تحاول جنوب افريقيا أن تعوض ما فاتها في عهد نظام التمييز العنصري، فبعد عزلتها الديبلوماسية، التي استمرت عشرات السنين، تطرح نفسها اليوم قطباً افريقيا مسموع الكلمة في المحافل الدولية، مستندة الى قوتها الاقتصادية وشهرة زعيمها نيلسون مانديلا الذي عرف كيف يرسخ استقلالية قرار بلاده. لكن جنوب افريقيا التي ألغت، من دستورها نظام "الابارتايد" قبل نهاية هذا القرن بسنوات قليلة، هل ألغته فعلياً في المجتمع؟ وهل انعدمت الفوارق بين السود والبيض عشية استقبال القرن الجديد؟ هذا التحقيق من جوهانسبورغ يرسم صورة الوضع. أخّاذ وغريب هذا الشعور الذي يعتريك وانت تقف عند شفير تطل منه افريقيا على نهاية الارض وبدايات الماء والفراغ. مزيج هو من نكهة ليست في الحرية ولا حتى في الطفولة، ومن احساس عميق بوحدة تتّسع دائرتها لكل الرغبات، ولا تحتاج ان تلبيها كي تتمتع بها. للجغرافيا هنا الوانها الخاصة التي تستمد من العناصر كثافة، ومن السكون وداعة، وترسم عالماً تدّرع فيه قسوة الواقع بالخرافة، ويكاد الفقر ينحلّ في ماء السحر الذي يتسرب الى المفاصل كالارتعاش. اما التاريخ في هذه البلاد المكوية بأكثر من نار، فهو فصل واحد مديد من وحشية نام عنها طرف العالم في سبات مجرم، واسطورة في شكل رجل لم يساوم على ذرّة حق ولم يتنازل عن حبة واحدة من وجدانه، وكتاب مفتوح على ابواب تجربة جريئة وواقعية، تحمل في طيّاتها من الفرادة والآمال، بقدر ما تحمل من مخاطر التعثر والانكسار. انكسار كذلك الذي خيّم منذ ايام على تجربة "المصالحة" عندما استقرت رصاصات الرجل الابيض في جسد آنجلينا الصغير واطفأتها بين ذراعي أمها وهي لم تتجاوز الشهر السادس من عمرها، فاشتعلت الغالبية السوداء بغضب الانتقام النائم تحت رماد نظام الابارتايد. قد لا توجد دولة في العالم تكثر فيها العواصم كما في جنوب افريقيا: بريتوريا هي العاصمة الادارية، وكاب تاون العاصمة التشريعية، وبلوم فونتاين العاصمة القضائية، وجوهانسبورغ التي لا تحمل اي لقب رسمي هي عاصمة كل شيء هنا تقريباً. لكن ثمة عواصم اخرى ايضاً يعرفها ويستحضرها من يهتمون بتضاريس الجغرافيا البشرية وبالجراح المفتوحة في جسدها، مثل سويتو عاصمة الزنوج في العالم ومحجتهم بجانب هارلم، ودوربان عاصمة الهند في المهجر ومسقط رأس المهاتما غاندي، وعاد اليها في العام 1893 محامياً ليدافع عن العمّال الهنود المستغلّين الذين احضرهم المستعمرون البيض الى هنا للعمل في حقول قصب السكر، او كيمبرلي عاصمة الماس التي بدأ يتوافد إليها منذ العام 1867 الباحثون عن الثروة واصبحت مع الزمن تحتكر انتاج هذا المعدن الثمين بلا منازع في العالم. عوالم عدة قائمة في ذاتها، ومتباعدة، تشكّل هذه الجمهورية التي تبلغ مساحتها ضعف مساحة فرنسا، وتتوزع فيها الالوان كما في قوس قزح حتى ان رايتها التي فيها الابيض والاصفر والاحمر والاخضر والازرق والاسود، تجمع من الالوان اكثر من اية راية اخرى في العالم. الأبيض في غيومها الكثيفة الناصعة التي تكاد تقطف باليد، وتتشكل مثل شال من صوف مع وصول التيار البحري الدافئ من مدغشقر باعثاً الحرارة في مياه شواطئ يرتادها الصيادون والبحارة والسياح على مدار السنة. والابيض ايضاً في سحنة خمسة ملايين من البيض المتحدرين من أولئك التسعين اوروبياً الذين نزلوا في خليج TABLE عام 1652 قادمين من هولندا، وكانوا لأربعة اعوام خلت يعتبرون كل من ليس أبيض بشراً من الدرجة الثانية. الاصفر هنا لا يبهر العين كما في بطاح افريقيا الاستوائية، بل هو معشّق بألوان خفيفة تتراوح بين لون الرمال في صحراء كالاهاري اللامتناهية التي تمتد ايضاً في ناميبيا وبوتسوانا، ولون الكثبان المتحركة عند شواطئ دوربان، ولون العشب اليابس في محمية كروغير التي يسرح فيها ويمرح مئة وثلاثون نوعاً من فصيلة الثدييات واربعمئة وخمسة وثلاثون نوعاً من العصافير ومئة من الزواحف، وذلك الاصفر الذي يشع من الذهب المستخرج من مناجم وايتوترساند في الترانسفال بقيمة تناهز سبعة آلاف مليون دولار سنوياً. وبجانب الاصفر، تقع العين، وما وراء العين، دائماً على الاحمر. احمر الدماء التي سالت في هذه الارض المجبولة بالحروب والعذاب، واحمر الشقائق التي تزهو بها الحقول على امتداد النظر، وايضاً احمر الغسق الاخاذ الذي يضيء بحنان عشايا السافانا. اما الاخضر والازرق، فلونان شائعان في طبيعة جنوب افريقيا حيث توجد خمس محميات وطنية كبيرة وعدد من المحميات الخاصة الصغيرة، وشواطئ تمتد على الفين وخمسمئة كيلومتر على المحيطين الاطلسي والهندي. يبقى الاسود، قدر هذه البلاد بقدر ما كان ماضي ابنائها ولون ايامهم، في ظل نظام الفصل العنصري الذي تفنن البيض في بشاعاته وفظائعه، وسقط منذ اربع سنوات في صيغة انتقالية فريدة حالت دون المواجهة النهائية التي كانت تخشاها الاقلية البيضاء خوفاً على ثروات طائلة جمعتها بالرق والسخرة. لكن هل انقشع السواد فعلاً من افق هذه البلاد بتفكيك نظام الابارتايد؟ وكيف تنظر الغالبية السوداء الى هذه المصالحة التي تبناها ويحرص عليها نلسون مانديلا؟ وأي مستقبل يرجى من هذه الصيغة التي فكّت الأسر السياسي عن اعناق السود واحكمت الاصفاد الاقتصادية عليهم؟ دولتان، لا بل دول في جنوب افريقيا تتعايش في تضارب صارخ وتناقض عميق. عالمان، بل عوالم في هذه البلاد تتباعد في حذر وخشية، وحقد ورغبة دفينة في الانتقام لم تنطفئ بعد، وقد لا تنطفئ ابداً. تفكك نظام الفصل العنصري الذي كان يفرز السود والملاطيين والهنود كالمواشي، لكن الفرز لا يزال قائماً في جميع المجالات تقريباً، باستثناء المؤسسات السياسية والادارية والقضاء. فالبيض ما زالوا يمسكون بزمام الجيش ويحكمون سيطرتهم على مراكز الانتاج الكبرى ومصادر الثروة الرئيسية بشكل شبه مطلق. ألغي نظام التمييز في التعليم، لكن المدارس والجامعات المرموقة لا تزال حكراً على ابناء البيض، بينما السود يتخبطون في مستويات متدنية جداً من الجهل المهني والتعليمي الذي يجعلهم عاجزين عن التأثير الفعال في دورة الحياة الاقتصادية. الغي نظام الفصل بين السود والبيض في الاماكن العامة والاحياء والمدن، لكن لا تزال للبيض معاقلهم المحظورة على ابناء البشرة السوداء الذي يعبرون - اذا عبروا - كالاطياف في المناطق الراقية مثل كيب تاون التي تفوق الساحل اللازوردي الفرنسي باناقتها وجمال طبيعتها ولطف مناخها وثرائها. وجود السود هنا، والملاطيّين وحتى الهنود الذين يبلغ عددهم زهاء مليونين في جنوب افريقيا، يقتصر على الخدمات والاشغال الوضيعة التي يأنف البيض القيام بها. وتقوم مساكنهم، او ما شابهها، في ارباض المدن، خلف اسوار عالية تحجب الجريمة عن عيون الفضوليين الذين، بعد تغيير النظام، اصبح بامكانهم ان يقوموا بزيارات "سياحية" الى اكواخ التنك المكتظة بكتل اللحم الاسود في بلد يغرق اسواق العالم بالماس والذهب. اصوات واقلام كثيرة بين الاكثرية السوداء تفصح بانتظام عن خيبتها من هذه المصالحة التي رعاها ويحرص عليها نلسون مانديلا، وهي لم تغيّر الامور الا في ظواهرها. ويخشى كثيرون ان يؤدي هذا النهج، اذا طال، الى تعميق الفجوة الاجتماعية العميقة اصلاً، ودفع الامور الى انفجار وخيم العواقب على دولة تتطلع اليها القارة الافريقية بأسرها كنموذج للتنمية والتطور السياسي، وكمحرك يقطر افريقيا الى مستقبل تحلم به منذ اجيال. لكن المدافعين عن مانديلا يقولون ان المرحلة الانتقالية لا تنتهي بتفكيك نظام الفصل العنصري وامساك الغالبية السوداء بزمام السلطة، بل قد تمتد اجيالاً حتى يتسنى للسود اكتساب الخبرات اللازمة التي حرموا من فرص اكتسابها، وبدونها ستبقى الغالبية مستغلّة اياً كان النهج السياسي المتبع. ويرى هؤلاء ان انتقالاً انتقامياً قد يشفي غليل كثيرين ممن عانوا من نظام الابارتايد، لكنه سيلحق خسائر فادحة باقتصاد البلاد، وسيقضي بالتالي على فرص التنمية أمام الغالبية السوداء التي يرجّح ان تندفع بسهولة عندئذ الى الصراعات العرقية على السلطة، سرطان القارة الافريقية ومبيد فرص التنمية والتطور فيها. ويراهن المقرّبون من الرئيس مانديلا على تكيّف الاقلية البيضاء النافذة مع الواقع الجديد، اذا هي شعرت بالامان في ظل نظام حقيقي من الضمانات الديموقراطية. وهم يتطلعون، بل يهيئون للاستفادة من العلاقات الاقتصادية المتينة والكبيرة التي تقيمها هذه الاقلية مع الدول الغربية، تأسيساً لدور قيادي تطمح اليه جنوب افريقيا، اقليمياً ودولياً. منذ ان تفكك نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا اواسط العام 1994، وسطع نجم مانديلا كزعيم بارز من فصيلة القادة التاريخيين الذين اصبحوا في طور الانقراض، بدأ الثقل السياسي والاقتصادي في القارة الافريقية يتجه صوب الجنوب حيث توجد ثروات وموارد طبيعية هائلة تتعزز فرص استغلالها واجتذاب الاستثمارات اليها في ظل انظمة سياسية ديموقراطية مستقرة، واقتصادات مرنة في بنيتها وطرائقها وتشريعاتها. وبدا واضحاً منذ البداية ان جنوب افريقيا اختارت طريق المصالحة والاستيعاب الاقتصادي للاقلية البيضاء، وهي تعتزم الاضطلاع بدور القيادة في القارة الافريقية. وهذه قيادة طالما طمحت اليها، واخفقت في نيلها لاسباب متفاوتة، دول مثل كينيا وزائير والسنغال ونيجيريا. وتستند جنوب افريقيا في مطامحها القيادية هذه الى قوة اقتصادية تقوم على قاعدة عريضة ومتينة من الثروات الطبيعية والمعادن الاستراتيجية والقدرة الصناعية المتطورة والانتاج الزراعي المتنوع، بقدر ما تستند الى الرصيد المعنوي الكبير الذي يتمتع به نلسون مانديلا افريقياً ودولياً. وهي لم تعد تخفي مثلاً سعيها لمقعد دائم في مجلس الامن، يرجح ان تناله على حساب مصر بفضل التأييد الاميركي الذي يبدو انها حصلت عليه من ادارة كلينتون. وقد سعت جنوب افريقيا، توطيداً لفرص ومقوّمات نجاح سياستها الاقليمية، الى تعزيز دورها على الصعيد شبه الاقليمي، فشكلت رابطة التنمية لدول افريقيا الجنوبية، حيث تستقطب وحدها نصف اجمالي الناتج المحلي وتسيطر سيطرة شبه كاملة على الاسواق التصديرية فيها. ومما يعزز هذا التوجه لسياسة بريتوريا، ان النمو الاقتصادي في هذه الدول قد بدأ يسجّل ارتفاعاً ثابتاً ومضطرداً في السنوات الثلاث المنصرمة، وذلك للمرة الأولى منذ عشرين عاماً، وبدأ الحديث عن "الاسود الافريقية" على غرار "النمور الآسيوية" التي ظهرت عوارض الشيخوخة على بعضها في السنوات الاخيرة. وليس مستغرباً، في ضوء هذه التطورات، ان يجعل الرئيس الاميركي بيل كلينتون من جنوب افريقيا محطته الرئيسية في جولته الافريقية التي دامت 12 يوماً وشملت ست دول ورافقه فيها 900 من رجال الاعمال، في ما يشبه الزحف الاقتصادي على منطقة ارتفعت الى مواقع الصدارة بين اولويات واشنطن، بعدما كانت شبه منسية لسنوات طويلة. ولم يفوّت مانديلا السانحة التي اتاحتها له زيارة كلينتون، وهي في مضمونها نوع من الاعتراف الاميركي بزعامته الافريقية، لكي يؤكد امام رئيس الدولة المتفردة بزعامة العالم، بأن جنوب افريقيا، واستطراداً القارة الافريقية، ترفض حال التبعية والوصاية التي فرضت عليها حتى الآن، وهي مصممة على امساك زمام مصيرها بيدها، وانها لا تنسى الماضي بسهولة، مهما اغدقوا عليهاوعوداً مغرية وبرّاقة. ومن المؤشرات الاخرى الواضحة على هذه السياسة التي تنهجها جنوب افريقيا لتتبوأ موقعاً قيادياً في صفوف العالم النامي، ترؤسها حركة بلدان عدم الانحياز اعتباراً من الصيف المقبل، واستضافتها القمة الثانية عشرة لهذه الحركة في مدينة دوربان مسقط رأس المهاتما غاندي على ساحل المحيط الهندي. وحده شبح الانتقام الذي صار اليوم في متناول غالبية مسيطرة سياسياً عانت أمرّ الذل على عهد الفصل العنصري، يخيّم كالغيمة السوداء في سماء مستقبل تحلم به جنوب افريقيا. الانتقام الذي يتصاعد هتافات ويتشكل تظاهرات كلما توترت خيوط المصالحة، كما حصل اخيراً عندما قتلت الطفلة السوداء آنجلينا برصاص رجل ابيض وهي على ذراع أمها التي كانت تمر امام منزله. لم تنفع استنكارات احزاب تنضوي غالبية البيض تحت لوائها، ولا نداءات القادة السود هدّأت من غضبة الآلاف الذين خرجوا وراء نعشها الصغير يهتفون بالشعارات الانتقامية، حتى ان محللين لم يستبعدوا ان تكون تلك الحادثة بداية النهاية للمصالحة التي تقف على خيط رفيع منذ بدايتها. لكن آنجلينا، وهي اول جثة سوداء تدفن في مقبرة مخصصة للبيض فقط، قد تكون ايضاً بداية الخروج من كابوس الابارتايد الذي لا تزال ترزح تحته جنوب افريقيا.