إذا كان فن «البورتريه» ازدهر خصوصاً في الشمال الأوروبي (هولندا في شكل أكثر خصوصية) مع الأهمية الزائدة التي راح يتخذها الإنسان (مع صعود البورجوازية التجارية والانشقاق البروتستانتي كتعبير عنها) كفرد وكروح، فإن كثراً من رسامي عصر النهضة الايطاليين، لم يفتهم أن يجربوا حظهم في ذلك النوع من الفن. وكان ذلك، خصوصاً، خلال القرن الخامس عشر، حين حدث في ايطاليا ومدنها الكبرى مثل فلورنسا والبندقية وجنوى، ان بدأت تنمو - هنا أيضاً - بورجوازية مركانتيلية تتحلق من حول أمراء راحوا يشجعون الفنون والآداب التي تعبّر عن انسانية الانسان وتدعو الى اعطائه قيمته في الكون والمجتمع، ازاء فنون وآداب كانت لا تزال متمسكة بالدور الكنسي - السماوي لكل تعبير فني. ولئن كان التجريب في هذا المجال وصل خلال الثلث الأول من ذلك القرن الى مجال لم يكن له سابق في التاريخ، فإن الرسام مازاشيو، كان صاحب الخطوة الأولى بالنسبة الى المؤرخين، حيث اعتبر من أوائل الرسامين الذين جعلوا «البورتريه» ليس مجرد نقل لملامح الشخص المرسوم وتعبيره الخارجي في اللحظة التي يرسم فيها، بل أيضاً تعبيراً عن الروح الداخلية للشخص المرسوم وأيضاً للفنان الذي يرسمه، بحيث بات يجوز في ذلك الحين الحديث وربما للمرة الأولى عن «لعبة المرايا» التي ستكون جزءاً من التعبير الفني في العصور اللاحقة. ولأن مازاشيو كانت له هذه الأهمية وهذه الريادة، حدث أن نسبت اليه أعمال كثيرة تبيّن لاحقاً أنها ليست له. ومن هذه الأعمال لوحة «بورتريه شاب» التي لم يتجاوز ارتفاعها ال38 سم وعرضها ال28 سم، ومع هذا تعتبر في تاريخ الفن عملاً من أهم الأعمال في مجال رسم البورتريه، من ناحية بسبب التعبير الداخلي الذي حمله وجه الشاب المرسوم فيها، ومن ناحية ثانية بفضل لعبة الظل والضوء التي هيمنت عليها، وكانت في ذلك الحين تعتبر من خصوصيات المعلمين الهولنديين الكبار، وشبه غائبة عن الفنون الايطالية التي كانت اعتادت الاحتفال باللون والمناخ. ولا بد من ان نذكر هنا ان لوحة «مازاشيو» هذه قلّدت كثيراً بعد ذلك ولسوف يكون بين «المقلدين» المفترضين هذه المرة، الرسام الكبير بوتيتشيللي الذي ما فتئ ان أعيد اليه اعتباره لاحقاً إذ اكتشف عالم الفن ان هذه اللوحة انما هي حقاً من رسمه، وأن اللوحات الأخرى له التي اعتبرت «تقليداً» لهذه، انما كانت في الأصل تنويعات على ابداعه الخاص! إذاً، فإن هذه اللوحة التي توجد الآن في «الناشينال غاليري» في لندن، والتي انبنى عليها جزء كبير من مجد مازاشيو، تبين قبل مئة عام (أي بعد 3 قرون من نسبتها الى مازاشيو) انها في الحقيقة من إبداع ساندرو بوتيتشيللي، ذلك الرسام النهضوي الذي كان اشتهر خصوصاً بلوحتين من أعماله الأساسية هما «الربيع» و «مارس وفينوس»، وكانت هاتان اللوحتان كافيتين لوسمه بنوع من «العلمانية» خارج اطار الرسم الديني، الذي كان هو أحد المجلين فيه. والحال انه منذ اكتشاف كون بوتيتشيللي صاحب هذه «البورتريه» المنسوبة خطأً الى سلف له، تبدلت النظرة اليه جدياً. إذ، حتى في أعمال مثل «الربيع» و «مارس وفينوس» كان يُنظر الى هذا الفنان باعتباره «لا يزال يعبّر عن أجواء وأساطير ومواضيع معهودة، يستخدم فيها تقنيات تعتمد الخطوط الخارجية لترسم أجواء وحركة». صحيح انه في بعض لوحاته الكبيرة، كان قادراً، كما في صورة للقديس بارنابا، على رسم تعبير الوجوه في شكل جيد، غير ان هذا التعبير كان يتخذ جزءاً من قيمته من تصويره لحال نفسية معروفة، كما من موقع الوجه في اللوحة الجماعية. في «بورتريه شاب» تبدلت الأمور: صار التعبير هنا إنسانياً صرفاً يعكس روح الشاب من الداخل، كما يعكس - وهو ما أشرنا اليه أعلاه - نفسية الفنان وروحه وهو يرسم. إذاً، بعدما كان بوتيتشيللي يُعتبر، حين يقارن بمازاشيو أو بليوناردو، سابقيه أو معاصريه في شكل أو بآخر، فائق التقنية، وكان يقال دائماً ان تقنيته العالية تنتمي الى المهارة التقنية، لكنها لا تعطيه بعد الحداثة التي كانت ارتبطت بمازاشيو أو بليوناردو أو حتى بجيوفاني بلليني، تبدلت سمعته مع «بورتريه شاب». مع هذه اللوحة سرعان ما صار بوتيتشيللي رائداً من رواد الحداثة، ورسام بعد انساني من طراز رفيع. وإذ، على ضوء هذه اللوحة وإنجاز بوتيتشيللي فيها، أعيد النظر في أعمال هذا الفنان، راح الباحثون «يكتشفون» البعد الانساني العميق حتى في اللوحات الدينية وفي المشاهد الاسطورية التي راحت مذّاك وصاعداً، تُدرس جزءاً جزءاً. أما بالنسبة الى «بورتريه شاب»، فإن ما أدهش الباحثين هو تلك النظرة التي يبدو فيها الشاب وكأنه ينظر الينا، بقدر ما ينظر الى بوتيتشيللي، جاعلاً في الوقت نفسه حضور الرسام محسوساً، ولكن أيضاً حضورنا نحن أيضاً كمتفرجين وكجزء من اللوحة نفسها. ولعل من الأمور اللافتة التي لاحظها الباحثون في اللوحة هو أن النور يبدو فيها وكأنه سابق الوجود على الشكل المرسوم نفسه: يبدو الشكل بألوانه الغامقة وكأنه دخل متطفلاً على نور أبدي وليس العكس. ومن هنا، حين يدور الحديث على هذه اللوحة يقال عادة انها من الأعمال القليلة التي يتشكّل فيها النسيج واللون، الشكل والضوء، والروح والجسد في كل واحد، اضافة الى ذلك الامتزاج التام فيها بين روح الرسام وروح المرسوم وروح المشاهد، ما يعني ان هذه اللوحة الصغيرة وصلت الى ما قد يعتبره كثيرون جوهر رسالة الفن الحقيقية في بعدها الانساني الصرف. ساندرو بوتيتشيللي، الذي قلبت هذه اللوحة موازين النظر اليه، لا يعرف عنه مؤرخو الفن أشياء كثيرة، خصوصاً أن عدداً كبيراً من معاصريه كانوا يتجاهلون الحديث عنه لأسباب يحيط بها بعض الغموض. ومع هذا يعرف انه ولد في فلورنسا في إيطاليا في العام 1444، وأن والده، منذ شبّ عن الطوق، ألحقه بمحترف جوهرجي، لكي يتعلم هذه الحرفة. لكن الفتى لم يرق له هذا العمل كثيراً، كما يبدو، إذ نراه سرعان ما يترك الجوهرجي ليلتحق بمحترف واحد من أشهر الفنانين الرسامين في ذلك الحين، فرا فليبوليبي، الذي كان مشهوراً بلوحاته التي كان يتفنن فيها برسم السيدة العذراء. ويروى أن بوتيتشيللي (وكان اسمه الأصلي ماريانو فيليبيبي، أما «بوتيتشيللي» فلقب أسبغ عليه ويعني «البرميل الصغير»)، كان سريع التعلّم بحيث ان استاذه صرفه بسرعة معتبراً أن ليس لديه ما يعلمه إياه. فتوجه الى محترف فنان آخر يدعى أنطونيو ديل بولايولو، علمه كيف يتقن حرفة الرسم واستخدام الألوان وفن المنظور. ولنذكر هنا أنه كان من حظ بوتيتشيللي انه عاش في زمن ازدهار الفنون الانسانية أيام المتنورين من أسرة مديستشي، وهكذا نجده التحق بالبلاط الفلورنسي بسرعة وصار متميزاً بين أبناء جيله. أو هكذا كانت النظرة اليه اعتباراً من العام 1472 على الأقل. وفي العام 1481 دعاه البابا الى روما لكي يساهم مع زملائه روسيللي وغيرلانديو وسينيوريللي في رسم جدران كنيسة سيستين وتزيينها. وهو بعد ذلك عاد الى فلورنسا وكله رغبة في تحقيق لوحات تبتعد عن المناخات الدينية بعض الشيء، فأنجز لوحتيه الأشهر «الربيع» و «مارس وفينوس». وكانت تلك الفترة التي لازم خلالها الراهب المشاكس سافونارولا، الذي مارس عليه تأثيراً كبيراً، أوقع بوتيتشيللي في الكثير من المشكلات، كما أوقعه في حزن كبير حين أُحرق الراهب بأمر الكنيسة، ما جعل فنه أكثر قلقاً واضطراباً، وأقرب الى الانسان. وبوتيتشيللي مات في مسقط رأسه فلورنسا في العام 1510 بائساً قلقاً ساخطاً. [email protected]