كيف ينقلب الحجر وتضاريسه وأخاديده الى "طوبوغرافية" نورانية؟ استقت رنده نعمه انشغالها بهذه الهيكلية السديمية من تراث المدرسة الانطباعية الفرنسية، وصارت تقتنص من صيرورة الموجه رذاذ أشعتها العاجية المتناثرة الضوء، وتستنبط من حلزونها المنطوي على نفسه: فلكية كونية، ثم عادت تغرس في هذه الشمولية طقوس الولادة والتفتح والانغلاق والتفريخ والخصوبة، كما هي مدقّات وأسدية الزهور، فلقات وفصوص الثمار، وثنائية الذكورة والأنوثة في الكينونة الحية. وفي معرضها الأخير، قدّمت هذه الفنانة اللبنانية المقيمة في باريس، أربعين منحوتة، قائمة على صيرورة الشكل، تنضح بخصوبة لا تقبل أية نمطية أو أسلبة. فمشاهدها تحتاج الى التفاف المتفرج حول التمثال، ليتابع تحولات سطوحه اللانهائية وفق فصول سخاء الضوء أو انكماشه في الظل. رنده نعمه من مواليد 1965 وخريجة الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة ألبا، 1989. ومعرضها الراهن يعتبر من أبرز اطلالاتها في العاصمة الفرنسية وأشدها وحدة وتنوعاً. أُنجز القسم الأعظم من المنحوتات خصوصاً الكبيرة في بحر العام الحالي، وقد غلبت مادة المرمر والرخام الأبيض بما فيه المرمر البرتغالي الزهري، والحجر ذو اللون الفاتح "بورغونيو"، وخمس لوحات تعتمد النحت البارز من الجص وسواه، وباقة من التماثيل والدمى الصغيرة أنجز أغلبها من الطين المشوي، تجمعت في واجهات زجاجية خاصة. كما اشتمل المعرض على القليل من البرونز المعدني والبولياستير. سيطر اللون الأبيض على المعرض بحيث تتوه العين في تدرّجات باقة المسلات النورانية التي تشابه ايحاءات المقرنصات الجصية في التراث النحتي المحلي. وبدت الصالة الرحبة وكأنها بانوراما لمسيرة الجلال الروحاني المستقى بلا شك من منهج النحت الانطباعي الفرنسي رودان، ثم كلوديل. يعتمد هذا المنحى على حركية السطوح، وتجزيء الجسد الانساني عبر الشظايا المتعاكسة النور. ونعثر في تمثال "ألف ليلة وليلة" 1997 على بصمات رودان الواضحة، فهو أشبه بالتحية إلى المعلّم الفرنسي وغمامياته الرخامية الملفحة بشيب الزمان وشحوب الذاكرة. وإذا كانت المبادئ الانطباعية قد قادت رنده نعمه في سنواتها الأولى الى الاهتمام بتحولات الضوء على الجسد الحي، فقد واصلت هذا الاهتمام في استلهامها خصوبة الطبيعة والتقشف في صياغة الموضوع، حتى شارفت "التجريد البنائي". وتعكس أعمالها ايحاءات الخصوبة وأجهزة اللقاح في الطبيعة، ثم تمفصل عناصر الذكورة مع الأنوثة. البيضة أيضاً تتكرّر في عالمها النباتي الأبيض، محيلةً إلى مرحلة سابقة في مسيرتها تمحورت حول الأجساد الحية، وثنائية الظاهر والباطن. وكثيراً ما تستحضر الفنانة تقسيمات الجسد على طريقة تجارب المدرسة "المستقبلية" في ايطاليا، إذ يتشظّى الجسد ويختفي في آلية نشاطه، وتبقى الحركة بعد تلاشيه، أو غياب هيئته الدلالية بالتجريد. وكأننا بها تعود الى معالجة الجسد الانساني كلما نفذ معين تجريداتها العضوية. وعلى رغم تنوع المواد وهاجس تجريب الخامات الذي يشكل محور تجربة هذه الفنانة الشابة، فإن حساسيتها الضوئية كفيلة بالربط بين مختلف الأعمال في وحدة عضويّة، وفي ترويض الملامس والأنسجة المتباعدة. ولعل تمسكها بهذه الحرية التعبيريّة جنّبها الخضوع الى مبادئ الانطباعية، خصوصاً على مستوى العلاقة المطلقة بالضوء. والدليل على ذلك اهتمامها بالعمارة البنائية، وهنا نعثر على أهم خصائص نحتها، وهي "نسبية" القياس: لا تعطي الصورة فكرة أمينة عن القياس الفعلي في أعمال رنده نعمه لأن التصميم قابل للتكبير والتصغير الى ما لانهاية. والشكل عندها مجهري مينماليست وفلكي في آن. وتجدر الاشارة إلى أن ثقافتها التراكمية، وشموليتها المتوسطية، لا تخفي تواصلها المضمر مع خصائص النحت اللبناني، بدءاً من انجازات معلمة النحت الأولى في لبنان: سلوى روضة شقير التي أسست مبدأ التلسين والتمفصل، أو الانشطار والتجمع حسب استعارتها الفيزيائية. لذا تبدو الكتلة لدى نعمه مشظاة الى وحدات غير متماسكة، ولكنها لا تخرج عن الهيكل النحتي. وهذا يعني أنها لم تلتزم بأهم خصائص المعلّمة، أي امكانية إعادة التركيب. وتلتقي رنده نعمه مع النحات المعروف ميشال بصبوص في رفضها أي تحضير مسبق للمجسّم أو المخطط العام. فالاثنان يملكان القناعة نفسها بوجودية ووجدانية طقوس النحت وتلقائيته. فالنقل لا يخلو من البرودة والنقص في شجاعة مداهمة المادة بطريقة مباشرة، لذلك نجد العرائس الطينية معروضة مثل سواها من المنحوتات الرخامية الأخرى، أي بالأهميّة نفسها والاستقلال نفسه. تعتمد مسيرة رنده نعمه منذ البداية على تجنّب المنزلقات السهلة باتجاه الحداثة المتمسرحة التي تعثّر بها الكثير من أترابها. إنّها ترسخ تجربتها خطوة خطوة، تتخلّى تدريجاً عن التأثيرات والاستعارات الخارجيّة، لتفرض شخصيّتها المستقلّة