حين عقد الرئيس بيل كلينتون مؤتمره الصحافي المشترك مع الرئيس ياسر عرفات في البيت الأبيض في 22 كانون الثاني يناير الماضي، كان من المفروض ان يركز الصحافيون أسئلتهم على محادثاتهما المشتركة، من دون غيرها من المواضيع. فهذه هي قواعد البروتوكول. لكن الذي حدث كان مغايراً لتلك القواعد لأن الصحافيين أمطروا الرئيس كلينتون بأسئلة لا نهاية لها عن علاقته الجنسية مع فتاة اسمها مونيكا ومطالبتها بأن تدلي بشهادة "زور". وجلس عرفات الى جانب كلينتون، صامتاً، بينما ظهرت علائم الحرج على مضيفه. وكان مركز الصحافة الأجنبية في واشنطن يعجّ أيضاً بالصحافيين الذين يتابعون عدداً كبيراً من الأخبار: فضائح كلينتون الجنسية، محادثاته مع ضيفه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو، ومحادثاته مع الرئيس عرفات بعدها بيوم واحد، والأزمة بين العراق والمفتشين الدوليين، وزيارة البابا التاريخية الى كوبا، وقرار طرد هاني الصايغ المتهم بالتواطؤ في انفجار الخبر العام 1996 من واشنطن والكثير من الأخبار المهمة الأخرى. وربما لا يكون في متابعة هذا السيل من الأخبار المهمة أي ضير. لكنها كانت جميعها في اليوم نفسه. ولكن على رغم أهمية كل تلك الأخبار فإن الخبر الوحيد الذي هيمن على كل شيء آخر هو قصة مونيكا لوينسكي وعلاقتها الجنسية مع الرئيس. في ذلك الأسبوع نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الاسرائيلية الواسعة الانتشار تعليقاً قالت فيه: "كنا نعتقد، بكل براءة بأن مصير عملية السلام بات بين يدَي يهودية اسمها مادلين أولبرايت وحدها… ولكن يظهر انه أصبح الآن بين يدَي يهودية أخرى هي مونيكا لوينسكي". ومن الواضح ان الصحيفة الاسرائيلية نسيت اليهودية الثالثة وهي لوسيان غولدبيرغ البالغة من العمر ستين عاماً، والتي استنبطت فكرة "تسجيل" المحادثات التي جرت مع لوينسكي، كي تقدم غولدبيرغ هذه الأشرطة الى صديقها اليهودي ايضاً - الصحافي مايكل ايزيكوف الذي يعمل مع مجلة "نيوزويك" تمهيداً لتأليف كتاب عن غراميات الرئيس. وتقول غولدبيرغ الآن ان لديها نسخاً من بعض تلك الأشرطة وان مجلة "ويكلي انكوايرَر" أي المحقق الأسبوعي عرضت عليها مبلغ مليوني دولار في مقابل تلك الأشرطة. والمعروف عن كلينتون انه مثل الرئيس الراحل جون كينيدي، لا يستطيع التحكم في شَبقه الجنسي. لكن الأمر الجديد والخطير في قصة لوينسكي هو ان مكتب التحقيقات الفيديرالي إف. بي. آي لديه أشرطة توحي بأن كلينتون وصديقه فيرنون جوردان طلبا من لوينسكي ان تكذب وتدلي بشهادة زور في قضية فضيحة جنسية اخرى هي تلك التي أقامتها بولا جونز على كلينتون حين أدلت لوينسكي بشهادتها في هذه القضية في الثالث والعشرين من كانون الثاني يناير الماضي، بل ويقال ان جوردان حثها على الادلاء بشهادة الزور وعرض عليها ان يؤمن لها وظيفة في نيويورك بعيداً عن مشاكل واشنطن. ولا يمنع القانون الأميركي أي شخص من اتخاذ عشيقة له ولو كانت تلك عشيقة مختلفة كل اسبوع. الا ان حث أي شاهد على الادلاء بشهادة زور أو بهتان جريمة قانونية، فكيف اذا كان الرئيس الأميركي نفسه هو الذي يحث على ذلك! فحين كذب كلينتون من اجل التهرب من الخدمة العسكرية في فيتنام، كان في وسعه بعد مرور سنوات كثيرة على الأمر ان يدعي انه نسي أو تناسى. وحين أعلن إبان حملة انتخابات رئاسته الأولى على التلفزيون انه لم يكن بينه وبين جينفر فلاورز أي علاقة اطلاقاً، مع ان العلاقة دامت 12 سنة، اعتبر الناس انه مجرد سياسي آخر لجأ الى الكذب مثل غيره للحفاظ على فرص انتخابه. وفوق ذلك لم يكن كلينتون "المرشح" قد حلف اليمين حين نفى علاقته مع فلاورز. اما الكذب بعد اداء اليمين والادلاء بشهادة زور والحث على الادلاء بشهادة مزورة فهذه أمور يعاقب عليها القانون بالسجن لمدة خمس سنوات. بدأت الفضيحة الأخيرة بامرأة في أواسط العمر اسمها ليندا تريب كانت تعمل سكرتيرة في البيت الأبيض حين رأت بأم عينيها في العام 1997 سكرتيرة اخرى هي كاثلين ويلي وقد ظهر عليها الحرج الشديد والعصبية، وحمرة شفاهها على وجنتيها، بينما كان جزء من قميصها بلوزتها فوق تنورتها أمام باب مكتب الرئيس كلينتون. وعندما رأت ويلي زميلتها أمامها قالت لها: "لقد أمسك الرئيس بصدري وقبّلني فجأة… وقال لي انه طالما حلم بفعل ذلك". اثر ذلك غادرت ويلي البيت الأبيض. أما تريب فقد روت القصة للآخرين حتى بلغت مسامع المسؤولين. وعندها تقرر نقلها من البيت الأبيض الى وظيفة في وزارة الدفاع. ولم تمض فترة طويلة حتى انضمت اليها في الوزارة لوينسكي التي راحت تشكو لها كيف هجرها الرئيس. ولما كانت تريب قد تعرضت للاتهام بأنها لفّقت قصة كاثلين ويلي مع الرئيس، قررت حين التقت لوينسكي في وزارة الدفاع ان تحمل في حقيبتها جهاز تسجيل كي تسجل كل ما ترويه لها لوينسكي. وهكذا تمكنت من تسجيل أشرطة تزيد مدتها على عشرين ساعة، حملتها وتوجهت الى المدعي الخاص كينيث ستار الذي كان يتابع فضيحة وايت وواتر، كي تثبت له ان كلينتون كذب عند حديثه عن علاقاته النسائية مما يعني انه قد يكذب عند الحديث عن أي شيء آخر. وعندها اتصل ستار بمكتب التحقيقات الفيديرالي الذي كلّف عملاءه بتزويد تريب بجهاز تسجيل أكثر تقدماً وتطوراً ودقة. وطلب العملاء منها ان ترتب لقاء مع لوينسكي في قاعة الاستقبال في أحد الفنادق في ضواحي واشنطن، حيث كان ثلاثة من العملاء الخصوصيين في إف. بي. آي يجلسون في أماكن مختلفة من القاعة. كذلك ربط العملاء حول جسم تريب اجهزة تسجيل خفية ومايكروفونات مكّنت العملاء الثلاثة من تسجيل المحادثة كاملة بين تريب ولوينسكي. في هذه المحادثة في قاعة الفندق روت لوينسكي كيف بذل جوردان وكلينتون كل ما في وسعهما لاقناعها بالكذب والادلاء بشهادة زور في قضية بولا جونز، وكيف وعد جوردان بتأمين وظيفة جديدة لها في مجال العلاقات العامة في احدى الشركات التي يشغل فيها منصب عضو مجلس الادارة. بل وتمكنت بيتي كاري سكرتيرة كلينتون الخاصة بالتعاون مع جوردان من اقناع السفير الأميركي لدى الأممالمتحدة بيل ريتشاردسون بتناول طعام الفطور مع لوينسكي في فندق "ووترغيت" قرب العمارة التي تسكن فيها مونيكا، وعرض وظيفة جديدة عليها ملحقة صحافية، لكنها رفضتها لأن راتبها كان أقل من أي راتب ستتقاضاه فيما لو عملت في ميدان العلاقات العامة. إثر كل ذلك قررت القاضية سوزان رايت التي تنظر في دعوى بولا جونز ضد كلينتون تأجيل موعد ادلاء لوينسكي بشهادتها في هذه القضية. ويقول روبرت بينت محامي كلينتون ان مونيكا وقعت على افادة خطية تؤكد فيها انه لم يكن بينها وبين الرئيس أي علاقة غرامية على الاطلاق. ويصر بينت على ان مونيكا ليست سوى فتاة مولعة بغرام الرئيس وحبه وان الوله وصل بها الى الحد الذي لم يكن معه أمام المسؤولين في البيت الأبيض سوى اتخاذ قرار بنقلها الى البنتاغون لما أثارته من حرج لها وللآخرين. اما محامي مونيكا نفسها فيقول ان موكلته ستلتزم على الأرجح الصمت بموجب ما يعرف بمادة التعديل الخامس في الدستور الأميركي أي عدم الادلاء بأي شهادة في قضية جونز كي لا تعرض نفسها لاحتمال مواجهة أي تهمة. ويظهر ان مونيكا وقعت باصرار من كلينتون وجوردان على افادة خطية تنفي فيها انها كانت "على علاقة جنسية مع كلينتون" وهو ما حاول كلينتون اقناع جينفر فلاورز بفعله بالضبط، العام 1992 من دون نجاح. وأبلغت مصادر في مكتب المدعي الخاص ستار "الوسط" ان لديه الآن أدلة تثبت ان مونيكا زارت البيت الأبيض 11 مرة بعدما تركت وظيفتها هناك، وان سكرتيرة الرئيس بيتي كاري هي التي سمحت بتلك الزيارات، كما ان لديه أدلة تثبت ان الرئيس تبادل الهدايا مع مونيكا حتى خلال أشهر تشرين الأول اكتوبر وتشرين الثاني نوفمبر وكانون الأول ديسمبر من العام 1997. وتقول والدة مونيكا ان من بين الهدايا التي قدمها كلينتون الى ابنتها فستان وديوان شعر بعنوان "أوراق العشب" للشاعر الأميركي والت وايتمان الذي عاش في القرن التاسع عشر. اما مونيكا نفسها فقد ذكرت في الأشرطة التي سجلتها تريب ان بين هداياها للرئيس ربطة العنق التي ارتداها حين وجه خطابه السنوي عن حال الأمة في العام الماضي. يصفها زملاؤها السابقون في المدرسة بأنها "أميرة يهودية حقاً"، وهي عبارة أميركية للانتقاص من قدرها تعني انها غنية ومدلّلة ومليئة بالغرور ولا تحب الحديث الا عن نفسها. وفي العام 1987 انتهى زواج والدها الطبيب الثري الذي يعمل في هوليوود بالطلاق بعد خلاف حاد على المال مع زوجته، مما أدى الى بيع بيت العائلة بأكثر من 1.6 مليون دولار. وحين نظرت المحكمة في دعوى الطلاق طالبت الزوجة بعلاوة شهرية مقدارها 760 دولاراً في مقابل تكاليف العلاج النفسي لابنتها مونيكا التي كانت آنذاك في الرابعة عشرة من عمرها ولشقيقها الأصغر. لكنها لم تحصل على شيء. وبعد الطلاق غيرت الأم اسمها الى مارسيا لويس حين نشرت كتاباً ادعت فيه انها كانت عشيقة مغني الأوبرا الشهير بلاسيدو دومينغو. كما أصدرت كتاباً بعنوان "الحياة الخاصة لعمالقة الأوبرا الثلاثة" تحدثت فيه عن العلاقات الغرامية لعمالقة غناء الأوبرا الثلاثة وهم: لوتشيانو بافاروتي وخوسيه كاريراس وبلاسيدو دومينغو. اما مونيكا فقد تمكنت من الحصول على وظيفة في البيت الأبيض بفضل مساعي والتر كاي وهو صديق ثري لوالدها. وتشير السجلات الى ان كاي تبرع بحوالي نصف مليون دولار للجنة الوطنية للحزب الديموقراطي ولعدد من المرشحين الديموقراطيين، كما انه ظهر في البيت الأبيض ونام ليلة في جناح الرئيس لينكولن. وفي الأشرطة التي سجلتها تريب لأحاديثها مع مونيكا، تصف مونيكا الرئيس بأنه "غبي". اما الرسالة التي بعثتها الى كلينتون مع ربطة العنق التي قدمتها هدية اليه في العام الماضي فقد احتفظت بنسخة منها، وصادر المحققون هذه النسخة قبل أيام. وتبدأ مونيكا تلك الرسالة بعبارة: "عزيزي الغبي". وفي أحد الأشرطة التي تصب فيها غضبها الجام على كلينتون خلال أحاديثها مع تريب تقول مونيكا: "ربما كان من واجبنا ان نقول للغبي اننا سنفضحه بصورة لم يسبق لها مثيل من خلال ابلاغ كل شخص عن علاقتنا الجنسية". القضية الأساسية والجوهرية في هذه الفضيحة هي ما اذا كان كلينتون وجوردان قد طلبا من مونيكا الادلاء بشهادة زور. اذ ان جوردان في رأي الغالبية الساحقة من الأميركيين السود انسان يقع خارج نطاق هذه الغالبية بل خارج نطاق البيت الأبيض نفسه. لكن الفضيحة دفعت حتى أكثر الصحف تحفظاً الى الحديث عن إمكان عزل الرئيس أو لجوئه الى الاستقالة بمحض ارادته لكي يتفادى محاكمته مثلما حدث مع ريتشارد نيكسون العام 1974. واذا ما حصل هذا فإن نائبه آل غور سيتولى الرئاسة للسنوات الثلاث الباقية بموجب الدستور. وفيما يتعلق بالشرق الأوسط لا فرق بين الاثنين. لكن أهم أولويات غور، اذا تولى الرئاسة، هي اصدار عفو عن كلينتون مثلما عفا الرئيس جيرالد فورد عن نيكسون ثم اختيار نائب جديد للرئيس يحظى طبعاً بمصادقة مجلس الشيوخ. ولما كان مجلس الشيوخ يخضع لسيطرة الغالبية الجمهورية فمن المرجح ان يؤجل مصادقته على تعيين نائب الى ان تنتهي الدعوى المقامة ضد غور نفسه بتهمة جمع الأموال بصورة غير قانونية لحملة الديموقراطيين الانتخابية. وفي هذا ما ينطوي على احتمال استقالة غور نفسه تحت ضغط الكونغرس. في تلك الحال تنتقل الرئاسة دستورياً الى رئيس مجلس النواب نيوت غينغريش أحد غلاة مؤيدي اسرائيل، وهو جمهوري سيختار بالطبع نائباً جمهورياً له. لكن رئاسة الجمهورية لن تنتقل الى جمهوري الا اذا حدث شيء ما لكلينتون. عنده تنتقل الى "عميد مجلس الشيوخ" ستروم ثورموند ممثل كارولاينا الجنوبية الذي يبلغ من العمر الآن 96 عاماً. وحتى تتقرر نهاية فضائح كلينتون الجنسية، تستمر دعوى بولا جونز ضده. ومن المقرر ان تدلي بعض "نساء كلينتون" بافاداتهن أمام المحكمة في هذه القضية. فهناك جينفر فلاورز وسالي بيردو وكاثلين ويلي ومونيكا لوينسكي وكثيرات غيرهن. وستدلي تلك النسوة بشهاداتهن طبعاً بعد اداء اليمين، عن غراميات كلينتون. والى ان تتضح الصورة بدأت تتردد في واشنطن اشاعة مفادها ان لوينسكي ستقول ان الأشرطة وافادتها المكتوبة صحيحة، أي انه لم يكن بينها وبين الرئيس أي علاقة جنسية على الاطلاق، لكنها توهمت ذلك لأن كل ما حدث انه تحرش بها