تمثل الصراعات التي اندلعت في حزب الأحرار المصري المعارض، بعد وفاة رئيسه مصطفى كامل مراد "البروفة" العامة للمشهد المرشح للتكرار بشكل أو آخر في معظم الأحزاب المصرية الرئيسية بعد غياب الزعيم. ذلك أن رؤساء هذه الأحزاب ينتمون الى جيل الشيوخ فوق السبعين الذي هو في طريقه إلى اخلاء الساحة لغيره. لكن الطرف الذي يفترض أن يخلف الزعيم، لا يحظى بتأييد غالبية أعضاء الحزب. والحاصل أن حدة صراعات حزب الأحرار الحالية، هي جانب من تجليات أزمة متعددة الجوانب تعانيها قيادات الصف الثاني في معظم الأحزاب المصرية. وإذا صح أن هذه الصراعات تعبر عن نزوع هذه الأطراف الى بلورة قيادتها المؤسسية، فإن مؤشرات نجاح هذا النزوع شحيحة إلى الحد الذي لا يسعف بتوقع انجازات ملموسة لهذه الأطراف في المدى القريب. لأنه نزوع مثقل بكوابح كثيرة. يكمن بعضها في طبيعة تكوينها الذاتي الفكري أو السياسي أو الحزبي، أو جميعها معاً. غير أن أهم تلك الكوابح، مجموعة الظروف والصفات الاستثنائية التي وفرت لزعماء الأحزاب الرئيسية وضعاً استثنائياً متميزاً ومستقراً. إذ أن زعماء الأحزاب الرئيسية للمعارضة، شاركوا في الحركة السياسية والوطنية منذ ما قبل ثورة يوليو 1952. وحققوا بدرجات متفاوتة، ظهوراً سياسياً متميزاً على المستوى القومي: فؤاد سراج الدين في الوفد القديم. وابراهيم شكري في "مصر الفتاة"، وخالد محيي الدين في "حدتو" الماركسي، ثم في "الضباط الاحرار". ومصطفى كامل مراد في "الضباط الاحرار". أما ضياء الدين داوود فهو أحدثهم في الظهور السياسي القومي بعد ثورة يوليو، مما حقق لهم مكانة مرموقة ووفر لهم خبرات سياسية، عززت - مع أسباب أخرى - فرص مبادراتهم في تأسيس احزابهم وتولي رئاستها لنحو 20 عاماً دون منافسة حقيقية. يتميز معظمهم بشخصيات "كاريزمية"، جعلتهم مراكز استقطاب وتراضٍ عام بين أعضاء أحزابهم. وقد مكنتهم شخصياتهم الجذابة والسلطات الواسعة بأيديهم من تحقيق توافق عام بين الاتجاهات والقوى المختلفة داخل احزابهم، ومن استيعاب حركة أكثر من جيل سياسي وتحقيق وحدة العمل والسياسة للحزب، وتسكين كثير من التناقضات الداخلية. ويؤكد الواقع أن عدداً من المواقع الحزبية القيادية الاخرى غير موقع الزعيم لا تؤثر بشكل دائم في عمل الحزب ومواقفه. وبشكل عام، يعطي تدخل زعيم الحزب - بحكم سلطاته ومكانته - في تحديد صلاحيات كل من قيادات الصف الثاني القيادية، يعطي فكرة عن طبيعة الصراع بعد غياب الزعيم، ويوحي بطبيعة وحجم الأوراق التي يملكها كل طرف في هذا الصراع ويكون عادة جمعها قبل غياب زعيم الحزب وفي ظل حمايته، مما يكشف حال "توازن الضعفاء" بين الأطراف المتصارعة في فترة "ما بعد الزعيم". لكن هذه الاعتبارات الاستثنائية المهمة لا تكفي وحدها لتفسير حدة الصراعات الحالية في "الاحرار" بعد غياب زعيمه، والمرجح تكرارها على نحو أو آخر في الاحزاب الاخرى حال غياب زعمائها، علماً أن صراعات أخرى أقل حدة نشبت في وقت سابق في "الأحرار" و"العمل" في حياة زعيميهما، واستدعت تدخل قوات الأمن ومصفحاته، على رغم ان ساحة الصراع عبارة عن أحزاب تعاني من محدودية العضوية والشعبية. لكن ما هو ظاهر من وقائع الصراع غير منقطع الصلة بالتغيرات العميقة التي احدثتها سياسات الانفتاح الاقتصادي بلا ضوابط منذ السبعينات من جهة، والتحولات الاجتماعية العميقة التي رافقت الانتقال الى الاقتصاد الحرّ بعد ذلك من الجهة الاخرى. وهي التغيرات والتحولات التي أفرزت ضمن ما أفرزته ظاهرة "البيزنس السياسي". أي اقتحام جماعات من الافراد عالم السياسة الحزبية لتوظيفه في تحقيق المصالح وعقد الصفقات وتكوين الثروات. كل ذلك يكشف حال الفراغ الضخم الذي سينجم - بشكل أو آخر - عن غياب الزعيم الحزبي. مما يدفع الى التساؤل: من هو الشخص الذي يمكِّن أن يحقق وحدة العمل والسياسة في هذه الأحزاب بعد غياب زعمائها؟ سيمضي بعض الوقت قبل أن تجيب التطورات على ذلك. لكن المرجح حتى الآن أن تتعرض هذه الأحزاب الى انشقاقات متباينة، أو يلجأ بعضها الى تشكيل مجالس رئاسية تضم ممثلين لمختلف الفرقاء. وفي كل الأحوال لن تكون هي الاحزاب نفسها التي كانت قائمة قبل غياب زعمائها. وإذا صح القول بأن مشهد صراعات حزب "الأحرار" قد لا يتكرر بحذافيره، وإنما في صور أخرى بالأحزاب المختلفة، فإنه من الصحيح أيضا القول بأن ملف مستقبل هذه الأحزاب، أضحى مفتوحاً للتدبر والبحث والقلق معاً.