قبل ان يبدأ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو جولته الأوروبية الأخيرة التي قادته الى مدريد وبون وأوسلو وأخيراً لندن، أبلغ صحيفة اسبانية بأن الأوروبيين لا يلمون بحقائق الأزمة بين العرب واسرائيل كما الولاياتالمتحدة وذهب أبعد من ذلك ليصفهم بپ"الجهل"، وعندما اجتمع مع رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في مقر رئاسة الحكومة البريطانية، لاحظ الصحافيون ان رئيس الوزراء الاسرائيلي لم يكن منشرح الأسارير، على عادته. وعندما تحدث نتانياهو الى الصحافيين، لم يتردد في تأنيب أحد مستشاريه الذي طلب منه ان يتحدث أمام الميكروفونات المثبتة سلفاً، وقال عن لقائه مع بلير الذي استغرق ساعة ونصف الساعة تقريباً بأنه كان لقاء عمل، وهو تعبير يستخدم لوصف جدية المحادثات. التي قالت مصادر بريطانية مطلعة ان رئيس الوزراء البريطاني تحدث فيها الى ضيفه الاسرائيلي بلهجة عبَّر خلالها عن امتعاض بلاده ودول الاتحاد الأوروبي الذي ترأس بريطانيا دورته الحالية من عدم حصول تقدم في مسيرة السلام في الشرق الأوسط. واعتبرت الدوائر البريطانية ان جولة نتانياهو التي حاولت استباق الضغط الأوروبي والدولي بطرح مبادرة من نوع الانسحاب من جنوبلبنان للظهور بمظهر الحريص على عدم تعقيد العملية السلمية من دون ان يقدم شيئاً جديداً عما قدمته الحكومات الاسرائيلية السابقة في مجال المطالبة بضمانات غير تلك المتفق عليها دولياً وبموجب قرارات الأممالمتحدة. ويلاحظ الذين يترددون على رئاسة الوزراء البريطانية ووزارة الخارجية منذ حوالي شهر الجهود التي تبذلها الديبلوماسية البريطانية من اجل شرح موقفها من الصراع العربي - الاسرائيلي خصوصاً بعد الاتهامات التي وجهت الى بريطانيا بأنها بالغت في الوقوف الى جانب الولاياتالمتحدة ضد العراق ولم تتخذ موقفاً يتميز بالجدية تجاه اسرائيل. ويقول ديبلوماسي بريطاني بارز ان حكومة بلير العمالية لم تترك مناسبة الا وعبرت عن ادانتها لبناء المستوطنات وأكدت عدم شرعيتها. ويضيف الديبلوماسي ان وزيراً أوروبياً لم يزر جبل أبو غنيم في القدسالشرقية ليظهر معارضته للمستوطنات وبناءها كما فعل روبن كوك وديريك فاتشت لتأكيد عدم شرعية ضم اسرائيل القدسالشرقية. وحين تحدث روبن كوك وزير الخارجية البريطاني في مناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس الجمعية العربية - البريطانية عمل جاهداً على وضع خطة عمل تتضمن ست نقاط بهدف دفع مسيرة السلام الى الأمام، لم يغفل فيها مطالبة اسرائيل بالانسحاب الفوري والجدي من الضفة الغربية. لكن كوك الذي فوجئ باتهام نتانياهو للأوروبيين بالجهل في المسائل التي تتعلق بالصراع العربي - الاسرائيلي، سارع الى القول رداً على سؤال لپ"الوسط" أنه لا يعتقد بأنه جاهل، ولم يسمع من كثيرين بأنه كذلك، بل على العكس فإن كثيرين من العرب يطالبون بريطانيا بالتدخل نظراً الى معرفتها الوطيدة بخلفيات الصراع الدائر منذ أكثر من خمسين عاماً. وفي حديث مع "الوسط" قبل جولته في الشرق الأوسط التي شملت القاهرة وعمّان والقدسوغزة ودمشق وبيروت، أكد وزير الخارجية البريطانية انه ينسق مع نظيرته مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية لتكون الخطوات التي يتخذها منسجمة مع الجهود الأميركية، وللابقاء على قوة الدفع في عملية السلام الحالية في المنطقة، وأضاف: "لقد أوضحت في الخطاب الذي ألقيته في ذكرى تأسيس الجمعية العربية - البريطانية الاجراءات التي يجب اتخاذها لتحريك العملية السلمية من قبل الطرفين المعنيين، الفلسطيني والاسرائيلي"، وقلت "أريد ان أرى من الحكومة الاسرائيلية اعادة انتشار سريع وكبير وجدي لقواتها في الضفة الغربية، ومن السلطة الفلسطينية التزاماً مئة في المئة بضمان الأمن". والأمر الثاني الذي أكده كوك "ان الاتحاد الأوروبي هو الممول الأكبر والرئيسي لعملية السلام، وان وزراء خارجية دول الاتحاد وافقوا على مواصلة الدعم المالي للسلطة الفلسطينية في المرحلة المقبلة. وان الهدف من الجولة الشرق أوسطية التي تأجلت في تشرين الثاني نوفمبر الماضي هو استكشاف طريقة زيادة هذا الدعم وايجاد مصادر جديدة له من خلال ازالة العقبات التي تعترض عملية السلام وبشكل خاص القضايا الانتقالية مثل فتح ميناء ومطار غزة". ولا يترك وزير الخارجية البريطاني مناسبة الا ويبرز الدعم الذي يحظى به من قبل واشنطن، ويضيف قائلاً لپ"الوسط": "أرغب التأكيد أيضاً ان أوروبا تريد ان تقوم بدور مكثف لاعادة عملية السلام الى مسارها". وهل المبادرة التي قدمها لزعماء الدول الشرق أوسطية مستقلة عن المبادرة الأميركية، يرد كوك قائلاً: "انا لا أعتقد بأنه سيكون مفيداً لأي شخص ان نطلق مبادرة مستقلة. نحن لا نسعى لايجاد مبادرة بديلة للمبادرة الأميركية، وانما لمبادرة أوروبية تكون مكملة لها، وأن نتأكد من تحقيق تقدم". واعترف الوزير البريطاني الذي أثارت زيارته جبل أبو غنيم عاصفة في اسرائيل بأن هناك صعوبات كبيرة تعترض مواصلة المفاوضات السورية - الاسرائيلية عند النقطة التي توقفت عندها في عهد حكومة شمعون بيريز العمالية وحكومة اسحق رابين التي سبقتها، ويوضح ان الحكومتين الاسرائيلية والسورية توصلتا الى اتفاقات على النقاط التي بحثت في المفاوضات السابقة، والمهم الآن تحقيق تقدم على المسارين السوري واللبناني وكذلك الفلسطيني أيضاً. وأعرب كوك عن تفاؤله بأن التصريحات الأخيرة لبنيامين نتانياهو في شأن الانسحاب من جنوبلبنان قد تفتح المجال لتحقيق تقدم على المسار اللبناني. لكن ماذا اذا استمر رئيس الوزراء الاسرائيلي في رفضه كل النصائح والمباردات الأوروبية وغيرها؟ يرد كوك قائلاً: "زيارتي الى المنطقة جاءت بهدف الاستماع الى وجهات النظر المختلفة، بما يجعلنا نضع اقتراحاتنا أمام الطرفين، الاسرائيلي والفلسطيني، وبما يؤدي الى تحريك العملية السلمية وعودتهما الى طاولة المفاوضات". ويشير كوك الى ان "الاسرائيليين، في معظمهم، يريدون استمرار عملية السلام ونجاحها، ونتانياهو خاض الانتخابات على أساس مبدأ الأمن والسلام، والشعب الاسرائيلي يدرك انه اذا لم يتحقق السلام فلن يكون هناك أي أمن". ويرفض وزير الخارجية البريطاني الانتقادات العربية الموجهة الى سياسة بلاده التي تكيل بمكيالين حيال تطبيق قرارات الأممالمتحدة من قبل العراق في شأن أسلحة الدمار الشامل بينما تملك اسرائيل سلاحاً نووياً تهدد به المنطقة، ويقول: "أنا أرفض اتهامنا بالتعامل بمكيالين. فالعراق مصدر تهديد للعالم العربي، لأن الرئيس صدام حسين استخدم الأسلحة الكيماوية ضد المسلمين في الدول المجاورة له وحتى ضد شعبه… ونحن على صواب عندما نقول انه لا يجب ترك صدام يملك القدرة على مسح عاصمة عربية مجاورة بالكامل، خصوصاً ان رجلاً مثله لجأ الى استخدام هذا السلاح لن يُؤمن على امتلاك مثله مرة اخرى في المستقبل. اما فيما يتعلق باسرائيل فانني أريد ان أوضح ان حكومة عمالية بريطانيا في العام 1967 كانت وراء صياغة القرار 242 الصادر عن الأممالمتحدة، ولا نزال حتى الآن ندعم تطبيق هذا القرار ونعمل على تنفيذه". وهل الأوروبيون على استعداد لفرض اجراءات ضد اسرائيل اذا أصرت على رفض الانصياع لرغبة المجتمع الدولي، يجيب: "لا أعتقد بأننا في مرحلة يجب ان نستبق فيها الأمور، اننا نتطلع الى العودة الى طاولة الحوار، وليس الى الحديث عما سيحصل في حال رفض العودة الى طاولة المفاوضات". ومن يعرف حكومة بلير العمالية وطبيعة العلاقات التي تربطها بواشنطن وما يجري من تنسيق بينهما يدرك الى حد كبير ان بريطانيا التي فقدت بريق الشهرة في العالم العربي تحاول جاهدة الاستفادة من هذه الأجواء لاعادتها الى الواجهة. ولعل قول كوك انه ناقش مسألة قيام دولة فلسطينية وحق تقرير المصير مع مادلين أولبرايت على فطور عمل سبق الاجتماع الذي عقدته دول مجموعة الاتصال التي اجتمعت في العاصمة البريطانية للبحث في أزمة كوسوفو تكشف ان الاتصالات تغوص الى لب المشكلة. وكان لافتاً قول كوك ان بلير أيد ولا يزال حق تقرير المصير للفلسطينيين، بل انه يطالب بعدم استبعاد قيام دولة فلسطينية في المستقبل من الاحتمالات المطروحة على بساط البحث في مفاوضات المرحلة النهائية. ولا يعكس ما يقوله زعماء أوروبيون شاركوا في اجتماعات ادنبره غير الرسمية التي ضمت وزراء خارجية 15 بلداً أعضاء في الاتحاد الأوروبي الحماس لدور أوروبي كما يسعى كوك الى القيام به، فقد أكد مستشار لوزير الخارجية الألماني ان دور أوروبا لن يتعدى، لا اليوم ولا غداً، غير تحمل الأعباء الاقتصادية لضمان نجاح هذا السلام وتخطيه الصعوبات الحالية، وهو أمر قال كوك عنه لپ"الوسط" بأنه كلام غير دقيق، اذ ان بإمكان أوروبا القيام بجهد ديبلوماسي لدى العرب واسرائيل في آن معاً، يستمد قوته من العلاقات التاريخية والاقتصاديةة التي تربطهما منذ القدم. ولم تجد ردة الفعل الاسرائيلية على زيارة كوك لجبل ابو غنيم صدى ايجابياً في بريطانيا، خصوصاً ان الاتهامات ضد كوك بمعاداة السامية لقيت استهجاناً، وما يثير البريطانيين في مسألة كهذه هو ان على اسرائيل التوقف عن اتهام كل من ينتقد الدولة العبرية بتهم من هذا النوع. ووصفت أوساط بريطانية سلوك نتانياهو تجاه ضيفه البريطاني بأنه "انفعال لا مبرر له ويفتقر الى اللياقة الديبلوماسية، خصوصاً قول نتانياهو الذي ألغى حفل عشاء كان مقرراً على شرف كوك، انه سيتصل برئيس الوزراء البريطاني ليحتج على سلوك وزير خارجيته، الأمر الذي دفع رئاسة الوزراء البريطانية التي تخطط لقيام بلير بزيارة الى منطقة الشرق الأوسط بعد عيد الفصح في الشهر المقبل الى القول: "ان رئيس الوزراء يدعم كل تحركات روبن كوك في الشرق الأوسط ويوافق عليها". ومثل هذا الكلام لن يريح نتانياهو الذي يعرف ان بلير أعرب صراحة عن استعداده لتقديم كل خبرات حزب العمال البريطاني في الحملات الانتخابية لحزب العمل الاسرائيلي بزعامة أيهود باراك في الانتخابات الاسرائيلية المقبلة. ويبدو انه غاب عن ذهن رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي أوفد مبعوثين الى واشنطن لثنيها عن اطلاق مبادرة جديدة ربما لعب بلير دوراً بارزاً في تطعيمها بأفكار لم تكن الادارة الأميركية في وارد تبنيها في السابق، لولا الحرص البريطاني على لعب دور فعال ينطبق مع التصريحات التي يطلقها بلير وأركان حكومته في مجالسهم العامة والخاصة في مجال حل ازمة الشرق الأوسط. فهل تكون مهمة كوك الشرق أوسطية المثيرة للجدل، على غرار مهمات مشابهة لديبلوماسيين بريطانيين، أي التمهيد لمبادرة أميركية جديدة تكون أكثر توازناً من سابقاتها؟.