لعبت محكمة رجال الدين في ايران دوراً خاصاً في الحياة السياسية وهي مرشحة للعب دور جديد في مواجهة حركة الاصلاح والتغيير الخاتمية، وقد قام المرشد علي خامنئي أخيراً بتعيين غلام حسين محسني ايجئي رئيساً جديداً لها خلفاً لرئيسها السابق محمدي ريشهري، خلافا للتوقعات والمطالبات بحل هذه المحكمة الفريدة المناقضة للدستور الايراني. فما هي قصة هذه المحكمة وفلسفتها وأهدافها وظروف نشأتها وأهم أعمالها ومستقبلها؟ يلعب الزي الخاص الذي يرتديه رجال الدين الحاكمون في ايران دوراً نفسياً مؤثراً في الحياة الثقافية والسياسية، بحكم المركز القيادي لهؤلاء الرجال في المجتمع الايراني. وقد اختص رجال الدين الايرانيون بالعمة والجبة بعدما منع الشاه رضا بهلوي الايرانيين من ارتداء العمامة وأجبرهم على ارتداء الزي الأوروبي قبل حوالي سبعين عاماً. وكان الايرانيون من قبل كالأفغان والسودانيين يشتركون مع علمائهم بزي واحد هو الجبة والعمامة. ومع قيام الثورة الاسلامية بقيادة الإمام الخميني كان رجال الدين يبلغون حوالي مئة ألف شخص ويتمتعون بهالة كبيرة من الاحترام مهدت لممارستهم السلطة باسم الدين وبالنيابة عن الإمام الغائب كما يعتقد الشيعة، ومع انهم بشر وغير معصومين وبينهم الصالح والطالح وبعضهم كان يتعرض للسقوط في حب الدنيا وارتكاب الأخطاء السياسية والمالية والجنسية، إلا أن اتهام أي رجل دين بارتكاب ما يتنافى مع مركزه كان سيؤدي الى تشويه سمعة كل رجال الدين وإضعاف قبضتهم على السلطة. من هنا رأى الإمام الخميني، في بداية الثورة، تشكيل محكمة خاصة لرجال الدين، وذلك للمرة الأولى في التاريخ الاسلامي، لتنظر في التهم الموجهة اليهم بسرية تامة بعيداً عن آذان وعيون الشعب، ولم يكن الايرانيون يطلعون على الجرائم التي يرتكبها بعض رجال الدين باستثناء الاشاعات عن تورط هذا الشيخ في قضية اختلاس، أو ارتباط ذلك الشيخ بقضية ابتزاز أو عزل ذلك الشيخ بسبب علاقات جنسية غير مشروعة. كان رجال الدين بصورة عامة يشكلون عصبة الحاكم الولي الفقيه ولذا كانوا يتمتعون، في حال ارتكابهم بعض الأخطاء، في ظل سرية المحكمة الخاصة، بنوع من التسامح والعفو وغض النظر، وكانت أقصى عقوبة يتحملها رجل الدين المخطئ - إذا حوكم - العزل من منصبه السياسي أو الإداري أو خلع زيه الديني. وهناك قائمة طويلة بأسماء رجال دين تولوا مناصب وزارية أو قضائية أو إدارية ثم طردوا من مناصبهم فجأة بسبب ثبوت ارتكابهم بعض الأخطاء أو القاء القبض عليهم في أوضاع مشبوهة، لكنهم لم يقدموا الى المحاكمة أو لم يعاقبوا بصورة تتناسب مع أخطائهم. وهناك قصة شهيرة للقاضي آية الله خلخالي، فقد اعتقل تاجراً كبيراً من مدينة يزد ووجه اليه تهمة الاتجار بالمخدرات وهدده بالحكم عليه بالاعدام إلا اذا دفع له مبلغ مليوني تومان، فما كان من التاجر الا أن دفع المبلغ وذهب بعد اطلاق سراحه ليشتكي لدى صديقه آية الله خاتمي والد رئيس الجمهورية الحالي ويعطيه رقم الشيك الذي دفعه للقاضي. ولدى التحقيق ثبت قيام القاضي بالابتزاز فتم عزله من منصبه والتحقيق في أحكام الاعدام التي كان قد أصدرها للتو ولم تكن قد نفذت بعد وكان عددها 98 حكماً، فتمت مراجعتها وتبرئة جميع المتهمين، ما عدا اثنين حكما بالسجن. ونظراً الى أن ذلك القاضي كان يحتل منصباً مرموقاً وشهيراً فإن اعتقاله ومحاكمته علناً وسجنه مثلاً تشكل ضربة كبيرة للثورة وحكومة رجال الدين والتشكيك في كل الأحكام السابقة التي أصدرها من قبل، لذلك تم التستر عليه وانهاء القضية بصمت وهدوء. كذلك تردد أن وزير ارشاد سابق طرد من منصبه فجأة بسبب اتهام بالفساد الجنسي واقامة علاقات غير مشروعة مع نساء أجنبيات، من دون أن يتسنى للرأي العام الايراني أن يتثبت من حقيقة الاتهام أو يطلع على مضمون المحاكمة. وعلى رغم مخالفة المحكمة الخاصة لرجال الدين للدستور الايراني من حيث السرية، والتمييز بين المواطنين على أساس الزي - وهذا يحدث للمرة الأولى في التاريخ الاسلامي - فانها لم تلق في البداية معارضة كبيرة من رجال الدين نظراً الى ما كانت توفره لهم من مصلحة وستر ومحافظة على مكانتهم أمام المواطنين. ولكن هذا كان وجهاً من وجوه القضية، اذ سرعان ما انقلبت المحكمة الخاصة ضد رجال الدين حيث قامت السلطة باستغلالها لضرب المعارضين لها، واتخاذها سيفاً مسلطاً على عامة رجال الدين من أجل اخضاعهم والسيطرة عليهم وتوجيههم الوجهة التي تريدها السلطة أو الحاكم الأعلى. وقد وقعت المحكمة الأولى التي شكلت في بداية الثورة برئاسة آذري في قبضة اليمين وأدت الى غضب كثيرين من رجال الدين، الى أن أعلن آية الله منتظري عن حلها واستقالة رئيسها عام 1984، لكن الشيخ محمدي ريشهري القاضي الذي كان قد أصبح لتوه وزيراً للاستخبارات رفض حلها، اذ كان يعتقد، كما يقول في مذكراته "خاطرات سياسي": "ان وجودها ضروري لحماية الثورة ورجال الدين" فسعى الى الاستعانة برئيس الجمهورية يوم ذاك السيد علي خامنئي لاستصدار مرسوم جديد من الإمام الخميني بإعادة العمل بها وبتعيينه رئيساً جديداً لها. وهكذا كان، فقد نجح ريشهري في الجمع بين منصب وزارة الاستخبارات ورئاسة المحكمة الخاصة برجال الدين العام 1985 حيث عين نائبه في الوزارة الشيخ علي فلاحيان وزير الاستخبارات لاحقاً مدعياً عاماً والشيخ علي رازيني قاضياً خاصاً. وقام ريشهري في 1986 باعتقال المسؤول السابق عن قسم حركات التحرر في الحرس الثوري الاسلامي مهدي هاشمي وأخيه هادي هاشمي صهر منتظري والنائب في مجلس الشورى الاسلامي قاضي الثورة السابق في مدينة اصفهان الشيخ فتح الله اميد نجف آبادي والنائب ميرزائي وعشرات آخرين، ووجه اليهم تهماً بالفساد في الأرض ومحاربة الجمهورية الاسلامية والقتل والارهاب، وحاكمهم بصورة سرية، ولم يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم ولا توكيل محامين عنهم، واعترف ريشهري في مذكراته بتعذيبهم من أجل انتزاع المعلومات منهم بحجة كتمانهم الحقائق والكذب في التحقيق. وقد سجل ريشهري شريط فيديو لمهدي هاشمي وهو يعترف في السجن بما نسب إليه ويطلب العفو والمغفرة من الإمام، وبثه من التلفزيون بعد حذف 13 فقرة منه، وذلك "لعدم وجود مصلحة في بث الشريط الكامل لاعترافات مهدي هاشمي" كما يقول ريشهري في الصفحة 218 من مذكراته. وقد أثار ذلك الشيخ منتظري الذي أدان انتزاع الاعترافات بالقوة تحت التعذيب وفي السجن، وطالب في رسالة الى الإمام الخميني بتوفير حق الدفاع للمتهمين وضمان محاكمة عادلة ومستقلة لهم. بيد أن المحكمة أصدرت حكماً بالمؤبد ثم استبدلته بالاعدام بحق مهدي هاشمي، وحكما بالنفي الى مدينة سمنان لأخيه هادي هاشمي "نظراً لقرابته من الشيخ منتظري"، كما يقول ريشهري، والسجن لستة وعشرين شخصاً والاعدام للنائب اميد نجف آبادي. وظل خبر اعتقال نجف آبادي سرياً ولم يعلن عنه الا بعد اكثر من سنة، عندما نشرت صحيفة "كيهان" خبراً صغيراً عن اعدام النائب وقاضي الثورة في اصفهان بسبب اللواط مفعولاً من دون ان تذكر الصحيفة أو المحكمة الخاصة اسم اللائط أو الشهود أو الزمان أو اسم القاضي الذي حكم عليه بالاعدام. وقد أشار ريشهري رئيس المحكمة في مذكراته بصورة غامضة الى مسألة اللواط، لكنه اعتبر تأييد آبادي لمهدي سبباً رئيسياً لمحاكمته واعدامه، حيث لم تشفع له عضويته في مجلس الشورى البرلمان لدى المحكمة الخاصة ولم تسمح له بالدفاع عن النفس أو النجاة من التعذيب، اذ يقول ريشهري انه لم يضرب اميد نجف آبادي سوى أربعين سوطاً فقط. ويعترف ريشهري بوجود بعض التسرع في تنفيذ حكم الاعدام لمهدي هاشمي واحاطته بالسرية المطلقة، وبوصول خبر الاعدام على رغم ذلك الى آية الله منتظري الذي حاول ايقاف تنفيذ الحكم بالكتابة الى الإمام الخميني الذي حول رسالته الى ابنه السيد أحمد الذي لم يقرأها إلا في اليوم التالي بعدما كان خبر الاعدام قد وصل إليه، وقبل مراجعة الإمام للحكم أو النظر فيه، مع قيام الإمام بعد ذلك بالعفو عن جميع المتهمين بمن فيهم هادي هاشمي الذي يعتبره ريشهري "أخطر" من أخيه و"الرأس المدبر" لكل ما كان يقوم به مهدي من "مؤامرات". لقد غضت المحكمة الخاصة لرجال الدين الطرف عن مهدي هاشمي وجرائم القتل المنسوبة إليه قبل الثورة وبعدها لمدة ست سنوات، وسمحت له بتولي منصب قيادي في الحرس الثوري قسم حركات التحرر لكنها عادت لتنبش دفاتره القديمة وتتهمه بأبشع الجرائم، وذلك عندما تجرأ على مناطحة الرؤوس الكبيرة في النظام، خصوصاً بعدما أفشى سر زيارة مسؤول الأمن القومي الأميركي روبرت ماكفرلين الى ايران واستخدامها ورقة ضد أقطاب الحكم. احتواء المرجعية واضافة الى قضية هاشمي تولت المحكمة الخاصة برجال الدين عبر مدعيها العام نائب وزير الاستخبارات وخليفته في الوزارة علي فلاحيان ترتيب شؤون الحوزة العلمية والمرجعية الدينية في قم، خصوصاً بعد وفاة الإمام الخميني وعزل منتظري وتولي خامنئي المرجعية الذي لم يكن يحظى باعتراف الحوزة وتأييدها، وتصاعد الخوف من بروز مراجع جدد خارج اطار النظام بما يشكل من تهديد جدي لسلطة خامنئي أو يؤدي الى بروز معارضة قوية له، حيث راحت المحكمة تتدخل بصورة سرية وغير قانونية في عملية طبع "رسائل" المراجع العلمية وتأمر بعضهم بسحبها من الأسواق وبمنع بعضهم من التدريس أو فتح المكاتب وتتدخل في عملية توزيع الرواتب الشهرية لطلبة العلوم الدينية وتعتقل مساعدي بعض المراجع وتمنع الناس من اللقاء بهم أو زيارتهم في منازلهم. وقد شنت المحكمة الخاصة برجال الدين في الأعوام الأخيرة حملة واسعة ضد مرجعية السيد محمد الشيرازي واعتقلت أبناءه ومساعديه وعذبتهم ونفت بعضهم الى مناطق نائية، مما استدعى تدخل منظمة العفو الدولية والمجلس العالمي لشؤون الامامية وأعضاء مجلس الشورى الاسلامي الذين أدانوا عمليات التعذيب وطالبوا بالافراج عن المعتقلين. وقد افرج في العام الماضي عن أبناء السيد الشيرازي مرتضى ومهدي وعدد من أعوانه ولا يزال بعضهم يقضي عقوبة السجن في قم، كالسيد عارف الحسيني المعارض العراقي المسجون بتهمة زيارة السيد الشيرازي في بيته. وتقول بيانات منظمة المجلس العالمي لشؤون الامامية ان عمليات الاعتقال التي تنفذها المحكمة الخاصة برجال الدين تتم بصورة سرية شبيهة بالاختطاف من وسط الشارع من دون توجيه تهمة رسمية أو قانونية، ويخضع فيها المعتقل للتعذيب الشديد ثم الى محاكمة صورية سرية ينعدم فيها حق الدفاع عن النفس، ويعاقب المعتقل على "جرائم" لم ينص عليها القانون، كدخول بيت مرجع أو العمل في جهازه الاداري، ويحكم بعقوبات تعسفية لم ينص عليها الدستور أيضاً... وبكلمة أخرى ان المتهم يخضع لمحاكمات سياسية مزاجية، تحاول المحكمة من خلالها السيطرة على الحوزة وتوجيه الطلبة والمرجعية بما يتفق مع مشيئة السلطة العليا. وقد اشتكى رئيس المحكمة السابق آذاري قمي في بيانه الشهير العام الماضي من تدخل أجهزة الاستخبارات في المرجعية ومحاولتها ضرب هذا المرجع أو دعم ذاك. في ظل الرئيس خاتمي وبعد فوز السيد محمد خاتمي بانتخابات رئاسة الجمهورية قبل حوالي سنة ونصف السنة وطرحه شعارات الحرية وسيادة القانون أمل كثيرون أن يضع عهده خاتمة لتجاوزات المحكمة الخاصة التي أصبحت سيفاً مسلطاً على معقل رجال الدين ومحور أهم النشاطات السياسية في الجمهورية الاسلامية، ولكن ذلك الأمر تبخر مع اشتداد الصراع بين الجناح المحافظ المؤيد للمرشد خامنئي والجناح الراديكالي المؤيد للرئيس خاتمي ومحاولة الجناح المحافظ احباط مشاريع الرئيس الليبرالية وتشديد قبضته على النظام. وبدلاً من ان يحل الرئيس خاتمي المحكمة الخاصة برجال الدين المخالفة للدستور الذي ينص على المساواة بين المواطنين ويرفض الاعتقالات التعسفية ويكفل حق الدفاع للمتهم ويحرّم أي نوع من أنواع التعذيب وينص على علنية المحاكمات واستقلالية القضاء، بدلاً من ذلك قام الجناح المحافظ بتكثيف عملياته ومهاجمة أنصار خاتمي نفسه بهدف إضعاف هيبته وتكبيل يديه. وفي هذا السياق قامت المحكمة الخاصة أخيراً باعتقال رجل الدين البارز أسد الله بيات، النائب السابق في مجلس الشورى لمدة 12 عاماً، وممثل الولي الفقيه في "مجمع تشخيص مصلحة النظام" والمرشح لتولي منصب كبير في حكومة الرئيس خاتمي. وقد أثار اعتقاله موجة من السخط والاستنكار في صفوف رجال الدين الراديكاليين "روحانيون مبارز" وتركز احتجاجهم على موضوع السرية في محاكمته وعدم نزاهة المحكمة واعتبار حكمها بسجن بيات خطوة سياسية تثير الدهشة وكثيراً من علامات الاستفهام، ومحاولة لقطع الطريق أمام رجال الدين المؤيدين لخاتمي من القيام بأي دور سياسي أو إداري في النظام. والى جانب ذلك شنت المحكمة الخاصة برجال الدين حملة اعتقالات في صفوف أنصار منتظري على رغم اتخاذ المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني برئاسة خاتمي قراراً في الآونة الأخيرة برفع الاقامة الجبرية المفروضة على منتظري في منزله في مدينة قم منذ العام الماضي. وكان من الطبيعي ان تثير حملة الاعتقالات حملة شعبية مضادة تطالب بالغاء محكمة رجال الدين باعتبارها مخالفة لكثير من بنود الدستور. ولكن ليس من المرجح ان تحسم المعركة بين الطرفين في الوقت القريب، اذ يبدو أنها ستستمر حتى تحسم المعركة السياسية بين المحافظين والاصلاحيين. الا أن هناك من يعتقد أو يأمل بأن يغير الرئيس الجديد للمحكمة غلام حسين ايجئي من منهجها ويخفف من تطرفها