تصاعدت في الفترة الاخيرة مشاهد الصراع الداخلي لدى عدد من الاحزاب السياسية المصرية، لأسباب مختلفة وبأشكال متباينة. لكن الملاحظ انها اتخذت، في حالتي الحزب الناصري وجماعة الاخوان المسلمين المحظورة، اشكالاً من التمرد اشبه ما تكون بقمة جبل الثلج العائم، ذلك أنها تخفي تحتها أزمة فكرية وسياسية متعددة الجوانب، يعانيها جيل الوسط الحزبي - جيل الستينات والسبعينات - منذ وقت. وجاءت إحباطات نتائج الانتخابات الاخيرة، تشكل حافزاً اضافياً للتمرد الحالي. من تجليات هذا التمرد في الحزب الناصري مثلا، الانتقادات العنيفة التي تعرض لها الحرس القديم للحزب من قيادات جيل الوسط من رموزه حمدين صباحي وأمين اسكندر ومحمد حماد وآخرون . واتخذ شكل تحركات وترتيبات حزبية في الداخل تصمم على اجراء انتخابات في اللجنة المركزية التي تأجل انعقادها لاكثر من عام، والمقرر ان تجتمع هذه الايام. ولا يخفي بعض رموز هذا الجيل عزمه على ترشيح نفسه لمنافسة قيادات الحرس القديم. وليس سرا ان قيادة الحزب تجاهد بوسائل وترتيبات معاكسة لتأجيل اجراء الانتخابات الداخلية. ويأتي قرارها اخيرا بتأجيل انعقاد المؤتمر العام للحزب لنحو عام ضمن هذه الترتيبات المعاكسة. ومعروف انه من بين النقاط العالقة منذ المؤتمر العام الاول للحزب 1992، قضية تمثيل جيل الوسط في رئاسة الحزب. وليس سراً ايضا ان هذا الجيل يطرح حلا بديلا لما هو قائم، وذلك في صيغة ان يظل منصب رئيس الحزب لجيل الحرس القديم ضياء الدين داود حاليا وان يسند منصب الامين العام لجيل الوسط. وهو الاقتراح الذي يرفضه الحرس القديم حتى الآن. ومن المشاهد الأخرى للتمرد التصريحات المناوئة الصادرة عن بعض رموز جيل الوسط، التي تتهم الحرس القديم بتفريطه في مبادئ الحزب، ومهادنته الحكومة، وعجز ادائه السياسي والحزبي، بسبب مشكلات حزبية اخرى متنوعة، تجمد نشاط عناصر قيادية من جيل الوسط احمد الجمال مثلا. واكتفت عناصر اخرى بانتمائها السياسي عن بُعد مع فك ارتباطها الحزبي محمود زينهم عضو مجلس الشعب .. وآخرون. وأبرز تجليات ذلك التمرد في كواليس جماعة الاخوان المسلمين المحظورة، تقدم عناصر من جيل الوسط الاخواني بطلب الى الجهات الرسمية المختصة لاجازة تأسيس "حزب الوسط". ومع ان هذه الخطوة تمت في اطار توجه عام لمكتب الارشاد بالعمل على تأسيس حزب او احزاب تعمل الجماعة من خلاله بعد اجازته قانونيا، تفيد معلومات موثوقة ان قيادة الجماعة فوجئت بالامر لانها لم تصدر تكليفا الى هذه العناصر لتنفيذ ذلك القرار تحديدا. ولهذا عاتبهم المرشد العام علانية على نفيهم لانتمائهم الاخواني مؤكداً "حزب الوسط" ليس بعيدا عن الجماعة وإن كان لا يمثلها. وفسر نفيهم لانتمائهم الاخواني بأنه "درء للشبهات" عنهم حتى تجيزه لجنة الاحزاب المختصة. واضاف بحسم ان الجماعة ترحب بمن يرغب في الاستمرار معها. وتمنى التوفيق لمن يرغب في خوض تجربته الذاتية، ما اضطر ابو العلا ماضي وكيل مؤسسي حزب الوسط للادلاء بتصريحات يقول فيها أن "حزب الوسط ليس اخوانيا لكن شعاره الاسلام هو الحل". وثاني مشاهد التمرد - عند الاخوان - اعلان بعض مؤسسي حزب الوسط الاخواني الطعن بشكل غير مسبوق في طريقة مبايعة الشيخ مصطفى مشهور مرشدا عاما جديدا. وازداد الموقف تأزماً عندما طالب مؤسسو الحزب باحالة مأمون الهضيبي نائب المرشد العام المتحدث الرسمي باسم الجماعة الى التحقيق بدعوى انه المسؤول عن الطريقة التي تمت بها مبايعة المرشد. وكانت خطوة تأسيس حزب الوسط، حسب المصدر نفسه لاقت ارتياح عناصر من الجيل نفسه يقضون احكاما بالسجن بعد ان دانتهم المحكمة العسكرية العليا. قيادة كاريزمية والحاصل ان تمرد جيل الوسط، في حالتي "الناصري" و"الاخوان"، جزء من ازمة جيل الوسط في المجتمع ككل. لكن هذه الازمة على مستوى الشارع الحزبي، لم تنعكس حتى الان في صورة صراع جيلي داخل الاحزاب الا في حالتي الناصري والاخوان. ومرد ذلك، اسباب عدة أهمها اثنان استثنائيان. الأول، عدم توافر قيادة كاريزمية مثل شخصية جمال عبدالناصر وشخصية حسن البنا. فاذا كان كل منهما بشخصيته الكاريزمية قد وحد بين اتجاهات وقوى مختلفة من انصار ثورة يوليو او من انصار الاتجاه الديني الاسلامي، فمن هو الشخصية الكاريزمية الناصرية او الاخوانية القادر على تحقيق وحده الفكر والعمل داخل "الناصري" و"الاخواني" واستيعاب اكثر من جيل فيهما؟ في حين ان درجة مناسبة من هذه الكاريزمية تتوافر لفؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد وخالد محي الدين رئيس حزب التجمع وابراهيم شكري رئيس حزب العمل. ولهذا لا ينخرط جيل الوسط في الاحزاب الثلاثة الاخيرة في صراع جيلي، وانما يشتبك في الصراعات الحزبية بصفوفها المختلفة من الشيوخ والوسط والشباب. الثاني، ان جيل الوسط هو الذي تحمل العبء الحركي الكامل في بناء التنظيم الناصري او في اعادة بناء التنظيم الاخواني، سواء عندما كانت قيادات الحرس القديم في السجون او حتى بعيد خروجهم منه. فجيل الوسط الناصري هو الجيل القادم من "المعهد الاشتراكي" و"منظمة الشباب" ومن تظاهرات اذار مارس 1968 التي طالبت عبدالناصر بالتغيير واستجاب لها بتصحيح بعض القرارات واستوعب حركة احتجاج هذا الجيل في ميثاق 30 آذار، وهو ايضا الجيل القادم من "حركة نوادي الفكر الناصري" في الجامعات في السبعينات عندما تصدى بالتظاهرات الاحتجاجية مطالبا بالحرب ضد اسرائيل لتحرير الاراضي المحتلة او للاحتجاج على سياسات انتهجها الرئيس أنور السادات واعتبرها هذا الجيل خروجا على الناصرية وثورة يوليو ثم فوجئ جيل الوسط أثناء تأسيس الحزب الناصري بان الحرس القديم من وزراء او قياديين سابقين في الاتحاد الاشتراكي، يعقد القيادة لنفسه منفردا، في حين ان لجيل الوسط تحفظات عن عناصر في الحرس القديم هزمت في صراعها مع السادات 16 ايار/ مايو 1971 على رغم انها كانت تتولى قيادة الجيش والداخلية والمخابرات والاعلام، بمعنى ان السلطة كانت في يد هذه العناصر لكنها لم تسيطر عليها نتيجة صراعاتها. اما جيل الوسط الاخواني فهو ايضا يضم العناصر الحركية الفاعلة القادمة من المعارك ضد اليسار في الجامعة عصام العريان وعبدالمنعم ابو الفتوح وابو العلا ماضي والملتحقة بجماعة الاخوان وبعد خروج حرسها القديم من السجون انقطع نشاطه السياسي والحركي عن المجتمع لفترات تتراوح بين عشر سنوات وعشرين سنة. وتعود الى جيل الوسط الاخواني تحديدا النجاحات التي حققتها الجماعة في النقابات المهنية الاطباء، المهندسين، الصيادلة، المحامون. ومع هذا ظلت عناصر الحرس القديم تنفرد بقيادة الجماعة، ومرد تكتم التمرد الاخواني طبيعة التربية الاخوانية على السمع والطاعة فضلا عن تقاليد اخرى راسخة لدى الجماعة. الوطني والوفد وتتنوع اسباب عدم بروز حالة تمرد الوسط داخل الاحزاب الرئيسية الاخرى. فالحزب الوطني، كونه الحزب الحاكم، يستطيع استيعاب حركة جيل الوسط وطموحاته العملية من خلال مئات الاجهزة الحزبية والمؤسسات التنفيذية والتشريعية والاعلامية والانتاجية اضافة الى آلاف لجان حكم المحليات. وحدث ان شارك جيل الوسط في تأسيس حزب "التجمع" واسندت الى عناصر منه مناصب قيادية اتسعت مساحتها مع مضي الوقت نظراً الى غياب عناصر من جيل الشيوخ. أما الوفد فتنصب صراعاته الحزبية الداخلية على ترتيبات وراثة رئاسة الحزب في حالة غياب زعيمه الذي يحاول دفع رموز من جيل الوسط فيه فؤاد بدراوي لتلميعها واعدادها. بينما تحتدم الصراعات على الوراثة بين عناصر تخطت الستين من العمر ياسين سراج الدين ونعمان جمعة. وتدور الصراعات الداخلية في حزب العمل بين قيادييه على المواقف السياسية والتحالفات، فيما تتوزع ولاءات رموز جيل الوسط فيه، وهي رموز بدأت العمل السياسي بانظمامها الى الحزب بعد تأسيسه. وهكذا يمكن القول إن قيادات هذه الأحزاب قادرة حتى الآن على استيعاب حركة جيل الوسط فيها بشكل أو بآخر. والحاصل ان مشاهد التمرد في حالتي "الناصري" و"الاخوان" هي بعض تجليات الازمة الفكرية والسياسية المتعددة الجوانب، التي يعانيها جيل الوسط الحزبي ككل. واذا صح ان هذه المشاهد تعبر ايضا عن نزوع هذا الجيل الى بلورة قيادته المؤسسية المستقلة فان وقائع نجاحات هذا النزوع لا تزال شحيحة الى الحد الذي لا يسعف المراقبين لتوقع انجازات كبرى لها في المدى القريب لانه نزوع مثقل بكوابح كامنة في طبيعة تكوينه الذاتي الفكرية او في طبيعة التحولات السياسية الموضوعية التي داهمته واصابته باحباطات. فقد تحددت الانتماءات السياسية لكثيرين من جيل الوسط المنخرط الان في الاحزاب القائمة من خلال أنساق فكرية وسياسية جاهزة ولم يكن له نصيب في تأسيس بنائها الفكري او السياسي او حتى التنظيمي، وكان مدخل فريق اليسار منه الناصري او الماركسي هو زخم التطبيقات العملية المبهرة وقتها للفكر القومي التجربة الناصرية او للفكر الماركسي التجربة السوفياتية والصينية وانشغل في معارك مواجهاتها - كحلم مطلق - ضد الغير الداخلي او الاممي. ومن هنا كان ضعف طبيعة تكوينه الفكري، على عكس جيل الحرس القديم الذي تحددت انتماءاته من خلال مدارس فكرية وسياسية اكثر تنوعا ورحابة. او من خلال مشاركته في تأسيس المنتديات والتنظيمات الفكرية والسياسية والقومية والاسلامية واليسارية مع بدايات التحول عن التجربة الناصرية منذ اوائل السبعينات من جهة، وتوقف التجربة السوفياتية عن انجاز إلهامات فكرية او تطبيقية جديدة فترة حكم بريجنيف من جهة اخرى بدأ الحلم المطلق في مرحلة الافول امام جيل الوسط الذي بدأ يتوزع. فجاهد فريق منه للصمود في انتمائه ضمن حالة عميقة من القلق الفكري والسياسي، وهو الفريق الذي التحق بعد ذلك بأحزاب "التجمع" او "العمل" في بدايات تأسيسه 1978 او "الناصري" 1992 وهاجر فريق آخر الى الخارج دول الخليج واوروبا واميركا وكندا واستراليا لحل مشكلاته الحياتية، وليس سراً أن أفراداً آخرين حلوا هذه المشكلة الحياتية باستثمار السياسة وصراعاتها للدخول في دائرة "رجال الأعمال". وهاجر فريق ثالث الى داخل المجتمع نفسه "لتكفيره" والاعداد لفتحه "اسلاميا" مرة اخرى جماعة التكفير والهجرة التي اسسها شكري مصطفى. والتحق فريق رابع بجماعة الاخوان اثر خروج حرسها القديم من السجن في السبعينات وراح فريق خامس ليؤسس جماعات العنف عمر عبدالرحمن وعبود الزمر وعبدالسلام فرج وكمال حبيب... وآخرون. وفي هذا السياق افرز اليسار، للمرة الاولى، ثلاث مجموعات صغيرة للعنف، إما ضد السياسات القائمة اواخر السبعينات واوائل الثمانينات تنظيم ناصري مسلح من رموزه صلاح دسوقي وعلي عبدالحميد وجمال منيب او ضد الوجود الاسرائيلي والاميركي في مصر تنظيم ثورة مصر، وابرز رموزه محمود نور الدين او من اجل تحقيق الحلم الذي اخفق الطريق السلمي عن تحقيقه تنظيم ماركسي صغير باسم الحركة الشعبية المسلحة ورمزه احمد سيف الاسلام. أربع صدمات واللافت ان فترتي السبعينات والثمانينات شهدتا اوسع حالة من التحرك الفكري والسياسي داخل جيل الوسط. فانتقل بعض رموزه من التيار الناصري الى التيار الماركسي حسين عبدالرازق وعبدالغفار شكر وحلمي شعراوي... وآخرون ومن الماركسي الى الاسلامي مجدي احمد حسين وآخرون ومن الماركسي الى الليبرالي اسامة الغزالي حرب وعبدالمنعم سعيد وآخرون. غير ان المساحة تضيق عن ذكر امثلة اخرى من التحرك الفكري والسياسي لرموز كثيرة من هذا الجيل. والحاصل ان هذا الجيل واجه اربع صدمات كبرى في حياته السياسية، اولها صدمة هزيمة 1967 التي زلزلت كيانه وكشفت عن اوجه كثيرة من قصور التجربة القومية التي التحق بها وما كاد يستعيد معنوياته بانتصار حرب تشرين الاول اكتوبر الذي امضى من اجله ست سنوات منخرطاً في تدريبات وخنادق الحرب ضد العدو حتى فوجئ بصدمة "السلام والتسوية" التي توالت ضمن سياق الاعتراف والتعايش مع العدو الذي "لم يعد عدوا"، ثم صدمة ان الاخاء العربي لم يعد كذلك حين غزت دولة عربية يرفع نظامها شعارات الوحدة القومية والعروبة العراق دولة عربية اخرى الكويت وما قادت اليه من تداعيات متداخلة ومعقدة في حرب الخليج الثانية. ومع هذه الصدمات انهار الحلم القومي والحلم الاشتراكي معا. وفي سياق هذه التطورات صعد تيار الاسلام السياسي في ايران وبدأت حرب "الجهاد" المسلح في افغانستان حيث التحق بها فريق من جيل الوسط، فافرزت ما اصبح يطلق عليهم اسم "الافغان العرب"، وعاد بعضهم الى مصر ليبدأ موجة من العنف المسلح الذي تدرب عليه جيدا اعضاء تنظيمي "العائدون من افغانستان ومن السودان مثل احمد فواز وحجاج سليم وحسني البحيري وظل بعضهم الآخر يواصل نشاطه وخططه من الخارج عمر عبدالرحمن وشوقي الاسلامبولي وطلعت فؤاد قاسم وايمن الظواهري ومصطفى حمزة وآخرون. وفي سياق التطورات نفسها اندفع فريق آخر كان من جماعة الاخوان في "خطة للتمكين" السياسي، حيث احرز نتائج ملموسة في النقابات المهنية او في مؤسسات التعليم. لكن هذين الفريقين واجها احباطاً كبيراً اثر عملية الصراع المجنون لفصائل المجاهدين بعد توليهم الحكم في افغانستان، فكف معظم الفريق الاول الافغان العرب عن المشاركة في هذا الصراع، ولزم الفريق الثاني صمتاً مطبقاً لم يحل دون ان يستفزه خصومه قائلين "هكذا ستفعلون بمصر اذا توليتم الحكم". وفي السياق نفسه من التطورات اندفع فريق من اليسار في جيل الوسط الى تأسيس الكثير من مراكز حقوق الانسان مركز الدراسات والمعلومات القانونية ومركز القاهرة ومركز المساعدة القانونية او تأسيس المراكز البحثية مركز دراسات الوحدة العربية ومركز الفسطاط ومركز الجيل وهي مؤسسات اصبح يعج بها المجتمع المصري ويديرها رموز من جيل الوسط، وباتت تستوعب جزءا كبيرا من نشاطه الفكري والسياسي. وهو ما يعد احد تجليات كل من ازمة جيل الوسط وازمة الاحزاب السياسية القائمة في الوقت نفسه.