بين ازمة فلسطينية - اسرائيلية الى الغرب، وأزمة عراقية الى الشرق، يشكل الأردن بؤرة تفاعل مع ازمتين تتناوبان على تهديد امنه واستقراره. ويصل الخطر ذروته عندما تتحالف الازمتان معاً لتشكلا تحدياً مزدوجاً يشعل حرائق تدفع المملكة ثمنها على رغم انفراج الوضع نسبياً، والى حين، على البوابة الشرقية، وبوادر تطورات ايجابية سرعان ما تنهار على البوابة الغربية. ففي الازمة العراقية الاخيرة، التي تزامنت مع تفاقم ازمة السلام الفلسطيني - الاسرائيلي المعطل، كانت اعنف افرازات الازمتين على الساحة الاردنية وليس، كما يفترض، على الساحتين العراقيةوالفلسطينية، اذ وقعت صدامات دموية بين الشرطة ومتظاهرين في مدينة معان، سقط فيها اردني هو الشهيد الوحيد في "حرب الخليج الثالثة" التي لم تحدث. ويتفق السياسيون والمحللون على ان الأردن يدفع ثمنآً باهظاً على الاصعدة السياسية والاقتصادية والامنية كلما تعثرت عملية السلام، او تصاعدت الازمة العراقية - الدولية. ويقول مرجع سياسي أردني ان الأردن "عالق بين بيبي نتانياهو الى الغرب، وصدام حسين الى الشرق"، من دون ان يتمكن من التأثير فعلياً في سياسات اي من الرجلين في ما يخص تداعياتها على المملكة. وعلى رغم ذهاب الأردن مسافة بعيدة في التعاون مع اسرائيل على الصعيد الاقليمي من خلال دعم عملية السلام الى النهاية، فإن الدولة العبرية ومن ورائها الولاياتالمتحدة، تعاملت مع الأردن على انه "تحصيل الحاصل، وفي الجيب" فلم تأخذ في الاعتبار مصالحه وخطورة ظهوره بمظهر الحليف الاستراتيجي لهما في المنطقة. بل انه على رغم السلام الأردني "الدافئ" مع اسرائيل وتناقض السياسة الأردنية مع التوجهات الشعبية، لم يتردد نتانياهو في ارسال فريق اغتيالات لتصفية مسؤول "حماس" خالد مشعل في عمان. وتمثل محاولة الاغتيال الفاشلة هذه ابرز مثال على انعدام وجود حساسية اسرائيلية تجاه الوضع في الأردن. وفي الجانب الآخر يمثل قرار الرئيس صدام حسين اطلاق معتقلين وسجناء اردنيين الشهر الماضي استجابة لوساطة من ليث شبيلات، المعارض السياسي الأول للملك حسين، محاولة واضحة للتدخل في الشؤون الداخلية للأردن وتقويض صدقية النظام الأردني في الشارع السياسي. وفي المحصلة، اصبحت معاهدة السلام الأردنية - الاسرائيلية، التي يفترض فيها ان تعزز نفوذ الأردن ودوره الاقليمي، عبئاً عليه بسبب تعثر المسار الفلسطيني وعدم انطلاق المسارات التفاوضية الاخرى. بل اصبح الأردن يبدو في نظر كثير من الفلسطينيين والعرب بمثابة مندوب علاقات عامة لاسرائيل في احسن الاحوال، ومتآمر مع الاسرائيليين ضد الفلسطينيين في أسوأها. وعلى رغم الدور الايجابي المفترض الذي يمكن للأردن ان يلعبه في خدمة المسار الفلسطيني، الا ان وصول نتانياهو الى الحكم قوض فرص اي دور اردني فعال لتحريك عملية السلام. وما يزيد الموقف تعقيداً هو ان المملكة لا تستطيع عزل نفسها عن الازمة في المسار الفلسطيني، خصوصاً في ضوء البعد الديموغرافي المتمثل بوجود اكثر من مليوني لاجئ ونازح فلسطيني يعيشون في الأردن وينتظرون الحل. وفي نظر هؤلاء، فإن معاهدة السلام الأردنية - الاسرائيلية وفوائدها الاستراتيجية المفترضة، لا تعني لهم شيئاً. كما ان التقارب الأردني - الاسرائيلي زاد ايضاً من عزلةالأردن العربية بعدما كان نجح في كسر العزلة التي فرضها عليه موقفه خلال حرب الخليج الثانية. وفي ما يخص العراق، تطورت الاحداث في شكل يتنافى مع التوقعات الأردنية. اذ ان تراجع الأردن عن موقفه المتعاطف مع النظام العراقي خلال ازمة وحرب الخليج الثانية لمصلحة السياسة الاميركية، لم يثمر بعد فشل محاولات اطاحة النظام العراقي التي كان من الممكن لها لو نجحت ان تضع الأردن في مقدم الدول المستفيدة من تغيير النظام في بغداد. بل جاء الفشل المتتالي لسياسة واشنطن تجاه بغداد ليوجه ضربة للعلاقات الأردنية - العراقية، فيما تعزز موقع النظام العراقي الذي بدأ يكسر عزلته الاقليمية والدولية تدريجياً، ونجح في اقناع الرأي العام العربي بأن المستهدف الحقيقي هو العراق بلداً وشعباً والمنطقة العربية برمتها، وليس النظام في بغداد. وبتداخل الفشل الاميركي في الخليج مع فشله في الضغط على الحكومة الاسرائيلية للإلتزام بما وقعت عليه مع الفلسطينيين، يكون الفشل مزدوجاً بالنسبة الى الأردن الذي راهن على معاهدة السلام من جهة لتعزز دوره الاقليمي، وعلى واشنطن لتعزز موقعه في التأثير في عراق المستقبل والاستفادة من العلاقات الاقتصادية معه بعد تغيير النظام ورفع الحصار عنه. ولا تشكل التطورات الاخيرة على صعيدي عملية السلام والعراق انتكاسة للأردن على الصعيد الاستراتيجي الخارجي فحسب، بل ايضاً على الصعيد الداخلي الذي كان محور تجاذب بين القوى الخارجية المؤثرة في الساحة الأردنية، والتي وجد الحكم الأردني نفسه متفاعلاً معها اكثر مما هو قادر على السيطرة عليها. اذ ليس سراً ان البعد الفلسطيني، وبسبب الواقع التاريخي والجغرافي والسكاني، يشكل عامل ضغط متواصل على الحكومة الاردنية، فيما يشكل النفوذ العراقي في المملكة ما يمكن اعتباره طابوراً خامساً للنظام العراقي يمكن تحريكه كلما اشتدت الضغوط الدولية عليه. وكان نائب رئيس الوزراء وزير الاعلام الأردني الدكتور عبدالله النسور اكد ان جهات خارجية تقف وراء التحريض على العنف خلال التظاهرات التي شهدتها معان. وذكر مسؤول اردني ان هناك ما لا يقل عن 150 الف عراقي في الأردن "ليس كلهم معارض للنظام العراقي وليس كلهم يحمل وثائق اقامة قانونية". كما حمّل رئيس الوزراء الدكتور عبدالسلام المجالي شبيلات مسؤولية تحريض اهالي معان على التظاهر. ومعروف في الأردن ان التظاهرات لا تقوم الا لحساب قضيتين: العراقوفلسطين، اذ لم تشهد المملكة خلال السنوات الاخيرة منذ حرب الخليج الثانية اي تظاهرة احتجاجاً على قضية وطنية داخلية، فيما شهدت تظاهرات عدة من اجل العراق او فلسطين، على رغم الازمة الاقتصادية الخانقة والمسائل الوطنية الضاغطة محلياً والتي من الممكن لها ان تشكل دوماً قضايا قابلة للتصعيد أمنياً. ويجمع مراقبون على ان انفتاح الأردن على المنطقة العربية وسماحة النظام الملكي الحاكم فيه تم استغلالها من قبل بعض الجهات لتحويل الأردن الى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الاقليمية المتنازعة. وكان الملك حسين اعتبر ان احداث الشغب في معان جاءت في اطار "مخططات تستهدف امن المملكة واستقرارها". وقال ان الجهات الدولية "تقول لنا انه لو لا سمح الله وقع شيء في العراق، انتظروا حوالي نصف مليون شخص يجيئون من هناك... والحقيقة المخيفة هي انه لو وقع حادث غرب النهر واندفعت البقية الباقية من ابنائنا ومن اهلنا في فلسطين في اتجاهنا... لتحقق الوطن البديل وانتهى الأردن". ولا يأتي التهديد بإقامة وطن بديل للفلسطينيين في الأردن من فراغ، او من اوهام المتشددين في حزب ليكود اليميني الاسرائيلي. اذ ان تصريحات ادلى بها حاييم رامون، احد قياديي حزب العمل الاسرائيلي المعارض قبل شهرين، اشارت الى وجود شبه اجماع اسرائيلي على "حتمية" تحول الأردن الى دولة فلسطينية. اذ اكد رامون انه لم يعد يختلف مع قناعات نتانياهو ووزير البنى التحتية ارييل شارون على انه لا مفر من تحول الأردن الى دولة فلسطينية في غضون بضع سنوات. وأوضح ان الأردن سيضطر الى قبول اتحاد فيديرالي او كونفيديرالي بين الأردن والكيان الفلسطيني الذي سيشمل بين 60 و90 في المئة من الضفة الغربية، ما سيؤدي في نهاية المطاف الى تحول الأردن الى دولة فلسطينية بسبب ما اعتبره "وجود غالبية فلسطينية في الأردن اليوم تقدّر بحوالي سبعين في المئة". كما ان المذبحة التي تعرض لها خمسة عراقيين في عمان الشهر الماضي، بينهم القائم بأعمال السفارة وثلاثة رجال اعمال معروفين، والتي اشارت التحقيقات فيها الى تورط اقطاب داخل النظام العراقي في التخطيط لها، قدمت مثالاً آخر على احتمالات تحول الأردن الى ساحة لتصفية الحسابات بين اطراف عراقية متنازعة. وتحذر اوساط سياسية من تكرار التجربة اللبنانية في الأردن، مطالبة بوضع قيود على نشاط القوى والاحزاب السياسية الموالية لجهات خارجية، ومن بينها حزب البعث، بجناحيه، والاحزاب الأردنية الاخرى التي تعتبر امتداداً للجهتين الشعبية والديموقراطية لتحرير فلسطين، فضلاً عن احزاب المعارضة العراقية والشخصيات ذات الارتباطات الخارجية المعروفة. كما تطالب مراجع سياسية بفرض رقابة نوعية على الاعلام الأردني لمحاولة الحد من الاختراقات الاعلامية التي تعزز من نفوذ تلك القوى الاقليمية. وفي سياق الدعوات الى "لملمة" الوضع الداخلي وتعزيز الجبهة الداخلية، تطالب تلك المراجع بخفض مستوى الاتصالات الاردنية - الاسرائيلية وحصرها بالوفود الفنية التي تنسق التعاون الاقتصادي بين البلدين، مع التقليل من الاتصالات السياسية على مستوى القيادة. كما تطالب بتطوير الخطاب السياسي بحيث يكون اكثر ضغطاً على الحكومة الاسرائيلية وأكثر انسجاماً مع موقف السلطة الوطنية الفلسطينية من خلال تحديد استراتيجية اكثر استجابة للظروف الاقليمية.