عندما فاز الاشتراكيون الديموقراطيون وحلفاؤهم في الانتخابات التشريعية الاخيرة في المانيا بدا كأنما "عهد هلموت كول انتهى". فالمستشار الجديد، غيرهارد شرودر اكثر غموضاً من ان يصلح عنواناً لصحيفة. ولكن الاهم من ذلك هو ان كول عاصر، من موقع المسؤولية، احداثاً جسيمة كانت بلاده في القلب منها: الوفاق الدولي، انهيار الجدار، تفكك حلف وارسو، الاندفاعة الأوروبية المتسارعة نحو الوحدة، الخ… وهو سيدخل التاريخ بالتأكيد بصفته الرجل الذي اخذ على عاتقه التوحيد الفوري للالمانيتين. لا شك ان كول اخطأ كثيراً وان الترهل اصاب سلطته في السنوات الاخيرة. غير ان الخطأ الفادح الذي ارتكبه هو قراره بترشيح نفسه للمرة… الخامسة! لقد راهن في ذلك على "محافظة" الشعب الالماني ففوجئ بأن هذا الشعب قرر، ومرة واحدة، تغيير المستشار والعاصمة والعملة. ان عام 1999 هو عام الماني بامتياز. فهو سيشهد تجربة الحكم الجديدة ولكن، ايضاً، عودة العاصمة الى برلين، مدينة الرايخ، والتخلي عن المارك الذي بات، منذ الحرب العالمية الثانية، صنو الهوية الوطنية. مع وصول المستشار السابع، شرودر، تغير المشهد تماماً في عيون الالمان. وهم، اذا كانوا يعرفون، بالكاد، العالم الذي دخلوا فيه بعد انتهاء الحرب الباردة، فانهم سيكونون مدعوين الى مغادرته من اجل استكشاف الجديد الذي يقودهم اليه التحالف الواصل الى السلطة. يقول معلق الماني "ان امامنا اربعة اعوام للتعرف على شرودر". والقصد بذلك التلميح الى غموض الرجل وافكاره وبرامجه، وهو غموض زادته الحملة الانتخابية. فلقد تركزت ضده، من جانب الاشتراكيين، على ضرورة تغيير رجل وطرحت اسئلة اكثر مما قدمت اجوبة حول وجهة هذا التغيير. والذين حاولوا استقراء المستقبل عبر دراسة السيرة الشخصية للمستشار الجديد اكتشفوا انه شديد التقلب وانه غيّر مجرى حياته بقدر ما طلّق وتزوج: اربع مرات! غير ان هذا التغيير كان محكوماً بنوع من البوصلة تشير بثبات الى… اليمين. كان شرودر في شبابه ماركسياً متطرفاً، ثم عمل تحت قيادة ويلي برانت، ثم اعتدل اكثر مع دخوله الحلقة القيادية في الحزب، ثم بات يفاخر، وقد اصبح مرشحاً للمستشارية، بأنه "صديق ارباب العمل". وكان يحتفظ، في كل واحدة من هذه المحطات، بعناصر تعود الى السابقة وتجعل منه شخصاً ذا خطاب ملتبس. اراد في الشهور الاخيرة جلاء موقفه فاخترع مصطلح "الوسط الجديد". وحصل ذلك استباقاً لما طرحه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير حول "الطريق الثالث". ولكن شرح "الوسط الجديد" بأنه "طريق ثالث"، أو العكس، لا يغير شيئاً محدداً ولا يقدم اي مضمون برنامجي لما ستكون عليه ممارسة السلطة. ومع ذلك امكن للمراقبين ان يستشفوا وجود توجه جديد. فالقصد من هذه التعابير الايحاء بأن الاشتراكية الديموقراطية في صيغتها التاريخية ماتت، وان دولة الرعاية القديمة ولت الى غير رجعة، وان الاصلاحات المطلوبة هي في منحى يتجاوب مع الظروف الدولية الجديدة، وان التكيف مع العولمة بما هي حرية الحركة للرساميل والاعتماد المتبادل بين الاقتصاديات هو شعار المرحلة. والترجمة الفعلية لذلك هي السعي الى تمثيل فئات وسطى وبعض القطاعات الرأسمالية الحديثة، ومغادرة الانشداد الماضي الى القواعد العمالية ومنظماتها النقابية. بين بلير وجوسبان لذلك قيل ان شرودر، اذا فاز، فانه سيكون اقرب الى طوني بلير منه الى رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان. فالاخير متهم، حتى في اوساط يسارية، بأنه يمثل حنيناً الى اشتراكية فات اوانها دولياً. ولم يتم التنبه كفاية الى ان شرودر، حتى في هذا المجال، لم يدل بمواقف حاسمة ولم يلتزم بتعهدات قاطعة. بل حدد وجهة عامة قادته الى ربح المعركة السياسية واكتفى بذلك. ولم تمض ايام على الانتظار حتى بدا ان المستشار الجديد "اعطى اشارات الى اليمين ولكنه ينعطف يساراً". فلقد توالت الخطوات التي توحي بأنه اكثر يسارية مما كان يبدو عليه. ما هي هذه الخطوات؟ اولا - اعلن جوست ستولمان بأنه لن يكون وزيراً في الحكومة المقبلة. والرجل الملقب بپ"بيل غيتس المانيا" رجل اعمال ناجح يدعو الى اصلاحات ليبرالية ويعتبر ان الاشتراكيين اقدر على القيام بها من الديموقراطيين المسيحيين. ولقد كان حضوره في الحملة بمثابة رسالة طمأنينة الى الصناعيين ومبعث قلق لدى النقابيين. ولقد رفض المشاركة في الحكومة لأن وزير المال المعين، رئيس الحزب الاشتراكي اوسكار لافونتين، نجح في انتزاع صلاحيات جوهرية منه معلناً، في الوقت نفسه، انه يعترض على توجهاته "اليمينية". ثانياً - استبعد شرودر بسرعة فكرة الحكومة الائتلافية مع الديموقراطيين المسيحيين. صحيح انه حاز، مع حزب "الخضر" على اكثرية ولكن الصحيح، ايضاً، ان استقصاءات الرأي العام كانت تشير الى تفضيل مثل هذه الحكومة. وكان الواضح من هذا التفضيل ان الرجل يميل الى يسار الوسط وليس الى يمين الوسط. ثالثاً - دخل شرودر في مفاوضات سريعة مع "الخضر" من اجل تشكيل الحكومة. ويعني ذلك، بالضرورة، انه مضطر الى دفع ثمن سياسي لهم في مقابل الحصول على الاصوات التي تؤمن له الاكثرية. و"الخضر" في المانيا، ورغم الواقعية الشديدة، التي تبديها قيادتهم هم ورثة حركة 68 الطالبية التي لم تتخل، تماماً، عن نزعاتها اليسارية. اما التيار القوي فيهم فشارك في حكومات محلية، وتعلم صعوبة الادارة، وادرك ضرورة التسويات، ولكن ثمة اقلية كبيرة جذرية ما زالت تطمح الى "تجاوز الرأسمالية". رابعاً - عندما اعلن عن الاتفاق على برنامج الحكم تعالى الصراخ بان شرودر خدع ناخبيه. فالبرنامج المكتوب في خمسين صفحة شديد الوضوح في انحيازه الاجتماعي. فهو يتضمن مقدمة تحدد الاطار الجديد للسياسة الالمانية: الاعتماد المتبادل في الاقتصاد العالمي، عولمة الاسواق المالية، الاندماج الاوروبي، التحديات الكونية للتنمية. ولكنه يفصل هامش التحرك الوطني بشكل يغلب وجهة "اجتماعية" في القضايا المطروحة. اهمها: البطالة، اصلاح الاوضاع المالية العامة، ميثاق العمل، التأهيل،مكافحة بطالة الشباب، الضرائب العادلة والبيئية، خفض كلفة العمل، سياسة حديثة للطاقة، اصلاح نظام التقاعد، الامن الداخلي والجريمة المنظمة، ميثاق الديموقراطية والتسامح، المبادرات الاوروبية حول حق اللجوء والهجرة، الاندماج الوطني وقانون الجنسية الجديد، الثقافة، الوحدة الاوروبية وبعدها الاجتماعي، الخ… خامساً - اعلنت الحكومة الجديدة، 18 وزيراً، عن دفعة اولى من الاجراءات. منها، مثلاً، تغيير قانون الجنسية لاعتماد "مبدأ الارض بدل مبدأ الدم" وهو امر يعني تجنيس اربعة ملايين مقيم مع حقهم في الاحتفاظ بهوياتهم الوطنية. جاء، بعد ذلك، اقتراح التخلي عن الطاقة النووية على مرحلتين، ثم فرض ضريبة بيئية. تلا ذلك الكشف عن وجهة في الاصلاح الضريبي تزيد اعفاءات الاجور المتواضعة والمتوسطة، وتزيد الاعباء على الشركات والمداخيل الكبرى، وتعيد العمل بعدد من التقديمات الاجتماعية التي كان كول الغاها. لقد بادر جوست ستولمان نفسه الى انتقاد هذه التوجهات. ورأى بعضهم فيها تكرارا للمرحلة الاولى من حكم فرنسوا ميتران في فرنسا: اغداق تقديمات يتبعه تقشف شديد. وقال احدهم ان شرودر وعد بپ"العدالة والابداع"، "لكننا نرى العدالة ولم نلحظ الابداع حتى الآن". غير ان "التهمة" الاهم كانت: هل انتخب الالمان شرودر من اجل ان يحكمهم اوسكار لافونتين. فالثاني معروف بأنه على يسار الحزب والرجل الاقوى فيه. ولقد كان حاضراً بقوة في اثناء الحملة الانتخابية وبعدها. وهناك من ينسب اليه انه ادرك ان "يساريته" تمنعه من الفوز فاختبأ وراء اعتدال شرودر حتى اذا حصل الانتصار خرج من الظل. ولقد ووجه المستشار الجديد بسيل الاتهامات هذا فوجد نفسه يكرر انه يمسك بزمام الامور، وانه الرجل الاول، وانه ينوي، بعد دفعة الاجراءات هذه، ادارة الدفة الى الوسط بعدما يكون اطمأن الى انه ارضى قواعده الانتخابية وتجنب استفزاز النقابات وأشعر الالمان الشرقيين، تحديداً، بأنهم ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية. وهناك من يتوقع، الآن، ان تأتي المفاجأة من رجل اسمه يوشكا فيشر. انه من قادة "الخضر" ومن التيار المعتدل بينهم. وهو يصنف، سياسياً، في مكان وسط بين شرودر ولافونتين. لقد تولى فيشر حقيبة الخارجية على رغم الاعتراضات الاميركية عليه. ومصدر الاعتراض دوره في حركة السلم التي اعترضت على زرع الصواريخ الاطلسية في الثمانينات ودعوته السابقة الى انسحاب المانيا من الحلف. الا انه، ومنذ تعيينه، يظهر قدرة استثنائية على التكيف. "لا توجد سياسة خارجية خضراء" يقول فيشر "توجد، فقط سياسة خارجية المانية". يضيف ان السياسة الخارجية هي ابنة الموقع الجيو-استراتيجي الالماني، وهو يقود الى دور كبير، والتاريخ الالماني، وهو يقود الى التواضع. اما الاثنان معاً فيوصلان الى "الاولوية الاوروبية - الاطلسية". ان وجود فيشر في هذا الموقع سيجعله على احتكاك مباشر بالضوابط التي يضعها التوجه الاوروبي على السياسة الداخلية لكل بلد من بلدان الاتحاد. ويعني ذلك انه سيجد نفسه مضطراً، وهو المعروف بتأييده لتوجه شرودر لاقحام بريطانيا اكثر في السياسات الاوروبية، الى ضبط الايقاع الداخلي، اقتصادياً واجتماعياً، على وتيرة الضرورات التي يفرضها الاندماج الاوروبي والمنافسة العالمية. اذا ثبت قيام تحالف بين شرودر وفيشر فإن تطويق لافونتين يصبح ممكناً. وعند ذلك تكون الاجراءات اليسارية سحابة صيف ما ان تمر حتى يعود البحث حثيثاً عن اعطاء "الوسط الجديد" مضموناً مفهوماً