الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    "الملك سلمان للإغاثة" يوزع 25.000 ربطة خبز للأسر اللاجئة في شمال لبنان    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    المملكة تؤكد على أهمية استدامة الفضاء الخارجي وضمان استمرار الفوائد التكنولوجياته    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    التزامات المقاولين    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    سلامة المرضى    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفتتح مؤهلة مجددة . سراي بيروت وتحولاتها منذ العهد العثماني حتى اليوم
نشر في الحياة يوم 19 - 08 - 1998

سبق للشيخ طه الولي، قبل وفاته، أن أوصل لنا هذا المقال لننشره في "الحياة". اليوم، بمناسبة الإنتهاء من ترميم السراي واعادة بنائها صرحاً أساسياً من صروح مدينة بيروت المعمارية، ننشر المقال متأخرين عن رغبة الشيخ طه الولي لداعي انتظارنا المناسبة، رحمه الله.
سنة 1833 تغلب إبراهيم باشا، على الجيوش العثمانية وتمكن من الاستيلاء على بلاد الشام سورية الطبيعية بما فيها بيروت. وفي هذه المدينة أقامت حامية من العساكر المصريين واتخذت موقعاً لثكناتها الهضبة الواقعة خارج السور في الجهة الغربية المطلة على بيروت التي كانت ما تزال بلدة صغيرة لا يزيد طول عمرانها عن ثمانماية متر وعرضه نحو اربعماية متر.
ان اختيار ابراهيم باشا لهذه الهضبة جاء نتيجة لأهداف عسكرية ذلك أنها بعيدة عن مزدحم السكان وبالتالي تتحكم بالإشراف على المدينة وتعتبر صالحة لأن تكون استحكاماً يخوّل من يسيطر عليها أن يسيطر بالتالي على المدينة نفسها بكامل مناطقها وامتداداتها، وأثناء الاحتلال المصري تواضع الناس على تسمية هذه الهضبة بإسم الثكنات.
وظل البيروتيون، وحتى عهد قريب من أيامنا، يشيرون بكلمة الثكنات الى هذه الهضبة التي كان وجود العساكر المصرية فيها سبباً لأن تقيم بقربها بائعات الهوى اللواتي كن هدفاً لأولئك العساكر وجمهرتهم من الشبان العازبين البعيدين عن أهلهم وديارهم. وكان اصطلاح "وراء الثكنات" يعني المحلات المخصصة لأولئك البغايا.
سنة 1840 تمكنت الدولة العثمانية من استرجاع السيادة على البلاد السورية بمساعدة من الانكليز والطليان والنمساويين الذين كانوا متحالفين معها. وكان من الطبيعي أن تضع السلطات العسكرية العثمانية نصب اعينها الإفادة من موقع الهضبة التي استعملها المصريون لإقامة ثكناتهم العسكرية فيها. وبادرت السلطات المذكورة الى اقامة بناء في الهضبة المذكورة ليكون مقراً لأجهزتها العسكرية والمدنية ثم أمرت الدولة العثمانية بنقل مقر الولاية من صيدا الى بيروت وتم العمل بهذا التدبير سنة 1841 وعُين آنذاك والياً على بيروت سليم باشا - على أن هذا الوالي لم تطل مدته إذ استبدلت به والياً جديداً يدعى عزت باشا.
في هذه الفترة ارتفع في الهضبة البناء الذي أصبح مقراً للحكام العثمانيين ومن ذلك الحين عرف البيروتيون هذا البناء بإسم "القشلة" أو "القشلة العسكرية".
في سنة 1842 عُزل عزت باشا وتولى أسعد باشا الذي بادر على الفور الى تجديد القشلة لتستوعب الموظفين العثمانيين العسكريين منهم والمدنيين.
وقبل أن نتمادى في الحديث عن الأطوار التي مرت على هذا البناء العثماني القديم لا بد لنا من الوقوف قليلاً لنبين السبب الذي أصبحت كلمة القشلة علماً عليه ردحاً متطاولاً من الزمن امتد من أواسط القرن التاسع عشر الماضي الى أواسط القرن العشرين الحالي.
نقول: القشلة، هي اللفظ العامي في بيروت لكلمة القشلق، أو القشلاق. والقشلق، أو القشلاق، كما يقول المؤرخ المعروف عيسى اسكندر المعلوف في حاشية كتابه تاريخ الأمير فخرالدين المعني الثاني، ص 89: كلمة تركية بمعنى ضريبة وتطلق على جابيها فيسمّى بها. ونقل عن محمد بن جمعة الحفّار الدمشقي في مخطوطته "الباشات والقضاة بالشام" ما نصّه: "سنة 1041ه كان والي دمشق محمد باشا، وقاضيها أحمد أفندي الحلبي، وفيها قشلق عسكر حضرة السلطان مراد، وتفرقت على البلدان، فحضر دمشق اثنا عشر ألف اسباهي، ما عدا أتباعهم وكان مأكلهم ومشربهم من أهل دمشق. استقام العسكر في دمشق أربعة أشهر، فلما عزموا على السفر أخذوا ترحيلة من أهل دمشق على كل خانة خمسين قرشاً وصار لأهل دمشق هذا الحصر العظيم الذي لم يُعهد بمثله، وقال بعضهم تاريخاً:
يا ما جرى بجلِّق
من البلاء المطبق
كم ضربت فأرخوا
محلة بالقشلق
وذكر بعضهم وهو أبو بكر العمري مشيراً ان أحمد بن عوض العينتابي الذي ساعد في دفع شرهم نظم قصيدة ختمها بتاريخ وهو:
لقد غزينا دون وعد بلآ
لام فأرح سنة القشلق
وقد أراد اسقاط جمّل اللام أي عدد 30 من التاريخ فتبقى السنة 1042ه 1631م.
وجدير بالذكر أن نشير هنا بأننا أدركنا أهل بيروت وهم يطلقون على هذا البناء اسم القشلة، وربما قالوا القشلة العسكرية، وربما قالوا كذلك، القشلة الحميدية، نسبة الى السلطان عبدالحميد الثاني الذي حكم الدولة العثمانية من 1873 الى 1909. هذه القشلة التي كانت مقراً للوالي العثماني في بيروت سرعان ما استقطبت أعيان البلد الذين اكثروا من بناء مساكنهم بالقرب منها وفيما حولها ليكونوا بجوار الوالي ويفوزوا بالاتصال به عن قرب بدون مشقة، كذلك. وهكذا أصبحت محلة الثكنات مجمعاً لمساكن أعيان البلد من الوجهاء والعلماء وكبار الموظفين.
من المفروض ان بناء القشلة كان يحمل في واجهته الرئيسية نقيشة رخامية تحمل شعار السلطة واسم السلطان وتاريخ البناء ولكن هذه النقيشة اللوحة الرخامية ليست موجودة، وقد تكون ازيلت على يد قوات الاحتلال الفرنسي عندما استحوذت على بيروت في أواخر أيلول سبتمبر وأوائل تشرين الأول أوكتوبر 1918 في أعقاب خروج العثمانيين منها. لذلك فإننا لا نستطيع تحديد بداية هذا البناء ولا تعيين الجهة التي أمرت به، وكل ما نستطيع قوله ان هذا البناء هو من الإنشاءات العثمانية التي اقيمت في بيروت بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي الماضي. على أنه مما لا شك فيه فإن البناء الحالي الذي نراه اليوم يحمل بصمات التجديد الذي أدخله عليه أسعد باشا الذي تسلم ولاية المدينة خلفاً لسلفه عزت باشا. وبقي البناء على حاله الى عهد السلطان عبدالحميد الثاني الذي أمر بأن يشاد فوق هذا البناء طابق علوي وذلك حسبما جاء في جريدة ثمرات الفنون عدد صفر سنة 1316ه كانون أول / ديسمبر سنة 1898م.
أطلق الناس على هذا البناء أسماء كثيرة مثل: الموقع العسكري والسراي أو السرايا أو السراية. وهاتان الكلمتان لهما مدلول واحد من حيث الاصطلاح الدارج وذلك أنهما تعنيان البناء الفخم أو الصرح الكبير الذي يكون عادة مسكناً أو مقراً للطبقة العليا من القوم أو مركزاً للحاكم ومعاونيه. ولما كانت الدولة العثمانية متأثرة بنشأتها العسكرية فإنها حرصت على أن تكون عماراتها الرسمية متميزة بالفخامة والضخامة لكي توحي للجمهور بمهابة وعظمة من توليهم مقاليد الأمورم.
ولقد بقيت السراية القشلة مقراً لمن تولوا حكم بيروت من المتصرفين والولاة. وآخر وال عثماني اتخذها مقراً له هو اسماعيل حقي بك الذي تركها يوم غادر بيروت في أواخر شهر ايلول سنة 1918 بعد جلاء العثمانيين عنها واحتلالها من قبل الحلفاء الإنكليز والفرنسيين. وأشهر من استعملها كرسياً له هو الوالي أحمد حمدي باشا صاحب القبر الموجود اليوم داخل جبانة الباشورة في المحلة التي نسبت اليه وهي محلة قبر الوالي الواقعة على امتداد محلة البسطة التحتا للجهة الشمالية، وكان القبر في الأصل في نهاية الأرض التي تقوم عليها ثانوية المقاصد للبنات اليوم والتي كانت في الماضي المدرسة السلطانية.
في سنة 1898 شيد بجوار السراي برج عالٍ وضعت فيه ساعة كبيرة تذكاراً لعيد جلوس السلطان عبدالحميد الثاني وكان بناء هذا البرج من قبل بلدية بيروت التي كان على رأسها الشيخ عبدالقادر القباني رحمه الله.
وفي 15 رجب سنة 1316ه تشرين الثاني / نوفمبر سنة 1898م صدرت جريدة ثمرات الفنون لصاحبها الشيخ عبدالقادر القباني وفيها الخبر التالي: أذنت الحضرة السلطانية أن ينقش فوق باب برج الساعة العمومية الذي أنشىء في باحة الموقع العسكري في بيروت على أجمل شكل وأبدع صنع العبارة الآتي تعريبها بالحرف كان النقش باللغة التركية "أنشىء برج هذه الساعة من لدن من ازدان به مقام الخلافة الإسلامية وأريكة السلطنة السنية العثمانية السلطان ابن السلطان الغازي عبدالحميد خان علاوة على مؤسساته الحكومية النافعة وذلك عام ألف وثلاثماية وستة عشر هجرية". هذا البرج ما زال قائماً في مكانه حتى اليوم الا ان الساعة لم تعد موجودة في أعلاه، فهي قد فقدت أبان الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان من سنة 1975 حتى سنة 1990م.
وبالمناسبة فإن مثل هذا البرج والساعة التي في أعلاه قد شيد في طرابلس وكذلك في يافا وذلك بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على تولي السلطان عبدالحميد الثاني أريكة عرش السلطنة العثمانية.
ان تصميم البرج وضعه المهندس المعماري بشارة الدب أو كما كان معروفاً آنذاك بإسم بشارة المهندس.
احيطت السراي الكبرى بتخطيط من الاطارات الترابية التي نصبت فيها زروع الزينة وقد بقيت هذه الزروع طوال العهد العثماني وكذلك في أيام الانتداب الفرنسي وما تزال الذاكرة تستعيد ذلك الاطار الترابي وفيه زرعت بالعشب الأخضر العبارة المشهورة "العدل أساس الملك".
في الأرض الممتدة من السراي باتجاه الشمال بناء آخر وهو الذي أمر السلطان عبدالحميد الثاني بإقامته ليكون ما سمي آنذاك "خسته خانه". وهو اسم تركي مؤلف من كلمتين: خستا بمعنى مريض وخانة بمعنى مكان. ويقابله باللغة العربية الدارجة في أيامنا كلمة "مستشفى". وقد أشارت جريدة ثمرات الفنون الى هذا البناء في جميع المؤسسات التي أمر ببنائها السلطان عبدالحميد الثاني. وقد أطلقت الجريدة على البناء اسم "المستشفى البلدي" وقالت ان انشاءه كان بأمر من السلطان المذكور، ومعنى ذلك أن تاريخه يعود الى العصر الحميدي وربما كان ذلك نحو سنة 1881م وهي السنة التي تم فيها بناء السراي الصغرى التي كان موضعها في نهاية ساحة البرج من الجهة الشمالية. وهي السراي التي يقول ابراهيم نعوم كنعان في كتابه "بيروت في التاريخ، ص 97 إن المسيحيين والمسلمين في سنة 1881 تعاونوا لى دفع أكلافها بإدارة المهندس بشارة الدب والتي هدمتها حكومة لبنان الاستقلالية في سنة 1950 بإصرار من المرحوم رياض الصلح.
وجدير بالذكر أن هذه السراي الصغرى كانت مخصصة للحكومة المحلية في أيام العثمانيين وبقيت كذلك في أيام الانتداب الفرنسي قبل استلام الحكومة اللبنانية للسراي الكبرى في أول نيسان ابريل سنة 1946م. والمستشفى المذكور كان الناس في العهد العثماني يطلقون عليه اسم "المستوصف العسكري" وربما كان ذلك لأنه في أكثر خدماته كان مخصصاً للعساكر.
في الجناح الشمالي من هذا المستوصف كانت توجد الصيدلية التي تؤمن الأدوية لنزلائه من المرضى. وكانت هذه الصيدلية تسمى بمصطلح ذلك الزمان "اجزاخانه"، ولقد أدركنا شخصياً هذا الاسم مكتوباً بأحرف من الحديد المثبت على الجدار المواجه لكاتدرائية الكبوشية في محلة باب ادريس. هذه الحروف أزيلت من الحائط خلال الاضطرابات التي عمت بيروت في زماننا.
بقيت السراي الكبرى القشلة والمستوصف الخستة خانة تؤديان الأغراض المناطة بهما سواء لجهة وجود السلطة العثمانية الحاكمة في أولاهما أو لمعالجة المرضى ورعايتهم في الثانية وذلك حتى انزال العلم العثماني عنهما صباح يوم الأحد في 29 أيلول وخروج العساكر الأتراك والألمان من بيروت بسرعة خوفاً من قطع خط الرجعة عليهم. وقد شعر الناس في ذلك اليوم بزلزلة شديدة فاستولى الرعب على القلوب، وبعضهم رأى في هذه الزلزلة اشارة لغضب الله تعالى على ما أصاب هذه البلاد من وقوعها في قبضة احتلال الحلفاء الكفار بعد أن كانت تحت السيادة العثمانية الإسلامية. وقبل فجر يوم الثلثاء في أول تشرين الأول غادر السراي الكبرى إسماعيل حقي بك آخر وال عثماني في بيروت مع مجموعة الموظفين الأتراك الذين كانوا يعملون معه.
ونهار الأربعاء في الثاني من تشرين الأول أعلنت الحكومة العربية بدمشق عمر بك الداعوق رئيس بلدية بيروت أنه أصبح مسؤولاً عن السلطة بإسم الحكومة المذكورة.
في الرابع من تشرين الأول، عند الساعة الرابعة بعد الظهر زحفت بيروت بشيبها وشبانها وسائر سكانها للاحتفال برفع الراية المربعة الألوان، الأبيض والأخضر والأحمر والأسود، راية الشريف حسين بن علي، على السارية المنصوبة فوق مدخل السراي الكبير وقد تولت الآنسة فاطمة المحمصاني رفع هذه الراية تكريماً لذكرى شقيقيها محمد ومحمود المحمصاني اللذين أعدما شنقاً في السادس من أيار سنة 1916 لتعاونهما مع الحلفاء انكلترا وفرنسا ضد الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية، وحضر هذا الاحتفال الفريق شكري باشا الأيوبي ممثل الحاكم العسكري في دمشق ورئيس أركان حربه جميل بك الإلشي.
وعند رفع العلم العربي فوق سارية السراي الكبرى ارتفع صوت الشيخ مصطفى الغلاييني رحمه الله منشداً قصيدته التي قال فيها محيياً هذا العلم:
راية العُرب راية المدينة
راية المجد، راية الحرية
أنت مهوى آمالنا الوطنية
ومنار يهدي السبيل السويّة
دمت فينا مدى الزمان عليّة
بك تحمى الحمى المفدى ونجني
ثمرات تحيي القلوب وتُغْني
ونرجّي الحياة في روض أمين
وارفاً ظلّه خصيبٍ أغنّ
في حمى دولة العلى العربية
ولكن ما هي إلا ثلاثة أيام مرت على قدوم الأيوبي من سورية حتى وصلت الجيوش الحليفة براً وبحراً واحتلت بيروت وسائر الساحل اللبناني وذلك في اليوم الثامن من تشرين الأول سنة 1918. واستلم السراي الكبرى وأصبح حاكماً عسكرياً للبلاد التي سميت آنذاك "أراضي العدو المحتلة" الكولونيل الفرنسي دو بياباب، معيناً من قبل قائد الجيوش الحليفة الجنرال الإنكليزي اللنبي. وقد أمر الكولونيل دو بياباب بإزالة العلم العربي عن دار الحكومة السراي الكبرى وكذلك عن جميع المؤسسات الرسمية في بيروت وجبل لبنان وطرابلس وصيدا وصور. وفي اليوم التاسع من تشرين الأول رفع العلم الفرنسي المثلث الألوان الأزرق والأبيض والأحمر وعاد الفريق الأيوبي الى دمشق وخلت السراي الكبرى من كل مظهر من مظاهر العروبة والاستقلال، وأصبحت من بابها الى محرابها في عهدة الادارة الفرنسية مدنياً وعسكرياً في آن واحد.
القشلة - المفوضية العليا
بعد الاحتلال، وهو الاصطلاح الذي استعمله الناس في التعبير عن دخول الفرنسيين الى البلاد بعد الحرب العمومية الأولى، أصبحت القشلة تسمى عند الرسميين المفوضية العليا Le haut Commissariat وذلك لأن الحاكم الفرنسي الذي حل فيها محل الوالي العثماني كان يعرف بلقبه الفرنسي "المفوض السامي - Le haut Commissaire وأول من حمل هذا اللقب هو جورج بيكو، قنصل فرنسا في بيروت خلال الحرب وأحد طرفي الاتفاق المعقود بين فرنسا وانكلترا لاقتسام سورية المعروف بإسم، اتفاقية سايكس - بيكو، والطرف الآخر هو سايكس، أحد كبار موظفي وزارة الخارجية في انكلترا.
أما الأوساط الشعبية فإنها احتفظت لهذا البناء بإسمه القديم وهو "القشلة" وبقي هذا الإسم سائداً في الأوساط المذكورة الى آخر أيام الانتداب الفرنسي في هذه البلاد ثم حلت محله كلمة السراي الكبرى بمقابل السراي الصغرى التي بناها العثمانيون في الجهة الشمالية من ساحة البرج سنة 1881م وهدمت في أيام رئيس الحكومة اللبنانية رياض بك الصلح سنة 1950 كما بيّنا من قبل.
وبقيت السراي الكبرى المقر الرسمي للحاكم الفرنسي المفوض السامي حتى أول شهر نيسان سنة 1946م. ففي هذا التاريخ تسلمت الحكومة اللبنانية التي كان يرأسها سامي بك الصلح عدداً من المصالح التي كانت ما زالت بيد الفرنسيين ومنها السراي المذكورة، وابتداءً من هذا التاريخ تحولت هذه السراي الى مقر لرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وبقية الوزارات في الحكومة اللبنانية. وكانت جميع هذه المؤسسات مجتمعة في سراي البرج، أي السراي الصغرى، وأول من اتخذ له السراي الكبرى مقراً له هو الشيخ بشارة الخوري أول رئيس لجمهورية لبنان في عهد الاستقلال وسامي بك الصلح الذي كان رئيساً للوزارة عندما استلمت الحكومة اللبنانية هذه السراي.
المستشفى البلدي - قصر العدل
هذا البناء ما زال موجوداً على حاله التي كان عليها يوم أمر السلطان عبدالحميد الثاني ببنائه ليكون "خسته خانه". هكذا كان آباؤنا الأقربون يسمونه كما سمعوه من أبناء زمانهم في أواخر العهد العثماني، وخسته خانة هو التسمية التركية التي يقابلها بالعربية المستشفى". وعندما بني هذا المستشفى لأول مرة في أيام السلطان عبدالحميد الثاني، التحق به جناح في الجهة الشمالية منه ليكون صيدلية وهو ما كان يسمى في العهد العمثاني "اجزا خانة".
ونحن شخصياً أدركنا كلمة اجزاخانة وهي مؤلفة من حروف حديدية مثبتة في حائط المستشفى لجهة الشمال بمقابل الكاتدرائية الكبوشية في باب ادريس. وقد أزيلت هذه الحروف خلال الحرب الأهلية التي عمت لبنان من سنة 1975 حتى سنة 1990م.
وعندما دخل الفرنسيون بلادنا أمروا بتحويل المستشفى الى دار للعدل ومركز للقضاء وأصبح البناء معروفاً عند الناس بإسم "العدلية"، والعامة يلفظون الكلمة "العادلية" أما في الدوائر الرسمية فكان الإسم المتداول هو "قصر العدل" وكان هذا البناء يضم جميع مكاتب القضاء والقضاة ومختلف المحاكم من حقوقية وجزائية ومدنية وبجانبها جناح خاص للمحاكم المختلطة التي كانت أيام الانتداب الفرنسي تحت اشراف قاض فرنسي ومعه معاونون من القضاة اللبنانيين واختصاص هذه المحاكم يتناول القضايا التي تتصل من قريب أو بعيد بالشؤون السياسية التي تمس الانتداب أو يكون أحد الفرنسيين طرفاً فيها، ولقد ألغيت المحاكم المختلطة بعد استلام الحكومة الوطنية المؤسسات التي كانت خاضعة لإشراف الفرنسيين.
كان يوجد في أول الساحة الداخلية لقصر العدل شجرة كبيرة وارفة الظلال متشابكة الأغصان. وتحتها بعض الكراسي العربية يستريح عليها القضاة قبيل بدء دوامهم الرسمي وكذلك المحامون الذين ينتظرون حلول مواعيد قضايا موكليهم. ولقد جرت عادة القضاة أن يتحلقوا بعضهم حول بعض في صباح كل يوم حتى إذا ما حضر سامي بك الصلح، وكان رئيس محكمة الجنايات قبل انتقاله الى النيابة ومنها الى رئاسة الوزارة، يقبل عليه أولئك القضاة مرحبين مقبلين يده ثم يتوجهون خلفه كلٌ الى محكمته أو مكتبه.
لقد كانت الباحة التي تتقدم مدخل قصر العدل المكان المخصص لتنفيذ أحكام الاعدام بالجناة الذين ينزل القضاء هذا الحكم القاسي بهم وعندما يحل موعد تنفيذ هذا الحكم يقوم العمال بتغطية أرض هذه الباحة بالرمل الأحمر وينصبون فيها ارجوحة تسمى المشنقة ثم يؤتى بالمحكوم من سجن الرمل قبيل الفجر المحدد للتنفيذ ويتم اعدامه بصورة علنية أمام الجمهور للعبرة والاتعاظ بعد أن يتلو القاضي نص الحكم بإعدامه. وكان الذي يتولى القيام بالتنفيذ موظف مخصص لهذه المهمة فقط وهو من آل توتيو في بيروت، ولما توفي هذا الرجل حل مكانه شخص آخر من طائفة السريان المقيمين في محلة نهر بيروت... على أنه في المدة الأخيرة صرف النظر عن تنفيذ عقوبة الاعدام بمواجهة قصر العدل وأصبح التنفيذ يتم داخل باحة سجن الرمل في بيروت. وبالمناسبة أذكر ان من أهم المحاكمات التي جرت في قصر العدل كان بطلها الشيخ عبدالحميد أفندي كرامي وتفصيل ذلك أنه رحمه الله ذهب في مناسبة لاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف بطرابلس للسلام على الزعيم الدمشقي فخري بك البارودي في أوتيل ماريات ياشا في ساحة التل وقبيل دخوله اعترضه شاب من احدى العائلات المناوئة له محلياً وأوقع عمامته عن رأسه فما كان من الشيخ عبدالحميد إلا أن أخذ مسدسه من تحت سترته وأطلق منه عياراً نارياً على الذي تطاول عليه فأرداه قتيلاً للتو. ولقد حوكم زعيم طرابلس في قصر العدل حيث اشترك في هذه المحاكمة بوصفهم محامين لكلا الطرفين المدعي والمدعى عليه كلٌّ من الشيخ بشارة الخوري وحميد فرنجية ورياض الصلح... وقد أصبح الجميع في جوار أكرم الأكرمين وكانت هذه القضية المهمة نحو 1934م.
واتماماً للفائدة نقول ان المحاكمة انتهت بالمصالحة بين الأطراف المعنية واكتفت المحكمة بالحكم على الشيخ عبدالحميد أفندي كرامي بغرامة مالية مقدارها عشر ليرات لبنانية لحيازته سلاحاً غير مرخص - وكفى الله المؤمنين القتال.
قبيل الحرب الأهلية التي غطت آثارها المحزنة جميع الأراضي اللبنانية استعمل بناء قصر العدل مقراً لكلية الفنون وادارة الأعمال التابعة للجامعة اللبنانية وتحول القضاء والقضاة والمتقاضون الى قصر العدل الجديد الذي بني بالقرب من مجرى نهر بيروت حيث ما زال العمل فيه مستمراً حتى اليوم. وفي فترة الحرب تعرض بناء قصر العدل القديم للخراب والدمار فاختلفت أبوابه وحطمت نوافذه وخربت مكاتبه وبقي شاغراً ومهملاً لا حياة فيه لديار ولا نافخ نار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.