صدم مشهد اقتحام كنيسة كاثوليكية في العاصمة الأندونيسية جاكرتا، المتابعين للأخبار العالمية أمام شاشات التلفزة، وأعاد فتح ملفات لم تدخل طي النسيان بعد. كما وقع أخيراً في بعض قرى صعيد مصر، وطرح أسئلة حائرة عن أولويات الصراع في عالم اليوم، أي في تقلقل أبناء الوطن الواحد، أم في توحيد الجهد أمام ركام من المشاكل التي تواجه أوطاننا في العالم الثالث، وتنتظر حلولاً جذرية، كالتخلف والأمية وانتشار الأوبئة والأمراض؟ وهي - في كل الأحوال - مشاكل حقيقية تلقي بظلالها الكثيفة على الأطروحات السياسية ومواضيع الإعلام المختلفة. ويكاد الحدث الأندونيسي لا يختلف في كثير من مفرداته عن أحداث دموية وحروب أقليات، وصراعات مذهبية وطائفية وشعوبية شهدتها مناطق أخرى من العالم، بما في ذلك العالم الغربي، كما في الباسك وايرلندا والبوسنة، ولا يضير المقارنة تفاوت نسبة العنف واختلاف آليات تنفيذه. وفي المشهد الدولي أكثر من بؤرة توتر ترهق نفوس ذوي الضمائر ممن ينظر إلى المجتمع الإنساني نظرته إلى الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. ولمواجهة تحديات العصر المعقدة والتغلب عليها، تتجمع دول اليوم الفاعلة في تكتلات اقتصادية كبيرة، كما فعلت الدول الأوروبية في اتحادها الواعد، وكما فعلت دول الشمال الأميركي في رابطتها الاقتصادية، حتى الشركات العملاقة نراها أكثر ثباتاً في خطواتها ونجاحاً في انجازاتها من المؤسسات الفردية والاقليمية التي تقتات على فتات موائد الكبار، لم يعد في عالم اليوم مكان للصغار. لا صغار الأهداف، ولا صغار الوسائل والآليات، ولا صغار العدد والامكانات. والتكتل يحتاج إلى ذهنية منفتحة على الغير، وإلى الإقرار بالفروقات واحترام الرأي الآخر، ويقوم على الحوار والاقناع والتعاون والتكامل في بناء الحياة. لقد بنيت التجربة البشرية، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الوحدة، سياسية كانت أو اقتصادية، لا تقوم على التغلّب والإكراه، إلا إذا أردناها وحدة عابرة غير مستقرة. ككثير من المشاريع الفاشلة التي مرت مرور سحائب الصيف وانتهت في اللحظة نفسها التي انتهت فيها مراسم الاحتفال الرسمي بإعلانها. وقراءة الحدث الأندونيسي قراءة متمعنة تبيّن خطورة ما نقلته وسائل الاعلام، بغض النظر عن عدد المشاركين فيه، وعن خلفيات الصراع الذي أدى إلى بروز روح التشفي، والتنكر لكل انجازات الأمة الجماعية مهما بدت متواضعة في أعين الساخطين. ففي جاكرتا وحدها قتل أكثر من 30 شخصاً وجرح 500، وبين القتلى مسلمون معتدلون اصيبوا على أيدي الغوغاء، ومصلون مسيحيون تم الاعتداء عليهم أثناء تأدية طقوسهم الدينية في كنيسة وسط العاصمة. وتكمن خطورة الحدث في توقيته وفي أوعيته أكثر مما تتعلق بتفاصيله، مع استنكارنا ورفضنا العدوان، من أي جهة صدر. ذلك لأن الإسلام أمر بحفظ الضروريات الخمس وهي "الدين والنفس والعقل والنسل والمال". وما جرى في جاكرتا عدوان صارخ على الضروريات هذه، وضرب بعرض الحائط لتعاليم الإسلام الذي رفع بعض المتحمسين شعاراته بالتكبير والتهليل في اللحظة التي كانوا يتعدون فيها حدود الله. أفما آن الأوان لمواجهة واقع ما يجري داخل صفوف الأمة بعيداً عن مشجب موهوم نلجأ إليه لتبرير كل خطأ نقع فيه، وبعيداً عن نظرية المؤامرة. هذا المرض المتوطن في داخلنا والذي يبرر لكل متهور ومتطفّل على الساحة السياسية الترهات والثغرات التي يمزق بها جسد الأمة، فيكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا؟ ان الكلمات المنمقة التي تتحدث عن مؤامرة خارجية وأيد خفية تعمل من خلال العنف على تمزيق وحدة الأمة وتضييع انجازاتها وتشويه صورة الإسلام في الخارج، لم تعد ذات جدوى أمام عدد من المعطيات التي تفجرها أحداث عاصفة في انحاء معدودة من العالم الإسلامي، تحصد الأبرياء، مسلمين وغير مسلمين. فالصراع في أفغانستان - على سبيل المثال - هو صراع بين مسلمين. والنصر المطلوب هنا هو نصر جماعة على جماعة أخرى تعمل لمشروع سياسي مغاير. والمذابح التي تطال المدنيين والقرويين الآمنين في الجزائر، تطال مسلمين موحدين يقيمون الصلاة ويؤدون الواجبات جميعاً، تذبحهم فتوى من "أمراء جماعات إسلامية مسلحة" وبأيدٍ متوضئة تطلب النصر أو الشهادة ؟. وظاهرة تستر الصراعات الدموية وراء شعارات دينية، مشكلة إنسانية تكررت خلال التاريخ، وعرفتها الأمة المسلمة في تاريخها كما عرفتها الأمم الأخرى، فصراع حركات الاصلاح الكنسي مع الكاثوليكية، وجرائم الحروب الصليبية، ومآسي محاكم التفتيش، لا تخرج عن إطار ذلك. كما لا يخرج عنه تدمير المسجد البابري في الهند. وقد تتغير في هذه الوقائع الأسماء والتواريخ، لكن التفاصيل تتقارب إلى درجة الاستنساخ والتطابق المثير للتساؤلات. وأندونيسيا نموذج جدير بالدراسة نظراً إلى التركيبة الفسيفسائية التي تتعايش فوق أرضها، فالبلاد تتألف من 13 ألف جزيرة، يعيش فوقها عدد من الاثنيات العرقية، والطوائف الدينية، وكان سوكارنو، الرئيس الأسبق، وبعده سوهارتو، الرئيس السابق، قد تبنّيا لتحقيق طمأنة 12 في المئة هم مجموع غير المسلمين في البلاد من المسيحيين والبوذيين، عقيدة "بانجاسيلا"، وعنيا بها الإيمان بالله الواحد، والدعوة إلى تحقيق العدل والديموقراطية والوحدة، وإقامة مجتمع سليم. لكن الممارسة العملية على مستوى القيادات السياسية والنخبة الحاكمة لم تترجم هذه العقيدة إلى حقائق على الأرض. فقد اطلق سوهارتو المخلوع العنان لأفراد أسرته وأقاربه وأصدقائه في الشؤون المالية والاقتصادية. وثبّت نفوذه داخل الجيش، المؤسسة التي رعاها وجعلها القوة الوحيدة في البلاد، وسنّ من القوانين ما يعطي المؤسسة العسكرية الأندونيسية صلاحيات التدخل في شؤون الحكم. مما دفع بمئات الألوف أخيراً إلى الشوارع مطالبين بمحاكمته بتهم الفساد والإثراء غير المشروع. ولا غرو أن نرى الرئيس الحالي يوسف حبيبي أسير التركة الثقيلة التي تركها سوهارتو، وفي جملتها استخدام العنف والاعتماد التام على القوات المسلحة، فسوهارتو بدأ حكمه بمواجهة دموية مع التيار الشيوعي تركت وراءها نصف مليون قتيل. والصحوة الإسلامية التي شهدتها البلاد جاءت نتيجة عدد من الأسباب الموضوعية، على رأسها تخوف الغالبية العظمى من مسلمي أندونيسا على هويتهم وتميزهم. فال "بانجاسيلا" لم تشكل لديهم بديلاً مقبولاً عن العقيدة والانتماء الإسلامي، وهم يحمّلونها مسؤولية انتشار مراكز التنصير في طول البلاد وعرضها، ولأن التنصير في الوعي الشعبي الأندونيسي مرتبط بفترة النفوذ الاستعماري الغربي، كان الموقف منه سلبياً لما يعنيه في الذاكرة التاريخية من تهديد مباشر للنفوذ الإسلامي والمصالح الوطنية، كما يرونها الجسر الذي أوصل غير المسلمين، على حساب المسلمين، إلى مراكز القوى الاقتصادية، بالاضافة إلى كونها وفّرت التبرير القانوني للدولة في تثبيت ديكتاتورية سوهارتو ومواجهته للحركات الإسلامية المعارضة، وأبرزها من حيث العدد "نهضة العلماء" بزعامة نجمي عبدالرحمن وحيد، و"المحمدية" بقيادة أمين رايس. ولا يقل عدد المنتسبين لكل منهما عن 20 مليون عضو، الأمر الذي يبين حجم تأثير الإسلام في البلاد. إن خطورة تحويل التديّن إلى أداة فاعلة بأيدي الباحثين عن دور سياسي، مشكلة إنسانية عامة وليست خاصة بالساحة الاندونيسية أو الإسلامية، ولكن أمام دين كالإسلام يدعو إلى التسامح والانفتاح، ويؤكد وحدة الجنس البشري، ووحدة الوحي الإلهي، ويقرّ بالتعددية والتنوع داخل المجتمع الإنساني والإسلامي، يصبح الحدث نفسه انتهاكاً للإسلام ومخالفة صريحة له. ويصبح المتحركون من دون وعي أداة ناجحة في أيدي التسلط الدولي والجشع المادي. ففي عالم يموج بالمشاكل الاقتصادية، ويغرق في بحور من الصراع السياسي بين دول تبحث عن موطئ قدم في أسواق تمدها باليد العاملة الرخيصة، والأفواه الاستهلاكية المليونية، والاحتياجات اللامتناهية لانتاجها الزراعي والصناعي والحربي، تصبح الحروب والقلاقل الأمنية فقرة مهمة في برنامج التجارة والسياسة العالمية اليومية. ان مسؤولية الحركة الإسلامية، بمختلف فصائلها، لا تقف عند حدود الاستنكار والشجب، اذ هي مطالبة ببرنامج عملي يؤدي إلى تنفيذ الأدبيات الداعية إلى التعايش والتواصل. وشر الخاسرين من عمل على تقويض بنيانه وهو يحسب أنه يحسن صنعاً