نستطيع رؤية الأرض تحته لشدة رهافة الريشة في رسمه. ربما كان كل ذلك يختصر في التفاؤل. ثمة نورانية وبهجة في لوحة احد ابرز فناني "فلورنسا النهضة" في اواخر القرن الخامس عشر الذين تخصهم ناشينال غاليري بمعرض يستمر حتى السادس عشر من كانون الثاني يناير 2000. كان الجيل الثالث من عائلة دي ميديتشي لورنزو يسيطر على المدينة التي وزنت الثروة والجاه لا بعدد القصور بل ايضاً بما فيها من اعمال فنية. في المعرض لوحات ورسوم ومنحوتات ومشغولات يدوية، وبعض فنانيه جمع اكثر من فن واكثرهم تنوعاً انطونيو دل بولايولو الذي كان صائغاً ونحاتاً ورساماً وحفاراً. استشهاد القديس سيباستيان "لدل بولايولو لا تركز على الضحية الشاب الذي لا تبدو اي معاناة على وجهه على رغم السهام المزروعة في صدره، بل على الرماة الستة الذين وقفوا في اوضاع مختلفة كأنهم يمثلون شخصاً واحداً ننظر اليه من جهات عدة كما لو كان منحوتة. لا يجرد الفنان موضوعه من الدنيوية بل يرسم جسداً متناسقاً شاباً، وهو ايضاً يعطي الاولوية للانسان الذي يتوزع بانسجام بين يمين اللوحة ويسارها واعلاها واسفلها ليترك الخلفية الطبيعية بعيدة على رغم الاهتمام الكبير برسم بحرها ومرتفعاتها واشجارها. انطونيو وشقيقه بييرو كانا رائدين في الرسم بالزيت واستطاعا تكثيف اللون وتخفيفه بطريقة غير مسبوقة في ايطاليا. لم تكن غرف النوم في فلورنسا في ذلك الوقت حيزاً حميماً، بل كانت غرف استقبال ايضاً تعلق فيها دائماً اللوحات الدينية. اللون الذهبي في هذه يبدو ناتئاً على رغم مرور خمسة قرون عليها، وهي خلت من الورع والتقوى الا في ما يتعلق بامرأة، مريم العذراء. فيليبينو ليبي يرسمها في "العذراء والطفل مع الراهب والقديس انطوني" جالسة على الغيوم لكن ثنيات ردائها عمودية طويلة توحي بوقوفها لكن رجليها وحدهما في وضع الجلوس. لوحة "مادونا رامسكين تعبد الطفل" تنسب الى دومينيكو غيرلانداو الشاب ويلفت التعبير المختلف فيها، اذ رسم الطفل والخلفية كلها بلون شاحب فيما لونت العذراء وحدها بألوانها الكلاسيكية كأنها تستأثر بطاقة اللوحة. ساندرو بوتيتشيلي وازن في "فينوس ومارس" بين عري الشاب وغيابه والحشمة الموحية لآلهة الحب التي يسحرني وجهها اكثر من الموناليزا بكثير. إله الحب متعب من الحب وهي شاردة بوجهها الغامض الكتوم وعينيها اللتين تكثفت فيهما رغبة لم تطفأ، ثيابها الشفافة تجمعت بانسياب خفيف لتستر الجسد في حين تكتلت قطعة القماش على جسده في شكل هندسي مجسّم. الصحف ركّزت على "اكتشاف هولوفيرنيس الميت" وكم كنت ممتنة عندما وجدتها صغيرة يقل طولها عن ثلاثين سنتيمترا. جوديث الاسرائيلية الجميلة خلّصت بلادها من الغزو الآشوري عندما قطعت رأس القائد الشاب وتركت جسده المفعم حيوية وقوة في السرير. لا تكمن البشاعة فقط في منظر الرقبة المفصولة تماماً عن الرأس، والدم، بل ايضاً في غياب الرأس وحرمان هذا الجسد الصلب هويته. فنانو فلورنسا في نهاية القرن الخامس عشر فتنوا بجوديث وديفيد ووجهوا رسالة. نعم للفضيلة والتواضع ضد الغطرسة والقوة الجامحة.