مر عام على تسلّم الرئيس اللبناني اميل لحود مهماته الدستورية. تبدو الفترة قصيرة بالنسبة الى الذين علقوا آمالاً كثيرة على العهد فتحقق البعض منها وتأجل الآخر. ولكن الفترة نفسها تبدو طويلة جداً على من وجدوا ملفاتهم مفتوحة أو سياساتهم معرضة نقد أو مواقعهم السابقة مهتزة. لقد وصل لحود الى الرئاسة محمولاً على موجة متشكلة من عنصرين: الأول هو نوع من الضجر الشعبي العام من ممارسات "الترويكا" وتقاسمها الحصص والمناصب. واعتقاد، بالتالي، ان تغيير ركن من أركانها يؤكد موتها ودفنها كما صرح قطب آخر فيها. اما العنصر الثاني فهو انحياز غالبية لبنانية كاسحة الى شخصه وذلك على رغم الغموض الذي يحيط به. فلقد أكدت استقصاءات الرأي العام ان شعبيته عالية لدى جميع الطوائف وفي جميع المناطق. وكان مصدر الاعجاب به نجاحه في إعادة بناء المؤسسة العسكرية والنأي بها عن أن تشكل مرتعاً للسياسيين. ولا شك أن صفات لحود التي جرى التركيز عليها من نوع النزاهة ونظافة الكف والوطنية والترفع والبعد عن الغرائز المذهبية لعبت دوراً في تقريبه من اللبنانيين وذلك في وقت بدوا فيه محتاجين الى معايير من هذا النوع ومعتقدين أنها تكفي علاجاً للمثالب التي برزت بعد اتفاق الطائف ومن جانب طبقة سياسية جديدة وقوية شرعت تتصرف وكأن لا حساب تؤديه. ما يمكن قوله بمناسبة "الشمعة الأولى" هو أن منسوب التأييد تراجع بعض الشيء. لا زال الرئيس محط ثقة الغالبية الشعبية والسياسية ولكن ثمة فتور ملحوظ قياساً بالحماسة التي أثارها خطاب القسم. ولعل هذا الفتور يبرز بالمقارنة مع حالة التعبئة التي يعيشها المعارضون الذين وان كانوا يسعون الى حوار الرئيس والاعتراض على الحكومة فانهم يفشلون في اخفاء ان مشكلتهم معه وليس مع غيره. ويمكن لأي مراقب محايد أن يلاحظ أن نفوذ رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري زاد في أوساط طائفته وكذلك الأمر بالنسبة الى الوزير السابق وليد جنبلاط. ويؤخذ على الاثنين أنهما عزفا على الأوتار كلها من أجل الدفاع عن مواقعهما، واستفادا، الى أقصى حد، من الذاكرة القصيرة. ولكن هذه المؤاخذة لا تغير المعطى السياسي القائل بأنهما قوتان يحسب لها حساب. اما رئيس المجلس النيابي نبيه بري فإنه اختار لعبته الخاصة. ادرك مبكراً أنه قد يكون مستهدفاً وأن أنصاره قد يتعرضون الى مساءلة في حال اتسعت الحملة ضد الفساد الاداري. لذا احنى الرأس أمام العاصفة في المرحلة الأولى ثم شرع ينهض شيئاً فشيئاً ليتحول الى حليف اضطراري للعهد والحكومة لا بل ليلعب، في أوقات حرجة، دور بيضة القبان. القوى السياسية المسيحية تبدو مرتبكة. فالشعور السائد في البيئة الشعبية هو أن شيئاً ما تغير وأن أسباب الشكوى السابقة من سوء تطبيق "اتفاق الطائف" تراجعت. ولكن هذا الشعور ينعكس، الى حد ما، في مواقف البطريرك صفير وحده الذي احتفظ بلهجته الانتقادية الأخلاقية وان كان خفف كثيراً من حدتها. التيار العوني شعر قبل سنة أنه مهدد. وقال أحد أقطابه ان "البذلة العسكرية" تغري هذا الجمهور وتسهل عليه الانحياز الى الجنرال - الرئيس بدلاً من الجنرال - باريس. ولقد حصل ذلك فعلاً. واضطر عون، درءاً لمزيد من الأخطار الى التمسك بخطابه المتشدد الرافض الاعتراف بالمتغيرات. وأدى ذلك الى تراخي قبضة الجنرال على أنصاره. ويؤكد الذين حضروا المؤتمر الأخير لطلاب هذا التيار ان "الزعيم" وجه نداء متصلباً من مقر اقامته لكن "الشباب" كانوا في واد آخر يبحثون عن سبل انخراطهم في الحياة السياسية بواقعية لا تلغي المبادئ العامة. وينطبق هذا التوصيف الى حد ما على "القوات اللبنانية". فلقد أتيح لها أن تشارك في الانتخابات البلدية بحرية ولكنها تشعر أنها تحت المراقبة. ولذا فإن فروعها الخارجية تحاول الاحتفاظ بالموقف الأصلي في حين أن قادتها "على الأرض" يبحثون عن صيغ تسوية تتيح لهم كسب مواقع يرفعون منها صوتهم. حزب الكتائب تمادى في تأييد العهد الجديد. ولكن المشاكل التي تخترقه تحتم التساؤل عن "الاضافة" التي يمكن له تقديمها. القوى السياسية الأخرى يتراوح موقفها بين "الدعم النقدي" حزب الله أو الدعم الانتقائي الحزبان الشيوعي والقومي. أما النقابات المهنية والعمالية الرئيسية فانها تشعر أن جو العداء الاستنفاري ضدها، كما كان الوضع في العهد السابق، ضعف ولذلك فهي ترد على ذلك بما يمكن تسميته "شطب البعد السياسي من مواقفها". ففي أيام الياس الهراوي - رفيق الحريري تحول الاتحاد العمالي العام الى مركز استقطاب نقابي - سياسي. وبدت الهيئات المهنية نقابات المهندسين والمحامين والأطباء... ملجأ لمعارضات جذرية. ولكن الحاصل اليوم هو أن الاتحاد العمالي يقصر مواقفه على القضايا الاجتماعية. وروابط الأساتذة تضرب من دون أن يكون ذلك موجهاً ضد النظام. والأطباء يتوقفون يوماً عن العمل احتجاجاً على قرار قضائي ومن غير المطالبة باسقاط الحكومة أو حتى تغيير الوزير. ومن أجل استكمال هذا الاستعراض لا بد من المرور على الحركات الشبابية والحياة الثقافية. فبالنسبة إلى الأولى، وهي حالة هلامية، يمكن القول إن العهد الجديد لم يستنفد قدرته على مخاطبتها واستمالتها. فلقد كان ذلك ممكناً عبر خفض سن الاقتراع مثلاً الى 18 سنة ولكنه لم يحصل. كما أنه كان ممكناً تعبئتها ضد الفساد وتجنيدها في المعركة عليه. والواضح ان التقصير، في هذا المجال، مسؤولية جماعية وان كان بعض الوزراء يتميز بامتلاك قدرة على تجاهل التطلب الشبابي. أما الحياة الثقافية فانها ما زالت تنتعش، على رغم كل ما عليها، خارج أي دعم كان يجب أن تتلقاه من "القطاع العام". ولكن برزت، في السنة الأخيرة، حالات نافرة من تدخل الرقابة ما حصل مع راقصي موريس بيجار مثلا فإن الأمر لا يصل الى حد الحديث عن قمع. وإذا جرى التسليم بأن قضية مارسيل خليفة هي أبرز ما عاشته الثقافة اللبنانية في الأشهر الأخيرة فإنه من الضروري الاشارة هنا الى ان الأجهزة الرسمية التزمت دورها الحيادي وان المسؤولين لم يترددوا في الانحياز الى الحرية على حساب التضييق. لقد اطلقت الحكومة الحالية حرية التظاهر واسقطت الدعاوى على النقابيين. ويمكن تسجيل ذلك في باب الانجازات. على أن أبرز هذه الانجازات هي الآتية: 1- صمود العملة الوطنية على رغم التغيير الوزاري، أو، بالأحرى، تغيير رئيس الوزراء. فالمعروف ان سعر الليرة ارتبط، ذهنياً، بوجود رفيق الحريري في السلطة. ولذلك فقد كان متوقعاً عند اعتذاره ان تعاقب الأسواق هذا التحول السياسي. لم يحصل شيء من هذا القبيل وهذا يسحب ورقة تهديد خطيرة. 2- مع أن تأخراً حصل في اصدار الموازنة فانها أقرت في النهاية متضمنة خفضاًبسيطاً لنسبة العجز المتوقعة. غير أن الأهم من ذلك هو اقرار رؤية خمسية للخروج من دوامة العجز والدين. وإذا كان هناك من يعتقد أن المضي في "توسيع الاقتصاد" كان هو الحل فإن الوصول الى منطقة الخطر لناحية نسبة الدين والعجز الى الناتج المحلي حال دون ذلك وقاد نحو سياسة تقشفية وانما اضطرارية وذلك على أمل إحداث توازن في الاقتصاد يمكن، بعده، تجديد تحريك العجلة عبر الانفاق العام والاستهلاك. ومع أن الرؤية الخمسية التي أقرت بعيدة بعض الشيء عن تلك التي وضعها خبراء فانها تبقى مرشداً للعمل الحكومي لا يجوز التقليل من أهميته. 3- لقد أطلق العهد الحالي حملة ضد الفساد ومن أجل الاصلاح الاداري. وعرفت هذه السياسة ب"فتح الملفات". وقبل أي حديث عنها يمكن القول انها أدت الى نتائج ايجابية لاحقة بمعنى أنها أوجدت مناخاً يحول دون "امتداد اليد" بسهولة الى المال العام وجعلت موظفي الدولة يشعرون أن هناك من يراقبهم. والنتيجة الفرعية لهذا الوضع بروز قدر من البيروقراطية والحذر ولكنه الثمن الذي لا بد من دفعه لاقفال الطريق أمام تحول الادارة الى مزرعة. ولكن ما لا بد من قوله في هذا المجال هو ان تخبطاً حصل في "فتح الملفات" وان نظرة تبسيطية تحكمت بالاصلاح الاداري. فعلى الصعيد الأول لم يضع القضاء يده على قضية نموذجية تقنع، ولم يصدر أحكاماً حاسمة وسريعة وقادرة على الدفاع عن نفسها في وجه تهمة التسييس. وعلى الصعيد الثاني وقعت مشكلتان. فمن جهة ازيح موظفون واستعيض عنهم بآخرين من ضمن الملاك. ولكن الاختيارات لم تكن موفقة لناحية تطعيم الادارة بدم جديد تحتاجه ولناحية توسيع قاعدة الحكم عبر إشعار فئات جديدة بأن أحداً يهتم بالسماح لها بدخول حيز الخدمة العامة. ومن جهة ثانية بدا واضحاً ان الاصلاح ارتطم بمواقع ثمة حاجة سياسية الى تحييدها فتوقف عندها. وبما أنه، تعريفاً، يكون شاملاً أي عادلاً وألا تحول الى انتقائي أي ظالم كان لا بد من أن يثير اعتراضات وجدت ان خيمة فوق رؤوس بعضهم تحميهم واستهدافاً لآخرين بنوع من الثأر. ولقد اضطرت الحكومة الى "هدنة" على هذا الصعيد. ولكن المعروف لدى الذين يقابلون الرئيس لحود انه "لا ينام على ضيم". ولذا فانهم يجزمون أنه سيعود الى هذا الملف في أول مناسبة، وربما بعد الانتخابات النيابية، من أجل المضي فيه الى الأمام حتى لو أدى الأمر الى اشكالات مع حلفاء. ويروون عنه أنه تعمد الموافقة على ازاحة مسؤول كبير أثناء زيارة أحد أقطاب السلطة له وذلك من أجل ابلاغ رسالة مؤداها بأن ما تقرره هيئات الرقابة الرسمية لا راد له. 4- لعل من أبرز انجازات العهد أنه طمأن السوريين الى "العلاقة الاستراتيجية" فلم يعودوا يقبلون استدراجهم المتكرر الى التدخل في كل صغيرة. وخطا العهد الجديد، في هذا المجال، خطوة كبيرة الى الأمام لا يمكن للمرء أن يتذكرها الا إذا تنبه الى عدد المرات التي زار فيها أقطاب الحكم السابق دمشق حاملين شكاوى ضد بعضهم بعضاً. لا شك أن تخويلاً للصلاحيات حصل بحيث ان "الوضع الداخلي" اللبناني بات مطالباً، أكثر من الماضي، بانتاج حلوله للمعضلات التي يواجهها في ما يخص علاقاته السياسية اليومية. والمقصود ب"العلاقة الاستراتيجية" هو القرارات الكبرى في ما يخص المفاوضات والتوجهات السياسية والاقتصادية والأمنية المركزية. وتحتل العلاقة مع المقاومة موقعاً استثنائياً في هذا المجال. والواضح ان الخطاب السياسي الرسمي تغير وكذلك السلوك العملي. ويشهد على ذلك طرفان متناقضان. فاسرائيل تعرف وتقول ان تطوراً حصل وان المؤسسات الرسمية اللبنانية ارتقت بعلاقتها مع "حزب الله". ووصل الأمر بتل أبيب حد التهديد بأنها ستضم الجيش اللبناني الى دائرة أهدافها المحتملة في حال جرى "الصعود درجة" في هذا المجال. والمقاومة نفسها تقر بأنها أشد اطمئناناً الى العهد الحالي منها الى السابق. فهي تعرف أن الهراوي لم يكن يكنّ لها عواطف جياشة. وهي تعلم ان الحريري كان يقدمها في العالم ك"شر لا بد منه". اما الثنائي لحود - الحص فيعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الخطة الاجمالية للتفاوض وركناً من أركان وحدة المسارين. يقود ما سبق الى التطرق الى موضوع شاءته بعض المعارضة "اتهاماً خطيراً" يوجه الى النظام الحالي: الأمركة. وفي رأي هذه المعارضة ان وصول لحود الى السلطة هو نتاج تسوية أميركية - سورية. وان الرجل يتظاهر بتأييد دمشق في انتظار ان ينقلب عليها في أول فرصة ضعف تعيشها. ويستند هذا الرأي الى ان الجيش كان في لبنان، وعلى الدوام، "مؤسسة اميركية" ولذا فإن القادم منه الى الرئاسة يمرر الوقت بانتظار ما سيكون. ويتناسى هؤلاء مجموعة من الحقائق لا بد من لفت الانظار اليها: أولاً - لقد لعبت سورية دوراً كبيراً في رعاية عملية التغيير التي حصلت في لبنان. ومن غير المستبعد أمام الخيارات التي كانت مطروحة أمامها ان تكون فضلت ذلك الذي يمثل خطراً لاحقاً. ثانياً - ان أمركة أي نظام لبناني في الظروف الحالية ليست واردة أصلاً لسبب بسيط: أميركا لا تريدها. فالهموم التي تواجه واشنطن في المنطقة لا تجعلها في وارد استفزاز سورية من أجل كسب الحكومة اللبنانية، وربما كان العكس هو الصحيح. فالتصورات الأميركية والأوروبية والفاتيكانية وحتى الاسرائيلية تجعل الخيار الأول هو تغليب العملية السلمية في المنطقة مع ما تعنيه من اعتراف ب"علاقات مميزة" بين بيروتودمشق. ثالثاً - ان السياسة الرسمية المعلنة والممارسة في لبنان لا تستعدي أميركا طبعاً لكنها لا تضبط خطواتها على إيقاعها. فمن الموقف حيال المقاومة، الى وحدة المسارين، الى المواقف المتشددة في موضوع حقوق الفلسطينيين، هذه كلها عناوين يتم طرحها بالتنسيق الوثيق مع دمشق ولو أدت الى إثارة حساسية واشنطن. رابعاً - تكون تهمة "الأمركة" مفهومة لو وجهها "حزب الله" مثلاً. غير أن الحزب يقول العكس تماماً. ولكنها غير مفهومة حين تصدر عن أوساط كانت متهمة بدورها بهذه التهمة. وحين تقول هذه الأوساط ان من أدلة "الأمركة" الرغبة في اضعاف حلفاء سورية في لبنان فانها تتناسى انه سبق لها أن خاضت، هي الأخرى، معارك ضد حلفاء آخرين لسورية وانتهى الأمر بأن فضلت سورية نفسها محوراً على آخر ولو أنها تدعو الى ضبط الخلاف الداخلي. ترتكز التهمة المشار اليها الى واحدة أخرى تقول ان انقلاباً حصل على "اتفاق الطائف" ومؤدى هذا الانقلاب عودة لنفوذ مسيحي لا يمكنه الا أن يكون أميركي الهوى. لا مجال لانكار ان الرئيس لحود يلعب دوراً في الحياة العامة أكثر من ذلك الذي لعبه الهراوي. ولكن هل يعني ذلك اننا أمام ارجحية طائفية تستعيد ما كان عليه الوضع قبل الطائف؟ من الواضح أن أول رافضي هذا الكلام هو الرئيس الحص نفسه وهو شخص غيور جداً على صلاحياته وسبق له أن واجه أوضاعاً صعبة من هذا النوع واستخلص منها ما يجب استخلاصه. فالحكومة، برئاسته، تلعب دورها وتمارس ما يسمح لها الدستور بممارسته. ويعترف المقربون من الحص بأن لحود أكثر حيوية من غيره ولكن ذلك لا يعني ان هذه الحيوية تأكل من الرصيد الدستوري لرئيس الوزراء. على العكس. ان درجة التفاهم كبيرة بين الرجلين بحيث ان حصافة الحص تتكامل مع حماسة لحود. ولعل الكلام عن "انقلاب" يصبح صحيحاً إذا كان المقصود به الانقلاب على تطبيق الطائف في أيام الهراوي - الحريري. فهذا التطبيق شهد تراجعاً مريعاً في هيبة الرئاسة الأولى وولد شعوراً بالاحباط لدى فئات من اللبنانيين. ومن المؤكد ان هذا الوضع الاستثنائي انتهى لمصلحة سلوك هو أقرب الى الطائف نصاً وروحاً. ولعل الغريب، في هذا المجال، ان أكثر المعارضين حديثاً عن "الانقلاب" هم الذين يصرون على محاورة لحود ويعلنون نيتهم "تجاهل الحص" وهو الأمر الذي يعني، عملياً، اطلاق رصاصة الرحمة على الميثاق الوطني الجديد الذي أنهى الحرب الأهلية. وفي استطراد ما تقدم من اشارات الى "الأمركة" و"الانقلاب" يقال ان سر الأمرين معاً هو في هذه "العسكرة" المتزايدة للنظام والتي تخدم، عملياً، الرئاسة الأولى. ويرد مقربون من العهد على هذه التهمة باعتبارها "هرطقة" ويشيرون الى أن كثرة الكلام الانتقادي عن العسكرة هو الدليل الأول على عدم وجودها اذ أن من طبيعة الأنظمة العسكرية أن تمنع تسميتها بهذا الاسم وان تحول دون ان تتعرض، يومياً، الى هجمات واسعة وجارحة في وسائل الاعلام. صحيح انه جرى تعيين عسكريين في مواقع جديدة. ولكن عددهم محدود جداً وهم يتولون مواقع ذات صلة بعملهم السابق الأمن العام، الجمارك، مديرية أمن الدولة. وصحيح ان عسكريين يحيطون بالرئيس ويتدخل بعض منهم في مجالات محددة. ولكن ذلك يحصل بحدود ومن دون خرق لأي قانون. ولا غرابة في ذلك طالما ان الرئيس القادم من هذه المؤسسة يملك فيها صداقات ومواقع ثقة تضطره الى الاستعانة بمن اختبرهم. وينتقل أصدقاء العهد من الدفاع الى الهجوم فيطرحون السؤال الآتي: هل ان الضباط المحيطين بالرئيس هم أكثر تدخلا في الحياة العامة من المستشارين الذين كانوا يحيطون برئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وبرجال الأعمال من أصدقائه علماً أن هؤلاء لم يكونوا يتقاضون رواتب رسمية ولم يكونوا معنيين بأداء أي حساب أمام "الدولة" التي تدفع لهم؟ تشكل هذه الاتهامات والردود عليها مادة الحياة اليومية في لبنان. وينظر اليها الجميع بصفتها الضريبة الواجب دفعها من أجل ممارسة حياة سياسية ديموقراطية. وهي وصلت في أحيان الى حد استحداث قطيعة، لكن تدخلات سورية وأصوات لبنانية عاقلة حالت دون ذلك فنجحت في فتح قنوات حوار وأعادت الصراع السياسي الى حجمه الحيوي وغير الصدامي. ولعل ما ساعد هذه الجهود اقتراب لبنان من استحقاق مهم هو كناية عن وضع قانون جديد للانتخابات. فهذا القانون قادر على المساهمة في تشكيل الحياة السياسية وفي رسم خريطة جديدة للقوى والتحالفات. وإذا كانت المطالب المتعلقة به متنوعة ومتناقضة فإن الرئيس لحود يصر على القول إن شرط قبوله أي قانون هو المساواة. وبما أن الحسم متوقع غداة انتهاء السنة الأولى للعهد الجديد فإنه، أكثر من غيره، سيسمح بالقول ما إذا كان الفريق الحاكم جاداً في تطبيق وعوده وفي نقل لبنان الى دولة مؤسسات وقانون يمكن، بناء عليها، احتمال كل الخلافات السياسية الممكنة من دون خوف السقوط، ثانية، في التجربة المرة السابقة. لم يتمتع الرئيس لحود ب"فترة السماح" التي كان متوقعاً له أن يحصل عليها. وبقيت سياساته وسياسات الحكومة محكومة بكونها انتقالية تريد تصفية إرث الماضي والتأسيس لما هو جديد. ولذا فإن المحاسبة التي يمكن لها أن تكون متسامحة في المرحلة السابقة لن تعود كذلك بعد إطفاء الشمعة الأولى.