"لا تنظر إلى هذه الكدمة الزرقاء... ولا إلى الجرح الذي يعلو قلبي، لا تنظر إلى التجاعيد التي بدأت تحفر حول عينيّ... ولا إلى الشعرات البيضاء التي تنبت في رأسي. فقط... انظر إلى روحي عشب آذار الجديد...". هكذا تكتب مرام المصري في مجموعتها "كرزة حمراء على بلاط أبيض" الصادرة في تونس عن "منشورات تبر الزمان"... تلك مرام المصري وتلك روحها: روح شفافة ومقطّرة كدماء مسفوحة من أعشاب حديثة القطع، تتجلى في أشعار بسيطة، أنيقة، براقة، ومسكرة كحبات عنب خمّرتها نقرات عصفور خبيث تروق له الحياة... وتوجعه. أشعار المجوعة حارة كلهاث قلب تعبان، صادقة ومرهفة، جارحة وبريئة كاعترافات خاطئة تشفق على الدنيا... ولا تطمع بأي مغفرة أو ثواب. مرام المصري شاعرة فضاء، لا تعترف بأية محميات للعواطف والقيم والأفكار. شاعرة حرية لا يردعها عن الحياة غير ضميرها الشعري، فوحده الحكم العادل الذي يرسم الحدود الفاصلة بين جحيم الشعراء وفردوس المنافقين. كأنما هي أول امرأة تمد يدها إلى تفاحة المعرفة. تعرّي روحها أمام أبصارنا دونما مخاتلة أو خوف، نحن كهنة الغبار المتحذلقين الذين عوّدتنا عقولنا الحولاء وفضائلنا المتعالية أن نرى في العري فضيحة تستأهل العقاب، وفي التجرّد من الزخارف الزائدة إثماً أزلياً لا يستحق غير استئصال الأصابع والألسنة والقلوب... وفي أكثر الحالات رأفة: الرجم، وخدش حياء السيّافين الذين يحرسون الكهوف السرية لحياتنا، خوفاً عليها - أو علينا - من أية فضيلة أو نسمة نور أو جائحة جمال. تصمت شعراً مرام المصري - فوق كل ذلك - شاعرة متواضعة، عاشت حياتها كلها خارج السباق. ولكنها استطاعت شيئاً فشيئاً أن تحفر مجراها الخاص والعميق، وتشكل عقدة جهنمية لشاعرات كثيرات... عبثاً يحاولن تقليدها واقتفاء آثار عبورها الشعري، كأنها رؤيا لا تطلّ إلا مرة واحدة. حياتها حافلة بعطايا الشعر، ولكنها غالباً ما تتركه يتسرب من بين أصابعها ويتدحرج أمام عينيها من دون أن تسعى إلى التقاطه وتكديسه في خزائنها لتتفاخر به في المناسبات المجيدة، سلطانة بلهاء، مدللة، تتفاخر بما تكدّس لديها من ثروات سقيمة لا تثير في العادة سوى العوانس وأرامل الصيارفة! حياتها حافلة بالعطايا: تكتب شعراً، وتتنفس شعراً، وحتى حين تصمت... تصمت شعراً. في قصائدها البسيطة، لباقة الشعراء الحقيقيين الذين يتحركون في ممالكهم الخاصة من دون ادعاءات أو حركات استعراضية، بل وحتى من دون أن يثيروا أية جلبة تنبئ عن وجودهم الحميم على سطح الأرض. تتحرك، وتخطو، وتتنزه بين أفكارها بتواضع من لا يملك شيئاً غير نزاهته الروحية، وتقديره الفطري لفضائل الجمال. وربما، بسبب هذا التواضع النبيل، تمنحنا قصائدها الحبور الآسر والحميم، تماماً كذلك الحبور الذي تتلقاه أصابعنا لدى أول ملامسة لعنق إنسان نحبه. شاعرة فحسب، شاعرة في كل شيء: في صمتها الذي يطول أحياناً، في براءة لغتها، في خلوّ صوتها من شوائب الأدعياء الصغار الذين يتسلطون على المنزل الشعري كغزاة وقحين، أجلاف وعديمي الضمائر. ففي حين يحلم الآخرون بمظاهرات وأعلام وأناشيد... تحلم هي بنزهة صغيرة على ضفاف كلمة! في حين يحلمون بأمجاد وأوسمة ومراتب، تحلم بفراشة وديعة تطيّرها في الهواء كرسالة حب مرمزة، تطلقها ثم تدير ظهرها... وتمضي. وفي حين يحلمون بأساطيل ومعسكرات وأقبية محصنة ضد الزلازل والقنابل الذرية وعواصف الجمال، تحلم هي بوردة، أو قل: تويج وردة... تهديه إلينا كتعويذة حب نادرة تدرأ عن أرواحنا جائحات القبح، وتؤملنا بالمسرة كأول عشبة جمال انبثقت من تراب الأرض كنعمة حياة مهددة أخشى أنه لم يعد في وسعنا أن نصونها بغير الشعر. إنّه شعر البراءة الأولى، الشعر المضياف الذي بدونه تتحول حياتنا بادية وأرضاً يباباً. إنّه الشعر البسيط الذي يغمرنا بطمأنينة من ينعس بين ساعدي حبيب يغني. إنّه الشعر الذي تستطيع أية نبرة صغيرة فيه ان تعيدنا إلى أرحامنا الأولى، وتهدهد أرواحنا بحنانها اللبق الكريم والآخاذ. فضيلتها الأخرى إن شعر مرام المصري لا يحتمل الكثير من الثرثرة والضوضاء، ولا يطمح في الأساس إلى أكثر من أن يكون حاراً وجميلاً، ولكنه قادر أن يمس قلب الإنسان ويعصره قليلاً... والإنسان لا ينسى أبداً ذلك التماس الصريح مع الشيء الجميل. وعلى أية حال، ينبغي ألا يضللنا ذلك الجمال السخي الذي يتلألأ في قصائدها المتقشفة الشديدة الحياء. بحيث ننسى ان ثمة - إلى جوار ذلك الجمال - روحاً تتألم وتشقى وتنغصها ضراوة الحياة أو ضراوة الحب وغالباً: ضراوة غياب الحب.... ذلك ان مرام المصري حين تتألم - وتلك فضيلتها الأخرى - تطرح آلامها بأقل ما يمكن من التبرج والمباهاة وإبراز مفاتن الكلام: تتألم كمن يلهث في مواجهة مرآة، مكتفية بتوجيه صرخة عذابها إلى "إذن نفسها..." كأنها - بمهابة ملكة مهزومة - تركع أمام الهواء وتُسكت صياح قلبها بعضة أفعى. على أنها، لشدة ما تكابده من آلام سرية، تعرف أن "الأفعى ستموت حين تلسعها"... متسممةً بمذاق الألم!