لم نكن ندري أن الغرفة الوحيدة المشرّع بابها التي وصلنا إليها خطأ أثناء تجوالنا في القصر الحكومي "السابق" كانت، إلى وقت قريب جداً، الجناح الخاص برئيس الحكومة، غير أن شاباً كان يجلس هناك مستمتعاً بالتكييف الهوائي أفصح لنا عن ذلك: "هذا جناح رئيس الحكومة"، قبل أن يعقب بلهجة كأنما أرادت أن توحي وتحافظ على رهبة زائلة: "... ولا يزال". نظرة إلى الداخل كانت مسموحة حيث مكتب الرئيس، وحيث صور رؤساء الحكومات المتعاقبين منذ الاستقلال معلقة في مكانها مثل كل شيء آخر. وكأن الجناح، كما القصر، ترك فجأة لأسباب طارئة. القصر الحكومي هذا كان قد استمد اسمه مذ تحوّل مقراً لرئاسة الحكومة منذ العام 1981 حين انتقل إليه شفيق الوزان إبان عهد الرئيس السابق الياس سركيس، بعد استحالة ممارسة مهامه في السراي الكبير نظراً لوقوع الأخير عند خط التماس الذي يفصل بين البيروتين. كنا قد قصدنا المكان لموافاة أحد الزملاء من المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة، ليصحبنا في جولة صحافية على المقر الجديد. حارس البوابة الرئيسية، أحد اثنين أُبقيا موقتاً من بين مئة حارس نقلوا إلى السرايا مواكبة للرئيس، دعانا ضاحكاً إلى الدخول والبحث بأنفسنا عن الزميل، وكأنه يدعونا إلى أرضٍ مشاعٍ، مسقطاً بذلك كل الإجراءات الأمنية المتشدّدة التي كانت تحكم الإمساك بالمكان من كل جهاته امتداداً إلى خارج أسوار القصر، لتجعل منه أرضاً يستحيل النفاذ إليها في الأوقات العادية. ليست أوراق الأشجار المتناثرة على الأرض، كأنما بفعل تواطئ ما، وحدها توحي بالهجران، لكنه شيء في الهواء وعلى جدران القصر، وفي علمنا أن المكان لم يعد مأهولاً إلى أن تتقرّر وجهة استعماله المقبلة، وكأن ثوب السلطة حين نزع عن القصر جعله عارٍ تماماً، وأدخله في طور نسيانٍ موقت، أما اللمعان القديم كلّه فقد تمّ جرّه شرقاً في اتجاه وسط بيروت حيث السرايا الكبيرة، المقر الجديد لرئاسة الحكومة. الطريق الوحيدة إلى السراي الكبير هي عبر ساحة رياض الصلح التي كان اسمها كذلك حتى في غياب تمثال أول رئيس حكومة بعد الإستقلال، وقد أعيد أخيراً من ملجأه في سورية وبدأت أعمال ترميمه... وبعد اجتياز الساحة صعوداً باتجاه السراي، وقبل الوصول إلى المدخل الجنوبي، ثمة لجهة الشمال طريق تؤدي إلى المدخل الشرقي للسرايا، وإلى "ساعة السراي" التي بدت أكثر شبهاً بساعة يدٍ قياساً بما كانت عليه قبل زيادة الطبقة الثانية على السراي، إذ كانت في السابق تزيد عنه ارتفاعاً، هو الذي شيّد مبناه فوق أعلى تلال بيروت لأغراض عسكرية أعطته إسمه السابق "القشلة"، أي الثكنة العسكرية. الدخول من الباب الجنوبي الذي أعيد ترميمه تماماً كما كان، وجعلت درفتاه، اللتان تبلغان العشرة أمتار، من خشب القطران القادر على الصمود والتكيّف مع الظروف الطبيعية صيفاً وشتاء. كل الأمور توحي بأن استقراراً كاملاً لم يتحقق بعد، فرئيس الحكومة والجهاز الإداري التابع له لم تمضِ ساعات على انتقالهما، وحتى الآن لم يستقبل الرئيس أحداً من ضيوفه فيه، والعمال يضعون لمساتهم الأخيرة على الرصيف المحيط بعدما أنجز المبنى نهائياً، أما القلّة من عمال التنظيف الموجودين أيضاً خارج المبنى فلم يضطلعوا بعد بدورهم. كل شيء نظيف وبراق بطريقة ما، كأن هدنة من الغبار الكثيف الذي يلف المكان نتيجة أعمال الحفر والهدم، حاصل الإحتفاء بالكائن الجديد. مزيج من الامتلاء والخلوّ في آن، من القديم المنقول والجديد الذي لم يلمس بعد. مخاضٌ هادئ صامت زاد فيه أن مفردات المكان الجديد ولغته لم تولدا بعد تماماً. لهذا السبب ربما تركت البوابة الرئيسية مشرعة، علماً أن باباً صغيراً جعل في إحدى الدرفتين، كمجازٍ للأفراد في دخولهم وخروجهم. وهذا سبب إضافي ليشعر الزائر بضآلة حجمه إزاء ضخامة المكان التاريخي. ان ما "تحدسه" من أمر هذه الضخامة حين تطل على مشهدها الخارجي يصبح واقعاً ومعيوشاً منذ لحظة اجتيازك المدخل الشاهق نحو الباحة الداخلية التي نبتت في وسطها نافورة مياه لعلها أضافت إلى الإحساس الغامر برودة تشيع في أرجاء المكان كافة. برودة تحيل تلقائياً إلى الزمن التاريخي الذي شيّدت فيه السراي، وكأن لحظة اللمعان الأولى لا تزال تتدفق من عين ذاتها. تنظر إلى المكان محاولاً تجميعه في كادر واحد: النوافذ والمشربيات والشرفات والمندلين تؤلف جميعها لوحة معمارية ملساء وتلزمك بضع خطوات إضافية قبل أن تدرك أن هذا المكان له بطن وشرايين. المهندس عبدالقادر الشعار، واحد من ثلاثين مهندساً من كافة الإختصاصات عملوا في بناء وترميم وتأثيث السراي، قادنا عبر الأروقة الداخلية شارحاً ومعرّفاً: "هذه القاعة لم يطأها بعد أحد غيركم" وهو يعني الجزء الوحيد من أحشاء المبنى الذي أمكن الحفاظ عليه. فالحرب والإهمال والإستعمالات المرتجلة فتكت بالبناء وخلخلته وألحقت فيه تشويهاً، مما أوجب إزالتها بالكامل باستثناء هذه القاعة والجدران الخارجية للسرايا. لهذا تمّ الحفاظ عليها بعد أن أزيلت عن جدرانها طبقات الإسمنت، ونظفت الحجارة المرصوفة فوق بعضها البعض كعقود على طراز العمارة "العثمانية" المنتشرة في لبنان. لعلّ الميل الجمالي التراثي والرغبة بالحفاظ على هيئة المكان المرتجاة هما ما دفع بالمهندسين إلى الإفادة من مراجع ومثالات عمرانية تراثية كمثل بيت الدين والجامع الأموي الدمشقي وبعض القصور الأندلسية لا سيما في الأبواب والمشربيات التي أضيفت، ومنها الواجهة الشمالية للباحة الداخلية المخصصة بحسب المخطط الجديد مقراً لإقامة رئيس مجلس الوزراء كونها تطلّ على البحر وفق المقتضى العمراني المتبع في بيروت الذي ينطلق من أن الواجهة الشمالية هي وجه البيت، كون أشعة الشمس لا تصله. إلى ذلك، فقد روعيت الجوانب والإحتياجات العملية والأمنية، كما أوضح الشعار، سواء في توزيع أجزاء البناء أم في الأدوات والمواد والتجهيزات التي "أحضر معظمها من لبنان"، وهو مصدر فخر المهندس الذي رأى في السراي مختبراً هندسياً مهماً، وبالنسبة إليه، فإن السراي هي أول عمل يشارك فيه إثر عودته من السعودية، والأمر ذاته ينطبق على كثير من المهندسين زملائه. إضافة الطبقة الثانية كانت لحاجات عملية أيضاً، فالمبنى يضمّ إدارات مجلس الوزراء كافة، لتصبح المساحة المبنية 37000 متر مربع فوق أرض مساحتها عشرة آلاف متر مربع يضاف إليها 4000 متر مربع جعلت للحدائق. وبهذا يبلغ عدد الغرف 250 غرفة تحتوي على 630 نافذة تم الإلتزام بشكلها السابق لناحية الإطار الحجري وكذلك الخشب والحديد. إضافة الطبقة الثانية زادت من ضخامة المبنى الممتد أفقياً 100 متر طول كل واجهة، وترجم هذا في الشرفتين اللتين تتوسطان الواجهتين الشمالية والشرقية، إذ ارتفعت فوقهما شرفتان إضافيتان تتجاوز مساحتهما الأخريين القديمتين. وإلى الضخامة أضفت هذه الزيادات وكذلك استحداث شرفات صغيرة أخرى في الواجهات الخارجية وفي الباحة الداخلية لمسة سكنية، حتى وإن لن تشهد هذه الشرفات "وقائع" معيشية من هذا النوع. من الهامش إلى المتن حين أزمع فؤاد شهاب سحب سلطته الرئاسية من وسط بيروت حيث مقرّ مجلس النواب ساحة النجمة إلى خارج العاصمة، وبناء قصر أو مقر جديد لرئاسة الجمهورية ومعها وزارة الدفاع والمدرسة الحربية على تلال بعبدا المشرفة على بيروت، كان كأنما يهدف إلى "تجريد" مجلس النواب وربما بيروت الكبرى من الشرعية والرمزية التي يوفرها مقر البرلمان و"اختزال" السلطة أكثر فأكثر برئاسة الجمهورية، وترافق ذلك مع اختيار منطقة بئر حسن لتشييد مدينة حكومية ضخمة تضمّ كل الوزارات. الآن، وبعد اتفاق الطائف الذي سحب بعض الصلاحيات من رئيس الجمهورية ومنحها لمجلس الوزراء مجتمعاً، يقوم رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري بتأكيد حضور مؤسسة رئاسة الوزراء، لا المجلس، ومن هذا القبيل كان عمل الحريري على تخصيص رئيس الحكومة بمقر على غرار مقري رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، لا يهدف إلى إعادة مجلس الوزراء إلى حيث كان، وإنما إلى تأكيد الصورة الجديدة لرئيس الحكومة على نحو نهائي. وهو ما أثار سجالاً خفياً لا يزال محتدماً. ذلك أن المقر الحكومي الجديد لا يضمّ مكاتب خاصة بالوزراء، إنما يقتصر الأمر على قاعة اجتماعات، وهذا ما اعتبر تفسيراً خاصاً من قبل الحريري للبند المتعلق بمقر مجلس الوزراء في اتفاق الطائف. وكأن الوجهة التي سلكها فؤاد شهاب خروجاً من بيروت في الستينات عاد الحريري ليسلكها في التسعينات رجوعاً في اتجاه العاصمة ووسطها تحديداً، بفعل موازٍ على الخط النقيض للأول يرمز إلى استتباب سلطة رئيس مجلس الوزراء وحضورها إلى جانب سلطة مجلس النواب الذي يقع مبناه على مرمى حجر. وهكذا يتخذ افتتاح السراي معناه السياسي الأدق عشية استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية، وبدء عهد جديد يلزم رئيس مجلس الوزراء الاستقالة ليقوم رئيس الجمهورية الجديد، بالتشاور مع النواب لتسمية رئيس الحكومة. غير أن رفيق الحريري إضافة إلى تحقيقه حضور رئيس مجلس الوزراء كمؤسسة، يوحي بانتقاله في هذا التوقيت إلى السراي الكبير أنه قوي وباقٍ في العهد المقبل، وهذا ما أكده صراحة في لقاء تلفزيوني أجري معه مباشرة من السراي بعد ساعات من تدشينه. وكأنه بذلك يدشنه ليس فقط للباقي من العهد، وإنما للمقبل في العهد المقبل. أما اختيار الحريري السراي الكبير ليكون مقراً لرئيس الوزراء فلا يستمدّ معناه من كون السراي كان فيما مضى مقراً لرئيس الحكومة، إذ لطالما كان هذا السراي ضئيل الحضور، ربما لضآلة دور وصلاحيات رئيس مجلس الوزراء. فإبان العهود الماضية قبل الإستقلال وبعده كان الثقل كله محصوراً برئاسة الجمهورية، وعلى الصعيد المديني المعماري كانت ساحة النجمة التي يحتل مجلس النواب واجهتها، وساحة الشهداء قطبي العاصمة. هدوء نسبي أما وقد انتقلت الصدارة إلى رئاسة الحكومة فقد بات لزاماً ان تضاف إلى المبنى أبهة وفخامة لم تكونا. لكأن الإفادة الراهنة من السراي الكبير مقتصرة على مكانه ومساحته ليس إلا... ومن هنا لم يتردد الحريري الذي أشرف شخصياً على أعمال البناء والترميم، في تجويف المبنى والإبقاء فقط على الجدران الخارجية والنذر الأبسط من أحشائه... فالعمليات التجميلية التي أجريت للسرايا لإثرائه هندسياً ومعمارياً، هي ما يمنح السراي شخصيته الرمزية الأجد، إذ كما في السياسة كما في البناء. واللافت في كل هذا أن المعارضة التي لا تتأخر غالباً عن الإدلاء بدلوها في مثل هذه المناسبات لم تحرك ساكناً. لعلّ هذا لا يتأتى من الهدوء النسبي لانتقال الحريري إلى السراي الكبير، إنما لعدم توفر "مادة" علمية اعتراضية محورها السراي. فحتى المهندسين المعارضين لمشروع "سوليدير" والقارئين إياه سياسياً لم يأتوا على ذكر السراي الكبير الواقع عند حدود وسط بيروت. وكذلك أشد المعارضين لسياسية الحريري وشخصه لم يتجاوز "نقدهم" عتبة المقارنة السطحية، ما بين البذخ والأبهة والوضع الإقتصادي المتردي في البلاد. ... "تايتانيك" العمارة والسياسة ينتظر راكبيه! حكاية السراي كان مجلس الوزراء في جلسته في 18/8/1993 وافق على هبة مقترحة من شركة "أوجيه لبنان" التي يملكها رئيس الحكومة رفيق الحريري، للقيام بدراسات تصميمية والإشراف على تنفيذ تأهيل مبنى السراي الكبير. وقد بوشر العمل في العام 1995 وساهمت الخزينة العامة بمبلغ مقداره 18 مليون دولار إلى جانب تبرعات شخصية بلغت التسعة ملايين دولار من الحريري وعائلته وأصدقائه. السراي الكبيرة هي من الإنشاءات العثمانية التي أقيمت في "بيروت المحروسة" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين تغلب ابراهيم باشا ابن عزيز مصر محمد علي باشا في العام 1831 على الجيوش العثمانية واستولى على بلاد الشام بما فيها بيروت واختار الهضبة الواقعة خارج السور المطلّة على بيروت لإقامة الثكنات العسكرية، وعرفت الهضبة منذ ذلك الحين باسم الثكنات إلى أن غادرها بعد تسع سنوت عقب قصف الأساطيل الإنكليزية والروسية والنمسوية المدينة، وقد استفاد العثمانيون في العام 1848 من موقع الهضبة فشيدوا عليها وبإيعاز من والي سورية راشد باشا ثكنة عسكرية بسبب موقع الهضبة الإستراتيجي إذ ترتفع أربعين متراً عن سطح البحر. تحولت "القشلة" في العام 1888 مركزاً لوالي بيروت وأضيف إليها بين العامين 1877 و1894 الطابق الأول. وبات اسمها تدريجاً "السراي الكبير" تمييزاً لها عن "السراي الصغير" الذي كان قائماً شمال ساحة البرج وهدم في العام 1951. وبقي السراي مقراً لمن تولوا حكم بيروت من المتصرفين والولاة حتى 1918، ثم تحول مقراً رسمياً للمفوض السامي الفرنسي طوال مدة الإنتداب وأدخل الفرنسيون بعض الإضافات على واجهته الشمالية. في العام 1926 في عهد رئيس الجمهورية شارل دباس اتخذت أول حكومة برئاسة أوغست أديب السراي مقراً لها، وفي العام 1941 مارس سامي الصلح مهامه كرئيس وزراء من السراي. وفي العام 1943 بعد الإستقلال اتخذ رئيس الوزراء رياض الصلح السراي مركزاً للحكومة اللبنانية وبقي السراي مقراً لها حتى العام 1981 حين غادره الرئيس شفيق الوزان وانتقل ودوائر رئاسة الحكومة إلى مبنى الصنائع، ليتحول السراي مقراً لوزارة الداخلية في مراحل متقطعة.