اريك رولو، ثلاثة رجال في واحد: الصحافي اللامع، الذي عمل ربع قرن رئيساً لقسم الشرق الأوسط في صحيفة "لوموند" الفرنسية الشديدة التأثير في صناعة القرار في فرنسا! والديبلوماسي، سفيراً فوق العادة في تونس وجامعة الدول العربية، وفي فترة حساسة كانت تعيشها منظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجها من بيروت واقامتها في تونس. والباحث، الذي تقاعد ولم يتقاعد، اذ استمر يحاضر في أبرز مراكز الأبحاث، ويدير "مركز الحوار العالمي"، في نيقوسيا، الذي يقول عنه رولو انه يهدف الى "معالجة القضايا الكبرى عبر الآراء المتضاربة، وليس الأخذ بالمواقف ذات اللون الواحد. وأول نشاط للمركز كان تنظيم اللقاء الاميركي - الايراني في الاونيسكو في باريس، لأحد رهائن السفارة الاميركية في طهران ومنظم عملية الرهائن السيد مهدي عبدي. عندما يتحدث رولو عن قضايا الشرق الأوسط، فهو يتحدث بصفته الصحافي الذي عرف، والديبلوماسي الذي اضطلع والباحث الذي يدقق ولا يستسلم للرأي الواحد ولا للمعلومة ذات المصدر الأحادي. في باريس التقته "الوسط" وحادثته: كيف تنظر الى القضايا الساخنة في الشرق الأوسط واحتمالات حلها أو تبريدها؟ - القضايا الساخنة في منطقة الشرق الأوسط معروفة، فهي تبدأ بالعراق وتنتهي بعملية السلام، مارة بتركيا وأوجلان. لكن لا يمكن التقاط ما جرى ويجري وفهمه، من دون وضع النقاط على الحروف على موقع القوة الأحادية، اي الولاياتالمتحدة، ودورها في ما أطلق عليه اسم النظام الدولي الجديد. الولاياتالمتحدة، هي حالياً وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي قوة عظمى لكنها عاجزة، وهنا التناقض. لو كانت قوية لكانت أدارت العالم وانتهينا من المشكلة. لكن على رغم عدم وجود أحد في مواجهتها فإنها عاجزة لسببين: الأول، ان الولاياتالمتحدة قوية لكن ليست كفاية لحل المشاكل الدولية. فهي تواجه مشاكل حيث لها مصالح متناقضة ولا تستطيع ادارتها. الثاني، ان إدارة الرئيس بيل كلينتون ضعيفة، وستبقى دائماً تحت الضغوط. وكلينتون سيبقى مضطراً دائماً للدفاع عن نفسه أمام الرأي العام، وبذلك سيبقى مرتبطاً بسلطة الرأي العام الاميركي. ولهذا فإن السياسة الاميركية الخارجية ستكون تحت ضغط المصالح السياسية الداخلية. وعلى رغم ما يقال عن تحرر كلينتون من الضغوط بسبب قرب انتهاء ولايته الثانية، فالواقع انه مضطر للعمل على ضمان خلافة نائبه آل غور واستمرارية حكم الحزب الديموقراطي، لذلك عليه تقديم تنازلات داخلية. وأين أوروبا من هذا الانفراد للقوة العاجزة؟! - كان على الولاياتالمتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي التعاون مع أوروبا لإدارة مشاكل العالم، والاعتماد على معرفة أوروبا في الشرق الأوسط وافريقيا، لكنها بدلاً من ذلك تخاصمت معها. وفي مواجهة الانفراد الاميركي استسلمت أوروبا ورضخت وسلمت لأميركا. خذ كوسوفو مثلاً. أوروبا غير موافقة على السياسة الاميركية هناك، لكنها قبلت بها. فالولاياتالمتحدة لا تعمل على حل المشاكل العرقية، بل تسعى لبسط نفوذها. وسبب هذا الضعف الأوروبي انه لا توجد أوروبا سياسية وانما أوروبا اقتصادية الى جانب ذلك، فإن ثلاثة أرباع أوروبا تتبع الولاياتالمتحدة، فيما تعمل فرنسا مع أربع دول أخرى لتكون لها سياسة مستقلة، لكنها مع ذلك تبقى معزولة. وماذا عن العرب والدول العربية؟ - يتذمر العرب دائماً ويشكون من ان أوروبا لا تلعب دوراً فعالاً وإيجابياً. ولكن هذا يتوقف على الكلام وليس الأفعال. وهناك قصة بسيطة توضح ذلك. لقد اعتقد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران ان فرنسا ستدخل أخيراً نادي الدول الكبرى بعد حرب الخليج. لكن الذي حصل انه بعد الحرب التقى جيمس بيكر بنظيره الفرنسي رولان دوما وقال له: "لدي أنباء جيدة وأخرى سيئة... الجيدة ان مؤتمراً دولياً سينعقد في مدريد، والانباء السيئة أنكم لن تشاركوا فيه". وسأل دوما بيكر: "ولماذا؟". ورد بيكر بهدوء مماثل لدوما: "الاسرائيليون وضعوا فيتو عليكم والعرب وافقوا على الحضور". وجاء رد فعل دوما حاداً، اذ قال لبيكر: "مبروك عليكم. سنكون أول من يهنئكم اذا استطعتم حل النزاع العربي - الاسرائيلي". العراق نصل الى العراق، لأنه النقطة الساخنة. كيف ستنتهي عملية الكر والفر، وما تسميه الولايات المتحة لعبة الهر والفأر؟ - لقد ربط الاميركيون بين نزع السلاح العراقي واسقاط نظام صدام حسين. عملياً لم يحاولوا قلب النظام. ولم يحققوا نزع السلاح. وتجربة النداء للشيعة والاكراد للانتفاضة ثم السكوت عن قمع النظام العراقي لهم أبلغ دليل. وأكثر من ذلك لقد ساهم الاميركيون في تقسيم المعارضة العراقية وتشتيتها، وأخيراً يرددون بأنهم يريدون توحيدها لإسقاط صدام حسين. واقع الأمر "ان الادارة الاميركية لا مصلحة لها حالياً في اسقاط صدام حسين، لأنه لا بدبل لديها عنه. اضافة الى انه لا توجد مجموعة عراقية يمكن للولايات المتحدة الإمساك بها. من دون ان ننسى ان واشنطن تخشى اقامة نظام ديموقراطي في العراق. والحل؟ - بصراحة انهم الاميركيون يريدون استبدال صدام حسين بصدام حسين اميركي، وعندما يتمكنون من ذلك سيقومون به. لكن ذلك لا يعني ترك النظام العراقي بسلام. فإذا لم يتم ضربه في الأزمة قبل الأخيرة فلأن صدام حسين تراجع في اللحظة المناسبة أولاً، ولأن العسكريين الاميركيين يدركون ان تدمير العراق هو الثمن المطلوب لتدمير الأسلحة العراقية، وهذا غير ممكن. وهل يمكن ان يستمر الحظر الى الأبد؟ - الأزمة ستستمر في وضعها الحالي، أي "ستاتيك"، ومأساة الشعب العراقي ستستمر. وحسب الاممالمتحدة، فإن خمسين ألف طفل عمرهم أقل من خمس سنوات يموتون سنوياً، ومنذ تسع سنوات، فيما مات مليون عراقي، ويهدد الموت مليونين ونصف المليون طفل، عدا ان العراق مهدد بالتراجع على مختلف المستويات الى ما قبل 1950، اي انه خسر نصف قرن من عمره وفي زمن لم تعد نسبة التقدم تقاس حتى بالسنوات وانما بالأسابيع والأيام. وأمام هذا الصمت العالمي يصبح السؤال عن مصلحة العراق في فتح أبوابه أمام المفتشين واقعياً. علماً انه لا توجد حكومة عراقية، مهما كانت هويتها، تقبل بتجريد العراق من الأسلحة بالكامل، في وقت تملك فيه معظم الدول أسلحة كيماوية صاروخية. وبعضها يملك النووي. الى جانب ان العراق محاط بأعداء محتملين أو قائمين، لا فرق. الصراع العربي - الاسرائيلي اتفاق واي بلانتيشن، هل هو خطوة على طريق الحل الكامل؟ - الحكومة التي يرأسها بنيامين نتانياهو هي الحكومة الاسرائيلية، الأكثر تطرفاً والأكثر عنصرية في تاريخ اسرائيل. في برنامج هذه الحكومة اسرائيل من الأردن الى البحر، واحياناً تضم الأردن. المشكلة في مواجهة هذه الحكومة ان الجانب الفلسطيني لم يعرف كيف يفاوض. فالرئيس ياسر عرفات لم يقل مثلاً لنتانياهو والاسرائيليين، في مقابل إلغاء منظمة التحرير الفلسطينية للميثاق الوطني، يجب إلغاء هذا التحديد لاسرائيل، المخالف لميثاق الاممالمتحدة، الى جانب ذلك، فإن العالم يصدق الاسرائيليين ولا يسمع العرب أو الفلسطينيين. أعلنت الحكومة الاسرائيلية الانسحاب من 9 في المئة، وصادرت 10 في المئة من الأراضي، العالم سمع بالانسحاب ولم يسمع بالمصادرة، مع ان المساحة المصادرة أكبر من التي جرى الانسحاب منها. أكثر من ذلك بعد اتفاق واي بلانتيشن دعا ارييل شارون وزير الخارجية علناً كل المستوطنين للبناء حيث يستطيعون، قائلاً، إننا في سباق مع الوقت لذلك يجب التعجيل في البناء. هل سمع العالم ذلك؟ الذي سمع تصرف وكأنه لم يسمع. ما العمل أمام هذا الواقع وهذا التطرف؟ وهل مجيء حزب العمل الى السلطة يغير شيئاً؟ - في العلاقات الدولية، حتى يمكن حل النزاعات يجب ايجاد توازن في القوى بين المتنازعين. والتوازن المقصود ليس عسكرياً فقط وانما هو توازن سياسي وديبلوماسي واقتصادي، التوازن مجموعة عوامل وليس عاملاً واحداً. منذ البداية، لم يوجد توازن بين العرب واسرائيل لأسباب عدة معروفة. الآن، اسرائيل هي الدولة الأقوى على مختلف الصعد، اضافة الى قنابلها النووية، والدعم الاميركي غير المحدود لها. لذلك أنا متشائم جداً. ويجب توقع الأسوأ خصوصاً ان امكانية التجديد في الانتخابات المقبلة لنتانياهو قوية جداً. ويجب الاعتراف بأنه لا يجب ان يتوقع أحد من طرف يشعر بقوته ان يقدم تنازلات. هذا محض خيال، سواء كان يحكم اسرائيل ليكود أو العمل. وما لم يغير العرب موازين القوى، فعليهم ألا يتوقعوا هدايا من أحد، ولذلك يجب تناسي الخلافات الاسرائيلية. ببساطة الاسرائيلي، مثله مثل أي قوي في هذا العالم، يسأل نفسه لماذا يعطي أرضاً احتلها، عشان سواد عيون العرب؟ قالها بالعربية طبعاً لا. عليه ان يكون مطمئناً لمصالحه حتى يعطي. هل يعني هذا اليأس؟ - العرب أغنى من اسرائيل، وهم أكثر عدداً ولديهم مصادر اقتصادية لمئة سنة مقبلة. المهم كيف يستثمرون ذلك لإقامة التوازن مع اسرائيل. وأيضاً كيف يحصلون من الولاياتالمتحدة على موقف أقل انحيازاً لاسرائيل. فواشنطن تؤيد فعلاً السلام وهي تؤمن كما أعرف من خلال جولاتي، ان السلام لا يقوم من دون دولة فلسطينية مستقلة، لكنها لا تذهب بعيداً في دعمها للفلسطينيين وتحديداً لعرفات، بسبب التناقضات الداخلية وانفرادهم وعزلهم لأوروبا ولهيئة الاممالمتحدة. وعلى رغم كل شيء فإن الرئيس ياسر عرفات هو اليوم فوق أرض فلسطين وليس في الطائرة، وعلى رغم كل سلبيات التفاوض والاتفاقات، ليس قليلاً رؤية طائرة فلسطينية تحمل العلم الفلسطيني تهبط في مطار غزة. تركيا نبدأ بالقضية الملحة وهي الحلف الجديد بين تركيا واسرائيل. لماذا قام، وماذا يعني؟ - الولاياتالمتحدة هي التي شجعت على إقامة هذا الحلف بين تركيا واسرائيل. انه تحالف من زمن الحرب الباردة، وليس في هذا الزمن زمن القوة الاحادية. ومع ذلك قام، وهو ليس تحالفاً من أجل تعاون اقتصادي أوسع وأرسخ، انه تحالف بين دولتين ضد أعداء مشتركين، سورية والعراق وايران. وهذا الحلف يعني تقوية تركيا في مواجهة الأكراد والعراق وايران وسورية وكل الدول غير الصديقة لتركيا واسرائيل. ان تركيا هي المثال الكبير على ما قلته عن التناقضات في السياسة الاميركية وسياسة المعيارين لوزن واحد. واشنطن تؤيد الأقليات وحقوقها، لكنها في تركيا تعارض الأكراد ومطالبهم، وفي الوقت نفسه تدعم أكراد العراق وتحثهم على رفع سقف مطالبهم. في تركيا حكومة يهيمن عليها الجيش. ومع ذلك تغمض واشنطن عينيها عن ذلك وتطلب من أوروبا ضم تركيا الى الاتحاد الأوروبي. كانت تركيا ولا تزال وربما ستبقى ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة ولسياستها. وعلى رغم رفضها الضمني للجيش إلا انها تدعم الحكومة التركية وتؤيد ضربها للاكراد وقمعهم. ومع ان الاتحاد السوفياتي انتهى فإن الحاجة الأميركية لتركيا لم تنته، فهي تبقى في مواجهة روسيا، خصوصاً ان المتغيرات مجهولة وتبقى تركيا ايضاً مهمة باتجاه الدول الآسيوية الاسلامية وحائلاً دون وقوعها تحت الهيمنة الروسية، بل ما تمثل هذه الجمهوريات من غنى نفطي ومواد أولية مهمة. فتركيا قادرة من خلال دورها هذا المعزز بالعلاقات العرقية والدينية والجوار سحب هذه المنطقة باتجاه الولاياتالمتحدة بدلاً من روسيا. والسبب الثاني أيضاً هو ان تركيا تبقى خط مواجهة وحتى مطرقة للدول غير الصديقة للولايات المتحدة، مثل العراق وسورية. وهنا تلتقي المصالح الاميركية مع المصالح الاسرائيلية. القضية الساخنة الآن قضية اوجلان، ماذا عنه وعن مستقبل القضية الكردية في تركيا؟ - حتما ستضعف الحركة المسلحة الكردية في تركيا، فالقائد مهم واساسي. وأوجلان لم يترك رقم 2 خلفه. فقد أبعد كل الأقوياء. وهذه مأساة الحركات السياسية في الشرق الأوسط. لكن هذا الضعف لن يحل المشكلة، لأن المشكلة الكردية حقيقية وليست مصطنعة في تركيا. أوجلان لم يخترع القضية، وليس هو القائد الكردي الأول في تاريخ هذه الحركة المسلحة، لذلك ستستمر على رغم ضعفها حتى تظهر قيادة جديدة وربما حزب جديد. سواء أردنا أم لا، هناك هوية كردية تركية، وما لم يتم الاعتراف بها فإنها ستستمر. ان ضرب حقوق الانسان وتدمير آلاف القرى والمدن ومحوها عن الخريطة لن تنهي المشكلة الكردية. وماذا عن مسألة إقامة دولة كردية؟ - من حق كل الشعوب ان تطالب وان تعمل من أجل قضية تتعلق بها. قد لا تساعدها الأوضاع أو قد لا تكون مطالبها ممكنة. لكن في النهاية يمكن الوصول الى حل من خلال الاعتراف المتبادل والقبول بشروط الواقع. وللأسف فيما يخص تركيا، فإن الجيش التركي والسياسيين الاتراك لا يعتقدون بأن القضية ستستمر، بل يعتقدون ان اعتقال أوجلان سينهي المشكلة. لذلك لن يقدموا تنازلات للاكراد، وسيتصلبون على اساس أنهم انتصروا. وهذه سياسة قصيرة النظر. أوجلان حالياً في قلب أوروبا، وقد تحول الى مشكلة اوروبية اضيفت الى ملف العلاقات التركية - الأوروبية فزادتها تعقيداً، على الأقل في المستقبل المنظور. وفي الختام، ان الحل السياسي هو الذي يضع نقطة نهاية للعنف، وغياب هذا الحل هو الذي يخلق العنف ويجدده بأشكال مختلفة. ولذا فإن المشكلة الكردية في تركيا ستأخذ شكلاً ما. ما لم تتم معالجة أساس المشكلة، أي المطالب الكردية. بريماكوف بعد تعيين يفغيني بريماكوف رئيساً لوزراء روسيا، ظهرت مقالات في مصر عنه، يشير معظمها اليك والى بريماكوف، فما هي طبيعة العلاقات بينكما؟ - صحيح نحن نعرف بعضنا بعضاً منذ بداية الستينات. أثناء عملنا الصحافي. وكلانا يتكلم العربية باللهجة المصرية، الى جانب انه كانت لكلينا علاقات متينة مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. الفرق بيننا أنني صاحب آراء حرة، وهو ينفذ سياسة دولة. يضاف الى ذلك أنني لم أكن أعرف حقيقة علاقته بالاستخبارات السوفياتية "كي.جي.بي" وانه أحد أبرز أعضائها وممثلها في منطقة الشرق الأوسط. لذلك عندما تعرفت في القاهرة على بريماكوف، كان وقتها مراسلاً صحافياً للبرافدا. وكان محترماً في القاهرة. الى جانب ان المسؤولين المصريين كانوا يعرفون من هو بريماكوف وموقعه وأهمية دوره. عندما تعرفت على بريماكوف ووطدت معرفتي به كان دائماً عقلاً تحليلياً متقدماً جداً. فهو كان ذكياً جداً ويعرف الأوضاع وفي الوقت نفسه يتفهمها. وعلاقتي معه لم تنقطع، وتطورت من مواقع مختلفة وعلى فترات طويلة ومتباعدة. ما هي أبرز الأحداث التي وقعت معكما؟ - أيام حرب حزيران يونيو 1967، وكانت الهزيمة القاسية خصوصاً لناصر، جئت الى مصر وكتبت سلسلة من التحقيقات عن نتائج النكسة، بعدما قابلت عشرات السياسيين والمثقفين والناس العاديين. وكان من بين الذين قابلتهم ولمدة ساعتين يفغيني بريماكوف. خلال اللقاء الطويل معه لفتت نظري جملة مهمة قالها، فقد سألته عما اذا كانت المشكلة ستحل في القريب العاجل، ليقوم السلام، فأجابني بريماكوف، بهدوء يتميز به ومن دون أي تردد: "يا سيد اريك، الاحتلال سيستمر على الأقل ثلاثين عاماً"! يومها لم أصدقه وعندما قابلته في آخر مرة سألني وكأنه يتذكر شيئاً لا يريد ان ينساه، "أترى ما زال الاحتلال قائماً بعد ثلاثين عاماً؟". قابلت بريماكوف أيضاً في العراق عند مصطفى البرزاني. يومها كنت مضطراً لأن أدخل العراق عبر الحدود الايرانية. لذلك كنت ما ان أصل الى الحدود العراقية وأنا قادم من طهران في زمن الشاه، حتى انطلق مع مرافق من الأكراد ينتظرني. وكنت بناء للتعليمات أغير ثيابي، وارتدي زي "البيشمركة" حتى لا يتعرف أحد علي. وخلال احدى الزيارات، مررت في منطقة فارغة من السكان، نتيجة للحرب. ومن بعيد فوجئت باثنين يتجهان نحوي. وفي البداية أصيب رفيقي بالقلق وأنا ببعض الخوف. وعندما تواجهنا، نزع أحد الرجلين العمامة أو ما يشبهها عن وجهه فإذا به بريماكوف نفسه والذي أخبرني بأنه قادم لإجراء تحقيق صحافي. وبعد سنوات عرفت الحقيقة الغريبة. طبعاً، عندما وصلنا الى مقر البرزاني، لاحظت انه فوجئ بوجودنا معاً، وقد سارع الى فصلنا فوضع كل واحد منا في مقر على حدة وعمل جاهداً على ان لا نلتقي، الى درجة انه اثناء العشاء فصل أيضاً بيننا وكان يتنقل بنفسه بيننا ليكرمنا على الطريقة الكردية. وفي اليوم التالي ونحن نتجول لاحظت وجهين غريبين ولا يتكلمان لغة نعرفها، بعد سنوات طويلة، وعندما تأكدت من هوية بريماكوف في الاستخبارات السوفياتية، عرفت انه كان عند البرزاني في مهمة سياسية تهدف الى تقديم أسلحة ومساعدات سوفياتية للبرزاني في مواجهة الحكومة العراقية. واكثر من ذلك بعد حوالى أربعين عاماً عرفت الحقيقة الكاملة، من كتاب للصديق والزميل جوناثان راندل المهم جداً عن الاكراد. ففي هذا الكتاب روى راندل ان الرجال الذين كانوا في الجبال عندما التقيت بريماكوف، كانوا من ضباط الموساد الاسرائيلي وان الضابط المسؤول في المجموعة - وقد التقاه راندل - قرر عندما وجدني هناك وادرك انني عرفته وانني سأنشر الخبر عن تعاون البرزاني مع الموساد، وهو امر كان سراً كبيراً يومها، قرر قتلي من خلال تدبير حادث في الجبال يبدو طبيعياً، لكن البرزاني وبريماكوف علما بالأمر، وتدخل البرزاني مباشرة مع مجموعة الموساد، وقام بريماكوف بطريقة غير مباشرة وعبر البرزاني، بأن افهمه بأنه صديقي وأنني لم اتنبه في الواقع للحدث الخطير ولذلك لن أكشفه. وبذلك تم انقاذ حياتي من دون ان أعلم، ومن دون ان يتكلم بريماكوف، مثل أي مسؤول أمني كبير قبل ان يكون زميلاً وصديقاً. وقد شاءت الأقدار، ان انتقل الى الديبلوماسية عندما عينني الرئيس فرنسوا ميتران سفيراً فوق العادة في تركيا، كان بريماكوف قد خرج من ظل الصحافة الى العمل السياسي العلني في زمن غورباتشوف. وخلال الأزمة التي سبقت حرب الخليج الكبيرة، تنقل بريماكوف بين موسكو وبغداد عبر انقرة، كمبعوث لغورباتشوف. وبحكم وجودي في العاصمة التركية فقد التقيته في عزّ الأزمة، ونظراً الى زمالتنا وصداقتنا الطويلة كنا نتصارح، وكان رأيه يومها ان الولاياتالمتحدة تريد الحرب، وانه يمكن اخراج العراق من الكويت، لكن الجانب السياسي صعب. ويومها فوجئت به، وهو المسؤول السوفياتي، ينتقد انتقاداً شاملاً النظام السوفياتي. وبعد الحرب عدت الى باريس حيث تقاعدت من العمل الديبلوماسي، وزار بريماكوف فرنسا حيث التقينا. وقد طرح يومها علي سؤالاً محرجاً، لكنه بدا وكأنه غير جدي أو أنه يطرحه للمداعبة فقط. قال لي بريماكوف: "أرغب في أن أكون سفيراً لروسيا كان الاتحاد السوفياتي قد انهار في باريس، فبماذا تنصحني"؟ واعتمدت في جوابي طريقة سؤاله غير الجدية، لكن الواقعية: اعتقد يا صديقي بأنك لا تجيد الفرنسية، وهنا يفضلون سفيراً لروسيا يجيد لغة فولتير وروسو. وبسرعة رد بريماكوف: "أنس الموضوع كله". وبهذا تركت أمامه الباب من دون ان أدري، لكي يصعد ويرأس الحكومة في روسيا، مثلما شارك في انقاذ حياتي من دون أن أعرف! هذا عن علاقتك به، فماذا عن رأيك فيه؟! - لقد سبق وتكلمت عن بعض ذكرياتي معه. وهي كثيرة وقلت ايضاً انه منفتح وعقلاني. اعتقد بأن كفاءاته تبدو جلية ولا حاجة لشرحها في طريقة انتقاله من نظام الى نظام على رغم الفوارق العميقة بينهما. فبريماكوف عاش وعمل طوال المرحلة البريجنيفية تحت ادارة اندروبوف في "كي.جي.بي"، ثم انتقل الى عهد غورباتشوف فعاش مرحلة البيريسترويكا بكاملها التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفياتي، وعمل تحت زعامة يلتسن المختلفة كلياً عما سبقها وفي اطار روسيا، بعدما انتهى الاتحاد السوفياتي. وحالياً يرأس الحكومة ويشهد نهاية الرئيس يلتسن، ومن يدري عن الغد وعن الرئيس المقبل وقدرته ومقدرته على العمل معه. لبنان... العودة بعد غياب طويل استمر اكثر من 17 عاماً، زرت لبنان. وهي زيارة تأتي ايضاً بعد حرب طويلة عشت بداياتها. لماذا زرته وماذا وجدت؟ - لبنان بلد عزيز جداً علي. وهو ليس مجرد ساحة اعلامية أو حدث ضخم اتابعه، فأنا أمضيت جزاً من طفولتي في لبنان، عندما كانت عائلتي تمضي الصيف في لبنان. لذلك عندما ذهبت هذا العام، حاولت اكتشاف مواقع طفولتي في الجبل وفي بيروت. وكلما زرت مكاناً مررت فيه أو عشت فيه خلال هذه الطفولة، كنت اكتشف جزءاً من ذاتي هناك. هل صدمت؟ - الحقيقة أنني لم أصدم. فلبنان موجود، طبعاً تغير، لكنه ما زال يتمتع بالكثير مما أحببته فيه. اعترف بأنني شعرت أحياناً بالحزن، خصوصاً وأنا أتجول في قلب بيروت، وأجد مكان ساحة البرج فراغاً كبيراً. لكن ايضاً اسعدني هذا البناء والإعمار، لأنه يؤكد إرادة اللبنانيين في حب الحياة وتعلقهم ببهجتها. أيضاً فوجئت، وبفرح، ان حرية الكلام موجودة، طبعاً حرية محدودة، لكن المهم ان لبنان لم يتحول الى دولة بوليسية، لكن هذا لا يعني ايضاً ان لبنان يلعب دوره القديم. ولماذا زرته؟ كيف اتخذت القرار؟ - لقد دعيت للمشاركة في الذكرى الخمسين للنكبة في مسرح بيروت. اسعدتني الدعوة لأنها تشرك لبنان بفلسطين. والذي اسعدني أكثر هذا الوجود البارز للمثقفين اللبنانيين والذين فتحوا نافذة على العالم الخارجي. وماذا وجدت اثناء اقامتك غير الذكريات والعواطف؟ - لقد بقيت اسبوعاً واحداً. وبهذا لم أقم بأي تحقيق واسع وعميق. لكن هذا لم يمنعني من لقاء العديد من السياسيين الى جانب أصدقائي المثقفين والصحافيين. من التقيت؟ - لقد استقبلني رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، الذي سمعت الكثير عنه، وتابعته في نشاطه الواسع، ورأيت سياسته في اعادة بناء لبنان. ووجدت فيه رجلاً يأخذ قراراته بسرعة لا علاقة لها بعلاقة الشرق أوسطي بالوقت. في وقت واحد يرد على ست مكالمات ومداخلات. انه لا يجادل واستطيع ان أقول، انه "اميركان بزنس مان" رجل أعمال اميركي من الطراز الرفيع، الى جانب ان لديه أفكاراً واضحة، مع حذر واضح ايضاً في التصريح. كما التقيت السيد حسن نصرالله زعيم حزب الله وذلك انطلاقاً من اهتمامي القديم والدائم بالحركة الاسلامية، التي التقيت معظم قياداتها، من حسن البنا الى حسن الترابي وطبعاً الإمام الخميني. وكيف وجدت زعيم حزب الله؟ - إنه أحد أكثر الاسلاميين المثيرين للاهتمام، فهو ذكي ومثقف ورجل سياسي حقيقي وكلامه موزون. والأهم من ذلك انه في طرحه الاسلامي لبناني، حافظ على خطابه الوطني اللبناني، الأمر الذي يجعله يختلف عن الزعماء الاسلاميين الآخرين الذين يلامس خطابهم خصوصية بلدانهم. طبعاً التقيت وليد جنبلاط؟ - لا يمكن أن أزور لبنان ولا ألتقي وليد جنبلاط. انها علاقة قديمة تعود الى أيام والده كمال جنبلاط والذي عرفته عن قرب واحترمته دائماً. وكيف وجدت وليد جنبلاط بعد كل سنوات الحرب والسلام؟ - لقد نضج كثيراً، ويقول أشياء مهمة. وأصبح يعي أشياء لم يكن يعيها، ولذلك كان لقاؤنا مزيجاً من الماضي والحاضر مع اطلالة على المستقبل. يبقى أيضاً انني التقيت هذه المرة بشخصية جديدة تعرفت عليها للمرة الأولى، وهو نسيب لحود، النائب المعارض، وهو لا شك أحد أعمدة النخبة السياسية اللبنانية