لا تزال الجزر الاندونيسية منذ سقوط نظام الرئيس سوهارتو في أيار مايو الماضي مسرحاً لدرجات متفاوتة من أعمال العنف والشغب اليومية، مما يثير أكثر من تساؤل حول أسباب استمرار مثل هذه الأعمال والمستفيدين منها على الرغم من سقوط الديكتاتور السابق، وسن اصلاحات دستورية واطلاق الحريات والوعد بتلبية بقية المطالب تدريجياً وتحقيق تقدم فعلي في ما خص تيمور الشرقية. إلا أن هذه التساؤلات تتوارى حينما نعلم ان المشهد السياسي ليس محكوماً، مثلما يبدو للوهلة الأولى، بالعناصر المعروفة، بل ان عنصراً سادساً يتجاوز في تأثيره ونفوذه قوة بقية العناصر ويعمل من خلف الكواليس بكفاءة واقتدار. وهو المحرك الأول لأحداث المشهد. وليس هذا العنصر بحسب الاندونيسيين سوى الرئيس السابق وأفراد عائلته ومن هم في حكم انصاره وبطانته. صحيح ان سوهارتو اضطر الى الاستقالة والانزواء بعيداً عن المسرح السياسي الا ان شواهد كثيرة تؤكد انه لا يزال رقماً صعباً في المعادلة الاندونيسية، وان بامكانه بما زرعه خلال 32 عاماً من الحكم الديكتاتوري المتواصل من أنصار في مختلف مرافق الدولة والجيش والمخابرات والمنظمات الحزبية، وما قام به من فساد وإفساد وبما تحت يديه من أموال وثروات خفية أن يضفي ما يريده على المشهد من ألوان داكنة. وصحيح ان سوهارتو حاول خلق انطباع لدى مواطنيه بأنه صار رجلاً لا حول له ولا قوة وانه ملّ السلطة ورضي بقدره ولا يرجو سوى حسن الخاتمة، إلا أن الصحيح أن هذه الحركات المسرحية لم تنطل كثيراً على ذكاء الاندونيسيين الذين علمهم التاريخ ان ما يجري ظاهرياً فوق السطح ليس سوى ذر للرماد في العيون، وان الأمور الكبيرة عادة ما تجري تحت السطح ومن وراء الكواليس. لقد بدا سوهارتو خلال الأشهر الثمانية الماضية كسيراً يثير الشفقة، سواء خلال تردده على الجوامع الصغيرة البعيدة عن الأضواء للصلاة، أو ظهوره على شاشة القناة التلفزيونية المملوكة لابنته الكبرى توتوت للدفاع عن نفسه من تهمة الفساد والاثراء غير المشروع، أو خلال ذهابه الى مكتب المدعي العام للتحقيق معه حول ثرواته التي قال انها لا تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات في صورة عقارات وشهادات بنكية وليست أربعة بلايين كما تردد، أو أثناء تسليمه الدولة لأصول المؤسسات الاقتصادية الخيرية السبع التي كان يشرف عليها تحت عنوان تنمية القطاعات الشعبية وتحسين الظروف المعيشية للفقراء والمعوقين والايتام والارامل. لكن من ذا الذي يمكن أن ينخدع بأن السطوة الفاحشة والهيمنة الاحتكارية التي كانت للجنرال العجوز وعائلته على مجمل الأنشطة الاقتصادية في البلاد على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن لم تحقق سوى تلك الملايين المعدودة التي أقرّ بامتلاكها. وبالمثل فإنه من السخف القبول بمقولة ان الأموال التي وضعها الجنرال تحت تصرف الدولة هي كل ما كان تحت يديه من أصول المؤسسات الخيرية السبع. وبحسب بعض التحريات المستقلة التي جرت بعد أيار مايو الماضي اتضح ان الشركات التي كانت تتبع آل سوهارتو وبطانتهم بلغ عددها أكثر من مئة شركة عالمية في مختلف القطاعات، وانها كانت جميعها مرتبطة بطرق معقدة وملتوية بالوزارات ومؤسسات الجيش وشركات القطاع العام. كما دلت هذه التحريات على أن الأموال التي تراكمت في مؤسسات سوهارتو الخيرية من تبرعات رجال الأعمال ومن الضرائب المفروضة على رواتب العاملين في جهاز الخدمة المدنية كانت كبيرة، لئن صرفت منها نسبة على تحسين الأحوال المعيشية والوظيفية للطبقات الدنيا، فإن نسبة كبيرة أخرى ذهبت للانفاق على أنشطة الحزب الحاكم وشراء الولاءات ودعم مكانة الموالين للنظام وكمكافآت لمن قام بأعمال ضد المعارضة. والحال ان سوهارتو لا يزال يتمتع بثروة كبيرة لينفقها على الأنصار والتابعين ويشتري بها ولاءاتهم وخدماتهم مثلما كان يفعل وهو في السلطة. وإذا كانت هذه الخدمات قد انحصرت في الماضي في حماية النظام من القلاقل، فانها اليوم تأخذ اتجاهاً معاكساً هو زعزعة النظام وزرع الفوضى في طريقه للحيلولة دون بلوغه وضعاً يستطيع معه فتح ملفات الماضي أو التأثير على نفوذ آل سوهارتو وبطانتهم، وأيضاً لخلق حالة من الذعر والخوف في أوساط العامة بما يجعلهم يترحمون على الاستقرار الذي ساد في العهد السابق ويطالبون بعودته. لقد أصبحت هناك قناعة في أوساط الرأي العام الاندونيسي بأن استمرار الاضطرابات في البلاد وبالشكل الدموي والتخريبي السائد وعدم انحساره رغم كل ما تحقق من اصلاحات ووعود، لا بد وأن تكون وراءه يد تعمل بطريقة منهجية ودقيقة من أجل مصالحها الخاصة. وهنا لا يمكن الاشارة بأصابع الاتهام الا الى الرئيس السابق وبطانته لأنهم وحدهم من يملكون المال والنفوذ والتجربة اللازمة للقيام بإثارة الشغب وتأجيجه، وهذا تحديداً ما أكده تقرير مؤلف من 46 صفحة نشرته مؤخراً جميعة المساعدة القانونية التي تتخذ من جاكارتا مقراً لها. وطبقاً لهذا التقرير فإن الاستنتاج الذي يمكن الخروج به بعد دراسة متأنية لأحداث الشغب الاندونيسية خلال 1998 ابتداء بحوادث الاعتداء والحرق لممتلكات الأقلية الصينية ما بين كانون الثاني يناير وأيار، وانتهاء بالاضطرابات الطائفية التي شهدتها جاكارتا والاقاليم الشرقية في تشرين الأول اكتوبر مروراً بأعمال القتل التي تعرض لها من وصفوا بالمشعوذين والسحرة في شرق جاوه، هو أن هذه الأعمال حدثت بطريقة نمطية واحدة في غاية الاتقان، الأمر الذي يؤكد أن مرتكبيها جماعات صغيرة مدربة تدريباً عالياً على اشعال الفتنة ثم الانسحاب السريع بأمان تاركين للعامة والغوغاء اكمال المهمة. وهذه الصفة اذا كانت تنطبق على عملاء المخابرات وأفراد الفرق العسكرية الخاصة ممن رعاهم سوهارتو رعاية خاصة اثناء حكمه فصاروا يدينون له وحده بالولاء الأعمى، فانها تنطبق أكثر على ما كان يسمى بشبيبة بانكاسيلا، تلك الجماعة شبه السرية التي اعتمد عليها سوهارتو سابقاً في ضرب خصومه لا سيما في 1996 حينما أراد تأديب السيدة ميغاواتي سوكارنو بوتري وانصارها في صراع الأخيرة للبقاء على رأس حزبها. ولعل ما يجعل الاتهامات تحوم حول هذه الجماعة اكثر ان الاضطرابات التي شهدتها مدينة أمبون مؤخراً لم تقع الا بعد وصول 160 من عناصرها الى المدينة، ناهيك عن أن زعيم هذه الجماعة المدعو يوريس راويائي يتردد على مقر سوهارتو بشهادة الزعيم الاسلامي عبدالرحمن وحيد الذي أقر بوجود الرجل اثناء زيارة قام بها مؤخراً الى منزل الرئيس السابق. وهكذا فإن سوهارتو لا يزال حاضراً وبقوة على المسرح الاندونيسي وان بدا ظاهرياً خارجه. ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة، اضافة الى ما سبق، ان الكثيرين من نجوم هذا المسرح على اتصال مباشر وغير مباشر به، بل يترددون على مقره للتداول والاستشارة ويهابونه ولا يتجرأون على مواجهته. ففي زيارة عبدالرحمن وحيد له اوائل شباط فبراير استفسر سوهارتو من ضيفه ان كان قد اتهمه بالوقوف خلف اعمال الشغب وهو ما حدث فعلاً، فانكر وحيد مجيباً "كلا يا سيدي لم أفعل". أما الرئيس حبيبي وقائد الجيش الجنرال ويرانتو اللذان أورثهما سوهارتو السلطتين السياسية والعسكرية على التوالي، فلا يزالان كما كانا دائماً أوفياء للرئيس السابق. فإذا كان ويارنتو يحرص على توفير الحماية اللازمة له ولأفراد أسرته ويبعث له بالرسائل والمندوبين فإن الآخر يحرص على ألا تتجاوز عملية التحقيق في فساده التي اضطر اليها نزولاً عند رغبة الشارع الهائج، حداً معيناً. وفي هذا السياق الأخير يتذكر الجميع كيف سارع حبيبي عندما علم بنية المدعي العام الاندونيسي فتح تحقيق اولي حول الاتهامات الكثيرة الموجهة لسوهارتو، الى عزله وتعيين مدع عام جديد من رفاق الرئيس في السلاح هو الجنرال اندي غالب كي يباشر المهمة ذاتها برقة ولطف وحذر. على أن هذه الحادثة أصبحت اليوم غير ذات قيمة على ضوء ما استجد في السياق نفسه خلال الاسبوع الماضي، ونعني هنا فضيحة التنصت على هواتف الرئيس حبيبي وما نشرته صحيفة "بانجي ماسياراكات" الاسبوعية كنص لاحدى المكالمات الهاتفية للرجل مع المدعي العام الجنرال غالب. ففي هذه المكالمة يطلب حبيبي من غالب أن يكون أكثر ليونة في تحققاته مع آل سوهارتو، فيرد الأخير قائلاً بأنه يضع الأمر نصب عينيه ولا داعي للقلق، وانه في حين حقق مع الآخرين لمدة تجاوزت سبع ساعات اكتفى مع سوهارتو بثلاث ساعات فقط. ورغم ان عملية التنصت هذه أمر مذموم يعاقب عليه القانون إلا أن الاندونيسيين يعتبرونه في هذه الحالة شيئاً جيداً لأنه اثبت عدم جدية النظام الجديد في ملاحقة سوهارتو الذي تكفي تهمة واحدة أو تقرير وحيد لايصاله الى حبل المشنقة. وجملة القول إن الرأي العام الاندونيسي بصفة عامة بات مقتنعاً بأن استقرار اندونيسيا أمر غير ممكن قبل أن ينتهي سوهارتو وبطانته في السجون، فطالما ظل هؤلاء أحراراً فإن بامكانهم تفعيل مؤسساتهم وتوظيف نفوذهم وأموالهم في شراء ذوي الذمم الضعيفة لإحداث حالة من الارتباك والقلاقل في المجتمع وبالتالي اشغال السلطة بتداعياتها.