ولد جلال طالباني في صيف 1933 في قرية كلكان، قرب دربندخان التابعة الآن لمحافظة السليمانية، في عائلة تتحدر من عشيرة زنكنة المقسمة بين ايرانوالعراق. درس في كويسنجق واربيل وكركوك ثم في كلية الحقوق في بغداد. اعتقل مرات عدة بسبب نشاطاته السياسية بعدما انضم باكراً الى الحركة الكردية وتحديداً الى الحزب الديموقراطي الكردي العراقي الذي يعتبر الحزب الديموقراطي الكردستاني الحالي امتداداً له، ودخل مكتبه السياسي في 1954. في هذه الحلقة يتحدث جلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني عن عثوره على ملا مصطفى البارزاني في موسكو في 1957. ذهب طالباني يومذاك للمشاركة في مهرجان لاتحاد الشباب الديموقراطي وكان حاول في زيارة سابقة الحصول على عنوان ملا مصطفى ورفاقه لكنه لم ينجح. وهنا نص الحلقة الثالثة: وصلت الى موسكو وكان همي الاساسي، عدا حضور المهرجان، لقاء ملا مصطفى البارزاني بأي ثمن، والثاني تقديم هدية الى أم زويا. وزويا فتاة روسية مشهورة اسمها انا ديمسوفكايا هبطت بمظلتها خلف الخطوط الالمانية وقاتلت بشجاعة واعتقلت الا انها لم تستسلم. وابنها الضابط قتل في معركة برلين. فكانت هذه الهدية بمثابة تقدير لشجاعة هذه الأم التي انجبت هذين البطلين. اثرنا مرة ثانية قضية حضورنا بمفردنا كأكراد الا اننا توصلنا الى قناعة بضرورة مشاركتنا ضمن الوفد العراقي. كانت هناك كلمة سر بيني وبين مهدي هاشم النجفي هي بمثابة مفتاح للثقة، وعلى خلاف الآخرين الذين يخرجون خلال فترات الظهيرة، كنت احرص على البقاء في الفندق على أمل ان يصلني شيء من الحزب الشيوعي او يتصل بي ملا مصطفى. وفي احد الايام لمحت اثنين تقدما نحوي وكلماني بالروسية فأكدت عدم معرفتي لها. وبعد سؤالي عن هويتي، قلت لهما انني عراقي وكردي، فقالا نحن جئنا من أجل الالتقاء بصديق اسمه جلال طالباني، قدمت لهما نفسي وسألتهما عن هويتهما، وبعد تشاور، ذكرا لي كلمة السر المتفق عليها مع مهدي هاشم النجفي، وهي "القبج" من الطيور المعروفة في الجبال وقدما نفسيهما لي، وكان احدهما يدعى أسعد خوشومي من رجال البارزاني المقربين. رافقتهما الى شقة وهالني الالتقاء بملا، ولا يمكنني وصف مشاعري تجاه تلك اللحظة. كان ملا مصطفى حليق الشاربين، وصورته الوحيدة تلك انا الذي وزعها. جلست معه في غرفة مجاورة وتحدثنا كثيرا وتطرقنا الى وضع عائلته ومصائر اولاده وبناته، خصوصاً ابنه صابر، رحمه الله، الذي ولد ولم يره، وهو قتل لاحقاً في بغداد. وكان لا يعرف اي شيء عن مصير مسعود، وبالمناسبة فان السيدة الفاضلة أم مسعود لم تكن بارزانية بل من الزيباريين وهي أخت هوشيار زيباري، وبنت محمود أغا الزيباري زعيم هذه العشيرة المعادية للبارزاني، وهو كان باستمرار مصطفاً مع الحكومة ونائباً في برلمان العهد الملكي. كان مسعود في بيت جده وهو طفل صغير، وقد استطعت الحصول على صورته وصورة الشيخ أحمد والشيخ عبيدالله ولقمان. وقد فرح ملا كثيراً بصورة الشيخ أحمد، أخيه الكبير وكان آنذاك معتقلاً. وأخبرته بأن الشيخ احمد هو الذي اختار لنجله اسم صابر. ومن جملة الاخبار التي نقلتها اليه ان ابنته تزوجت من عبدالسلام ابن الشيخ سليمان البارزاني شقيق عبدالمهيمن البارزاني، ولما كانت علاقة ملا سيئة جداً مع الشيخ سليمان فقد حزن واستاء وانفعل لهذا الخبر. وسألني من قرر ذلك، فقلت له الشيخ أحمد الذي كان يحظى بتقدير الجميع، واحترامهم، فسكت. وبعد هذا اللقاء ومعرفة العنوان تكررت زيارتي الى شقة ملا مصطفى، وهناك تعرفت على الشهيد محمد أمين مير خان، أحد أبطال الثورة الكردية، الذي كان يدرس آنذاك في المدرسة الحزبية. وكانت هذه المرة الأولى التي التقي فيها البارزاني وجها لوجه. هل كان ينتخب باستمرار؟ - نعم كان البارزاني ينتخب ويعاد انتخابه في كل المؤتمرات التي عقدها الحزب. عندما التقيت ملا مصطفى للمرة الاولى، ماذا كان يعني لك كرمز سياسي في تلك المرحلة؟ - لقائي به كان مثل لقاء الدرويش بشيخه ورئيس طريقته، فقد غمرتني فرحة عارمة لا يمكن وصفها. كنا في الحزب نعظم البارزاني. بعد هذا اللقاء ماذا حدث؟ - ناقشت معه قضايا عدة وأخذت رأيه فيها، من ضمنها انشقاق كان قد حصل في الحزب. وكان ملا مع توحيد الجهود. كذلك تحدثنا عن علاقاتنا مع العشائر فشجعنا وطلب منا تقوية هذه العلاقات. اما بالنسبة الى علاقتنا مع الروس فقد رأى ان عملنا في الداخل يجب ان لا يحصر في الاتصال بالروس فقط. حتى انه قال لي حاولوا الاتصال بالغرب أيضاً عن طريق بابا علي شيخ محمود، الوزير السابق، الذي كانت له علاقات مع الغرب، خصوصاً أميركا. كنت أعتقد بانه يمتحن صلابتي المبدئية والفكرية وما اذا كنت مؤمناً بمعاداة الامبريالية والرجعية وحريصاً على تطوير العلاقة مع المعسكر الاشتراكي. كان ردي، وبتعجب، كيف يمكن الاتصال بهؤلاء؟ لكنه قال: اسمع كلامي واذهب. وقد أوصاني بالاتصال ببعض الشخصيات داخل الوطن، ومنهم الشيخ لطيف ابن الشيخ محمود وهو أخو بابا علي، وكانت هناك كلمة سر بينهم. وطلبت منه ان يكتب بعض الرسائل الى بعض الشخصيات في الداخل وأخذت منه صوراً على ان يهديها بخط يده، وفعلا قام بذلك. كما طلبت منه ان ننظم اتصالاً دائماً عبر عنوان دائم فاتفقنا، وكان العنوان في طشقند وآخر في موسكو وعبر السفارة الروسية في دمشق. هل كان على علم بانتخابه رئيساً للحزب؟ - نعم، فقد ابلغته بذلك ومن خلال رسالة تعود الى العام 1955 وقد نشرها مسعود. هل لمست لديه رغبة في العودة؟ - لا، لم يكن عنده شعور ولا أمل بالعودة القريبة، خصوصاً ان العراق بلد مهم بالنسبة الى الانكليز وهذا سبب وجودهم فيه وتمسكهم به. وعندما تحدثنا عن زوجته الصغرى أم مسعود، إذ كانت له زوجات عدة، بحثنا في قضية ترتيب نقلها مع مسعود الى خارج العراق والالتحاق به في موسكو. وقد نقلت له خبر لقائي مع عبدالحميد تصابحجي، وكيفية تشديد النضال داخل العراق وضد حلف بغداد والتهديدات التركية لسورية، فطلب ان استمر في هذا الاتجاه، وبالفعل فور رجوعي الى سورية التقيت بعض رفاقنا، ومنهم كمال فؤاد وهو حالياً مسؤول اللجنة العاملة في المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني، وكان في طريقه للدراسة في المانيا، وهو اساساً كادر متقدم في الحزب الشيوعي وكان قد التحق حديثاً بحزبنا، والاستاذ المرحوم عبدالرحمن بنريحي، وزرنا معاً العقيد عبدالحميد السراج والاستاذ ميشال عفلق والاستاذ أكرم الحوراني. عند زيارتنا للأستاذ ميشال عفلق تحدث معنا بعموميات لم نفهم منها شيئاً. وعلى عكس ذلك جاءت زيارتنا للأستاذ أكرم الحوراني، في شقته المتواضعة في المزرعة، وكان آنذاك رئيساً للبرلمان السوري. رجل واضح وبسيط، استقبلنا بحفاوة، وحكى لنا ان هناك الكثير من الفلاحين الأكراد في منطقة حماه يعرفهم عندما اشتغل في الحزب العربي الاشتراكي، وكانت له علاقات جيدة معهم، ووعد بتعاون حزبينا، سواء في سورية ام في العراق. اما العقيد عبدالحميد السراج، رئيس المكتب الثاني، فطرحنا عليه فكرة العمل المشترك، ومهمة ترتيب لقاء بين الرئيس جمال عبدالناصر وملا مصطفى البارزاني عند زيارة الرئيس الى الاتحاد السوفياتي من أجل الاتفاق بينهما على العلاقة العربية - الكردية والوضع في العراق. في حين دعا عبدالحميد السراج الى تركيز نشاط الأكراد السوريين على العمل والتوجه الى داخل تركيا، وهي الخطة السارية حالياً، على اعتبار ان أكثرية الأكراد السوريين يتحدرون من أصول تركية، واعرب عن استعداده لدعمهم في تشكيل حزب وتزويدهم ما يريدون. اما أكراد العراق، فقال اذا كانت عندكم رغبة في العمل المسلح فسندعمكم. قلت نعم نحن نستطيع لكننا نحتاج الى السلاح فوافق. كانت هذه أهم محاور اتفاقنا، وكنا نهدف الى زيادة الضغط على نوري السعيد. التقينا بعد ذلك بالمرحوم كمال الدين رفعت، أحد الضباط الأحرار المصريين، وكان يزور الشام آنذاك، وبحثنا معه في علاقاتنا مع مصر. وقدمنا له طلبات من أجل إيصالها الى القيادة المصرية، أبرزها فتح إذاعة كردية في القاهرة، واستقبال وفد كردي، وترتيب لقاء مع ملا مصطفى لدى زيارة الرئيس عبدالناصر الاتحاد السوفياتي. وبعد ذلك تلقينا جواباً مفاده ان الرئيس عبدالناصر وافق على هذه الطلبات، وبالفعل تم فتح إذاعة كردية في القاهرة في العام 1957. وجرت الاستعدادات لارسال وفد كردي، تألف آنذاك من إبراهيم أحمد والسيد محمد سعيد الخفاف من أجل التنسيق مسبقاً للقاء عبدالناصر وملا مصطفى. بعد فترة من عمل الاذاعة ثار غضب السفير التركي في القاهرة، ما دفعه الى طلب مقابلة الرئيس عبدالناصر والتشكي من خطابها، خصوصاً ان العلاقات التركية - المصرية كانت جيدة. وهنا تجلى ذكاء الرئيس عبدالناصر، فقال ان هذه إذاعة كردية ولا يوجد أكراد عندكم حسب ما تدعون، وكلامها موجه الى أكراد سورية والعراق فلمَ الخوف. فرد السفير التركي قائلاً: نعم يا سيادة الرئيس عندنا أكراد، فأخرج الرئيس ورقة بيضاء وطلب من السفير ان يثبت ذلك خطياً وسيعمل هو بدوره على اتخاذ الإجراءات اللازمة. رجعنا من سورية، فيما توجه كمال فؤاد الى المانيا للدراسة واعطيناه عنواناً في المانيا من اجل الاتصال بملا مصطفى في روسيا. في العام 1957، كان موضوع جبهة الاتحاد الوطني على بساط البحث، وخلال ذلك العام حدث شيء أثر في علاقاتنا مع الحزب الشيوعي العراقي. إذ طرح فرع كردستان للحزب الشيوعي العراقي، فكرة إنضمام الفرع الى الحزب الديموقراطي الكردستاني واقامة تحالف بينهما بقيادة مشتركة من الحزبين، بمعنى وجود حزبين تحت قيادة مشتركة، للجم المد القومي العربي والكردي الذي بدأ يظهر. لكن الحزب الشيوعي رفض الفكرة على رغم ان مؤتمره في العام 1956، أقر مشروعاً ينص على وجود الأمة الكردية، وحقها في تقرير المصير، وفي التوحيد، شأنها شأن الأمة العربية. لكنه بعد عام طرح فكرة الحكم الذاتي، وهي، حسب رأيهم، ليست بديلاً من حق تقرير المصير وانما خطوة نحو هذا الحق. ولو رجعنا قليلاً الى الوراء لوجدنا ان الحزب الشيوعي أصدر ميثاقاً جديداً ابان انتفاضة تشرين في العام 1952، أسماه "ميثاق باسم"، الاسم الحركي للأستاذ بهاء الدين نوري، الذي استلم قيادة الحزب بعد إعدام قادته، فهد وزكي بسيم ومحمد حسين الشبيبي وسلسلة الاعترافات التي دمرت الحزب الشيوعي آنذاك. إذ انتقد باسم "ميثاق 1944"، واعتبر ان الشهيد فهد اتخذ موقفاً انتهازياً، عندما ساوى بين الأكراد والتركمان واليزيدية. وحسب "ميثاق باسم" اعترف الحزب الشيوعي بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، بما فيه الاستقلال وإقامة دولته المستقلة. وقد تعرض بهاء الدين نوري لحملة انتقادات من قادة الحزب القدامى، نتيجة اقدامه على انتقاد فهد، وكان هذا أحد أسباب الانشقاق في الحزب الشيوعي. وبالرجوع الى جبهة الاتحاد الوطني في العام 1957، وموضوع دخول الحزب الديموقراطي الكردستاني اليها، فقد عارض حزب البعث دخولنا بحجة انهم لا يعرفوننا ولا يعرفون توجهاتنا. كما عارض دخولنا الحزب الشيوعي، لان فرع كردستان طرح فكرة التوحيد مع حزبنا مثلما ذكرت، ما دفع كمال فؤاد وحميد عثمان وصالح الحيدري ومجموعة من الكوادر المتقدمة الى الانضمام الينا. ورداً على هذا الوضع أصدر الحزب الشيوعي كراساً أسماه على ما أذكر، حول المؤامرة التصفوية والشوفينية، اتهم فيها الحزب الديموقراطي الكردستاني بأنه حزب انفصالي يسعى الى تفتيت نضال الطبقة العاملة. واثر ذلك تردت العلاقة بين حزبينا. وهنا لا بد من القول ان قيادة حزبنا لم تكن متحمسه للانضمام الى الجبهة، لانها لم تتضمن مطالبنا وحقوقنا. واستمرت هذه الحال الى العام 1958، ونحن خارج الجبهة، وبعد نجاح ثورة 14 تموز يوليو، دخلنا جبهة الاتحاد الوطني ولم يعارضنا أي من الأحزاب المؤتلفة تحت لوائها. بدأ العمل المسلح في العام 1957، وقررنا التهيئة له، من خلال معرفة طرق الامداد والمهربين والوسطاء عبر سورية. وفي شباط فبراير 1957، وبعد الوحدة المصرية - السورية، وانبثاق الجمهورية العربية المتحدة، قلبت الموازين وكان علينا العمل من جديد. بعد ذلك كنا نأمل ان نبعث وفداً الى الرئيس عبدالناصر، للبحث في مسألة تسليحنا وبدء العمل المسلح والاعداد للثورة. بعثنا آنذاك رسالة تهنئة الى الرئيس عبدالناصر لمناسبة قيام الوحدة المصرية - السورية، وأيدنا انبثاقها وطالبنا بحقوقنا الكردية. في تلك الفترة كان هناك تياران في العراق، أحدهما يدعو الى دعم هذه الجمهورية بحماسة ومن دون قيد أو شرط، وآخر يدعو الى التريث وضرورة بحث موضوع الديموقراطية الى جانب المسائل القومية. تركت الوحدة المصرية - السورية تأثيراتها على الشارع العراقي، فمثلاً زاد النشاط القومي، وبدأت الجماهير في كردستان تحتفل. ولا بد من الإشارة إلى، اننا في هذا العام استطعنا توحيد حزبنا بعدما انشقت عنه جماعة أطلقت على نفسها الجناح التقدمي للحزب الديموقراطي الكردي. وقد أخبرت ملا مصطفى بذلك خلال لقائنا في موسكو، وكان رده مع التوحيد وقبول انتخابه رئيساً للحزب الديموقراطي الموحد لكردستان. اما اسباب خروج هذه المجموعة فترجع الى تغيير اسم كردي الى كردستاني، وكان هدفنا الخروج من النظرة الضيقة وللتدليل على ان كردستان تشمل جميع الأقليات المتعايشة فوق ترابها، من اكراد وعرب وتركمان واشوريين.. اضافة الى حصر نشاطنا في كردستان العراق. ثورة 1958 عندما قامت ثورة 14 تموز 1958، كانت ردود الفعل المباشرة، ما بين مؤيد ومتحفظ. من جانبنا كأكراد في كردستان، خصوصاً في السليمانية وكركوك وأربيل، عملنا جهدنا على اجبار الفرق والقطاعات العسكرية على إعلان تأييدها للثورة والجمهورية. وأتذكر انني في ليلة الثورة كنت متخفياً في السليمانية، وأعد بياناً لمناسبة استشهاد الضابط الشيوعي خسروي روزبيه أحد أبطال المقاومة في ايران، وعدت الى البيت في الرابعة صباحاً. كنت أسكن آنذاك في بيت للپ"عربنجيه" وكان اسمي محمد، ايقظني أحد الحوذية في الصباح الباكر، قائلا ان هناك ثورة في بغداد والملك طار واختاروا بابا علي بدلاً منه، قلت له كاكه عبدالله رجاء دعني أنام. كنت أحسب انه ما زال يهذي عندما رأيته وانا أدخل الدار في تلك الليلة. وطلب مني ان استمع الى الراديو الذي حمله لي، وبالفعل تأكدت من الخبر. ارتديت ملابسي بسرعة وتوجهت الى مدينة السليمانية وهناك جمعت الرفاق، وتمكنا من الاستيلاء على مذياع وسيارة من بلدية المدينة، وقد تسلم مهمة المايكروفون محمد أحمد طه بصوته الجهوري ولعب دوراً في تحريض الجماهير. كان ذلك الصباح هو أول ظهور علني لي بعد سنين من الاختفاء. القيت كلمة، دعوت فيها الى تأييد الثورة والجمهورية، واجبرنا قائد الحامية العسكرية على ارسال برقية تأييد. في اليوم الثاني، عقدنا اجتماعاً لحزبنا في كركوك وأصدرنا بياننا الشهير المؤيد للجمهورية. وشكلنا وفوداً شعبية من مناطق كردستان كافة من أجل الذهاب الى بغداد وإعلان ولائنا للجمهورية. والقى الاستاذ ابراهيم أحمد كلمة أمام وزارة الدفاع دعا فيها الى دعم الجمهورية لانها تمثل العرب والأكراد واساسها ديموقراطي وطالب بالحكم الذاتي لكردستان. سمع عبدالكريم قاسم الكلمة، وبدوره رد رداً مقتضباً مفاده ان العراق بلد الجميع وانه يجب تعزيز الأخوة العربية الكردية. بعد ذلك وأثناء المناقشات من أجل اصدار الدستور الموقت للجمهورية العراقية، حاول وفدنا - وكنت في عداده - اقناع قادة جبهة الاتحاد الوطني ان يدخلوا فقرة تنص على الحكم الذاتي، في حين كان رأي الجبهة يميل الى إدخال فقرة في ميثاق الحزب الوطني الديموقراطي تقول ان العرب والأكراد شركاء في الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة الوطنية العراقية المادة الثالثة من الدستور العراقي الموقت. بينما كنا نطالب بنص يقول، العرب والأكراد شركاء في الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية بما فيها الحكم الذاتي ضمن الوحدة الوطنية العراقية، الا انهم رفضوا ذلك. لكننا اعتبرنا ذلك خطوة ايجابية وما علينا الا الانتظار قليلاً من أجل إكتمال المؤسسات الدستورية وانتخاب البرلمان، خصوصاً ان الثورة ما زالت فتية وجديدة، وهناك احساس شعبي عام بضرورة صيانتها ودعمها. لكننا طالبنا بالترخيص لنا باصدار مجلة، وبالفعل حصلنا على ترخيص لإصدار مجلة "روزكاري"، والعفو عن ملا مصطفى البارزاني وجماعته، سواء أكانوا مسجونين او منفيين، وقرر عبدالكريم قاسم ايضا بناء قرى كردية لايواء من شردتهم الحال الاستثنائية ورصد مبلغاً مالياً لذلك من الخزينة المركزية. كنا ننتظر عودة ملا مصطفى عن طريق القاهرة، وبعد اتصالات مع السفارة المصرية وافق الرئيس عبدالناصر على هذا الطلب. وكان المرحوم طاهر يحيى مديراً للشرطة، وعن طريق المقدم الكردي عبدالكريم قرني الذي يعمل معه، تعرفنا على عبدالسلام عارف، نائب رئيس الوزراء نائب القائد العام للقوات المسلحة وزير الداخلية. وقد عرف عبدالسلام عارف بخطبه النارية والمنفلتة، من نوع لا ثلاجات بعد اليوم، لا قصور بعد اليوم، جمهورية خاكية لا سماوية ولا أرضية... وهو ما خفف من وزنه وصورته امام الناس. لكنه كان يدعو الى الوحدة، ومثاله الرئيس عبدالناصر، وهو ما دفعه الى اصدار جريدة "الجمهورية" وتسليمها للبعثيين، وكان رئيس تحريرها سعدون حمادي، رئيس البرلمان الحالي، واحتفظ لنفسه بحقوق الامتياز. الموضوع الخلافي الساخن آنذاك تمحور حول الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد الفيديرالي او غيره. بعد الدرس والمناقشة قدم الحزب الديموقراطي الكردستاني موقفاًً مبدئياً خلاصته ان شعوب الوطن العربي لها حق تقرير مصيرها بنفسها، وان الشعب العربي في العراق له الحق في تقرير نوع العلاقة التي يفضلها مع بقية شعوب الوطن العربي. ونحن كأكراد لا يحق لنا الجزم في هذا الموضوع، ونؤيد في الوقت نفسه ما يجمع عليه شعب العراق ضمن شروط، أولاً تحقيق الديموقراطية وثانياً ضمان حقوقنا القومية، لكن ذلك لم يعجب أحداً من الاحزاب السياسية، الامر الذي سبب لنا مشاكل داخل حزبنا. وانقسم الحزب الى اتجاه موال للحزب الشيوعي العراقي وآخر استقلالي. وقف سكرتير الحزب الأستاذ إبراهيم أحمد موقف الوسط، في حين كنت على رأس الموقف الاستقلالي، اما الاتجاه الموالي للحزب الشيوعي فمثله الأساتذة حمزة عبدالله والمرحوم نزاد أحمد نزاد وخسرو توفيق وحميد عثمان وصالح الحيدري. كنت ضد هذا الطوفان المعادي للقومية العربية، وأقول ان هدم جبهة الاتحاد الوطني هو هدم لوحدة القوى التقدمية والوطنية في العراق، ومعاداة جمال عبدالناصر غير صحيحة، والانزلاق وراء ترديد هتافات من قبيل "اتحاد فيديرالي والوحدة جوه نعالي"، كان له مردودات سلبية على عمل جبهة الاتحاد الوطني. كنت أدعو دائما الى الاستقلالية من دون الوقوع تحت سيطرة اي حزب. في المقابل طرحت الجماعة الموالية للحزب الشيوعي فكرة ان الشيوعيين هم الطليعة ما دام حزبهم هو حزب الطبقة العاملة، ونحن علينا الاكتفاء بتمثيل الوطنيين والملاكين الأكراد. وحتى موضوع المنظمات المهنية، طلابية وشبابية ونسائية، طرحت تلك الجماعة ضرورة الحاقها بالمنظمات المهنية للحزب الشيوعي. ازاء خلافاتنا الداخلية، ورفع القوميين شعارات الوحدة الفورية المنفرة، ومجيء ميشال عفلق الى العراق ووصاياه للبعثيين بان الوحدة الفورية لا مساومة عليها، إكتسح الحزب الشيوعي الشارع العراقي بجماهيره الواسعة. أتذكر رواية الشهيد فؤاد الركابي سكرتير حزب البعث آنذاك، بانهم حاولوا اقناع ميشال عفلق بفكرة خصوصية العراق نظراً الى تكويناته المذهبية والقومية والدينية، الا انه أصر قائلاً ان هذا الوضع هو الذي يتطلب الوحدة الفورية والا لا شيء. ومثل هذا الخط المتشدد الذي تبناه البعثيون، قابله خط الاتحاد الفيديرالي الذي تبناه الشيوعيون، واعتقد بأن الاثنين كانا على خطأ. والحقيقة ان البعثيين لا يريدون الوحدة، وان الشيوعيين لا يريدون الاتحاد الفيديرالي. ترك إشتداد الخلاف داخل حزبنا تأثيراته على نشاط اللجنة المركزية، فقد كانت أكثرية المكتب السياسي تميل الى موقف الحزب الشيوعي، في حين كانت أكثرية اللجنة المركزية تميل الى الموقف المستقل، ما دفعني وحميد عثمان الى الخروج من المكتب السياسي، بشرط اجتماع اللجنة المركزية خلال شهر من ذلك، ولكنه للأسف لم يعقد. استغلت الكتلة الموالية للحزب الشيوعي، حادثة فشل حركة الشواف، وزيادة المد الشيوعي وتصوير عبدالكريم قاسم شيوعياً، وان الشيوعيين سيأخذون الحكم، فانضم ملا مصطفى اليهم، وبالتالي استحصلوا على قرار بتجميد نشاطي الحزبي وبتوقيع من ملا مصطفى، وهو امر يخالف قواعد نظامنا الداخلي. بعد موافقة الحكومة العراقية على عودة ملا مصطفى، منحه عبدالكريم قاسم جوازات مع ميرحاج احمد واسعد خوشه، وبدورنا شكلنا وفداً من ابراهيم احمد والمرحوم نوري احمد طه والمرحوم عبيدالله والمرحوم شيخ صادق البارزاني، للذهاب الى براغ من اجل استقبال ملا هناك واطلاعه على مجريات وضعنا وخلافنا مع الشيوعيين. التقى الوفد ملا مصطفى ومن هناك سافر الى القاهرة وحل ضيفاً على الرئيس عبدالناصر، وكان ذلك في ايلول سبتمبر 1958. استقبل بحفاوة وزار بورسعيد بأمر رئاسي، للاطلاع على آثار العدوان على مصر. وأثارت الزيارة حفيظة الحزب الشيوعي اذ ظن قادته اننا نعمل من ورائهم فشنوا علينا حملة دعائية، ووصفونا بالبعثيين الاكراد وان هدفنا تشكيل جمهورية متحدة تضم مصر وسورية والعراق وكردستان. وبعد وصوله سارع ملا مصطفى الى سؤال ابراهيم احمد عن حيثيات هذا الموضوع، فنفى وجود مثل هذا الشيء. وعندما وجه كلامه الي شددت على ان هذا غير صحيح، ولو كان مثل العرض قائماً لما ترددت في قبوله، فضحك ملا مصطفى. بعد ذلك تبين ان اخواننا في الحزب الشيوعي حرضوا حتى عبدالكريم قاسم علينا، وهو ما أسره لي ملا مصطفى. عند عودة ملا الى العراق جرى تنافس بيننا وبين الشيوعيين على طريقة استقباله، فبالاضافة الى كونه شخصية كبيرة وحاسمة في قضية كردستان، فقد ظنوا انهم سيكسبونه الى صفوفهم، لكننا استقطبناه في نهاية الامر. كنت آنذاك الناطق الصحافي باسمه، واكتب خطاباته وكلماته. اول قضية واجهها ملا قضية الخلافات الداخلية في حزبنا التي اشتدت بعدما نقلنا الصراع من داخل الحزب الى جماهيره. استطعنا كسب جميع المنظمات الجماهيرية، ما عدا بعض الافراد الذين التفوا حول الكتلة التصفوية. وقد استقبل ملا العديد من الوفود المطالبة بعقد مؤتمر لحل الخلاف. في تلك الفترة، وعلى رغم شمولي بقرار الزحف الذي اصدره عبدالكريم قاسم مما يؤهلني لأن اكون محامياً، لم اقبل وفضلت الرجوع الى كلية القانون. وقد انهيت كلية الحقوق في نهاية آذار مارس 1959. زاد الضغط على ملا مصطفى من اجل عقد مؤتمر للحزب، والمطالبة بعودتي اليه، مما دفعه بصفته رئيساً للحزب الى الدعوة لعقد اجتماع للجنة المركزية، الا ان تلك الدعوة رفضتها الكتلة التصفوية بحجة ان المكتب السياسي هو المخول توجيه مثل هذه الدعوة. والكتلة لم تحضر عندما أصر ملا على عقده، وحضر هذا الاجتماع 11 شخصاً، وقرروا اعادة اصدار صحيفة الحزب وسحبها من اشراف تلك الكتلة واناطة مسؤوليتها بي، والغاء قرار تجميدي، وتجريد هذه الكتلة من مسؤولياتها في حالة عدم قبولها قرارات الاجتماع. كنت آنذاك قد حصلت على شهادة البكالوريوس في القانون وكنت مبتهجاً بنفسي ورجعت الى اهلي في كويسنجق بعد غيبة طويلة، وحينذاك تسلمت برقية من ملا مصطفى يبلغني فيها بضرورة حضوري الى بغداد. وسافرت الى بغداد ووجدت ان ملا وحراسه احتلوا مقر الجريدة وهو في حالة عصبية. سلمني مفتاح الجريدة وطلب مني اصدارها، وقد حظي هذا القرار بموافقة ابراهيم احمد الذي كان في جولة خارج العراق. وبعد سلسلة لقاءات مع جميع الاطراف المعنية، بمن فيهم الشيوعيون، قررنا تشكيل لجنة تحضيرية محايدة مؤلفة من الدكتور عزيز شمديني والدكتور مراد عزيز والمحامي عوني يوسف واثنين آخرين، لحل الخلاف بطريقة ديموقراطية، والدعوة الى انتخابات في عموم كردستان من اجل عقد مؤتمر عام للحزب وحسم كل القضايا العالقة. وخلال شهرين زارت هذه اللجنة كل مدن كردستان وبلدانها واشرفت على انتخابات وهيأت لعقد المؤتمر. من جهتي لم احضر هذا المؤتمر، اذ كنت اطالب بقرار يلغي قرار طردي على ان احضر الى المؤتمر باعتباري عضواً في اللجنة المركزية، وبالفعل قرر المؤتمر بالاجماع ما اردته، وحال سماعي هذه القرارات حضرت الى المؤتمر في اليوم الثاني. كما قرر المؤتمر، طرد جميع اعضاء كتلة الخمسة، وقد التحقت بهم مجموعة شباب منهم محمود علي عثمان والدكتور فؤاد زكي هناري والشهيد شهاب وعبدالقادر الحاج طاهر وعدد آخر لا يتجاوز اصابع اليد. وفي ليلة المؤتمر الذي عقد في بيت ابراهيم احمد في بغداد وحضره حوالي 90 مندوباً، خرجت لجلب الاكل واذا بي اسمع ان هناك محاولة اعتداء على حياة عبدالكريم قاسم في 4 تشرين الاول اكتوبر 1959. رجعت مباشرة الى المؤتمر لاخبرهم بما حدث، فقرر المؤتمر التفرق ونقلنا ملا مصطفى الى مكان آمن خوفاً على حياته تحسباً لانقلاب سياسي. وتوزع الرفاق الاخرون على اماكن بعيدة، اما العسكريون فالتحقوا مباشرة بوحداتهم، وجرت اتصالات مع الحزب الشيوعي من اجل تنسيق الجهود والوقوف ضد اي محاولة انقلابية. نجا عبدالكريم قاسم من تلك المحاولة التي استهدفت حياته ولم تجر محاولة انقلابية، فعدنا إلى الظهور واكمال اعمال المؤتمر. قاسم وملا مصطفى تردد ان علاقة شخصية حميمة نشأت بين عبدالكريم قاسم وملا مصطفى، اذ عقدت لقاءات مطولة بينهما. ما قصة هذه العلاقة؟ - الحقيقة، ظلت العلاقة حميمة وممتازة بين المرحومين منذ عودة ملا مصطفى من منفاه في ايلول سبتمبر 1958، الى لحظة اصابة عبدالكريم قاسم بجروح في محاولة الاغتيال. واعتقد ملا ان علاقته القوية هذه تسمح له بابلاغ عبدالكريم، ونحن نزوره في المستشفى، انه ملا وراء حادثة قتل احمد أغا الزيباري في الموصل، عم زوجته الصغرى وعم هوشيار زيباري، كثأر بعد اتهامه بقتل العديد من البارزانيين، اثناء غياب ملا في الخارج. امتعض عبدالكريم قاسم واستاء عند سماعه ذلك، وقال لملا: اين حكم القانون وقد طلبت منك بعد عودتك ان تكون مع الجميع وتتعالى على الخلافات العشائرية؟. رد ملا قائلاً: انني اتحمل مسؤولية هذا العمل لأنه صدر مني. احتد عبدالكريم وقال: لا - بشدة - لست انت القاتل. في تلك اللحظة، اشرت الى ملا لنتجنب الاسوأ. وهل كان ملا حقاً وراء حادثة الاغتيال؟ - نعم، بدليل ان الحزب هيأ لجنة من المحامين للدفاع عن المتهمين بعد القاء القبض عليهما. وعند خروجنا من المستشفى، قلت لملا، ان ما اخبر عبدالكريم قاسم به لا يجوز، فهو رئيس وزراء والحاكم العسكري والقانون يجيز له اصدار امر بالقاء القبض عليك. وكانت هذه الحادثة بداية سوء تفاهم بين الاثنين، بعد ذلك وفي العام 1960، عام اجازة الاحزاب السياسية، وخلال مناقشة اجازة حزبنا، انصب اعتراض عبدالكريم على اسم الحزب. كنا نطالب بأن يكون الاسم "الحزب الديموقراطي لكردستان - العراق" في حين اقترح عبدالكريم بأن يكون الاسم "الحزب الديموقراطي الكردي"، وكان جوابنا ان كلمة كردي لها صفة تعني فقط الاكراد وغرض استعمال كلمة كردستان هو ان تشمل كل من يسكن منطقة كردستان. واقترح قاسم ان يكون اسم "الحزب الديموقراطي الكردستاني" ووافقنا على ذلك، ما يعني ان المرحوم عبدالكريم قاسم اقترح اسم الحزب. اثر ذلك بدأت العشائر الكردية، من الزيباريين والبرادوس والسورجيه، تزور بغداد وعبدالكريم قاسم وتتشكى، وفي احيان تدعي اشياء غير صحيحة رغبة في اثارة الفتنة ضد ملا مصطفى، ما اضاف عوامل اخرى لسوء الفهم ووتر العلاقة بين الاثنين. وهنا سأكشف شيئاً. فقد تصاعد التوتر بين الرجلين وعرف السوفيات بذلك. كان لنا ضباط في الجيش العراقي وبالذات في الاستخبارات العسكرية، سربوا لنا خبراً مفاده ان عبدالكريم قاسم، قال في احد اجتماعات قادة الفرق، ان على ملا الهدوء والا سأنشر الوثائق، وهي مجموعة رسائل متبادلة بينه وبين الضابط السياسي البريطاني والحكومة البريطانية وهي موجودة في ملفات وزارة الداخلية العراقية. وحال وصول هذا الخبر الينا، وشعور ملا ان علاقته بعبدالكريم لم تعد كما كانت، دعا السوفيات ملا مصطفى لحضور احتفالات ثورة أكتوبر 1960 لتحاشي اصطدام الرجلين. وكانت الخطة السوفياتية لقاء ملا، كما فعلوا مع القادة الشيوعيين الذين تنافروا مع عبد الكريم قاسم. استقبل ملا استقبالاً جيداً في موسكو ودفع له تعويض عن الأسلحة التي كان قد أخذها معه عندما ذهب الى الاتحاد السوفياتي، وكان من المفترض ان أرافقه لكنه أتصل بي وطلب ان أبعث الى السفارة السوفياتية في بغداد رسالة مفادها ان الأمور في الحزب وكردستان تتطلب عودة ملا الى العراق. وترافق هذا مع تولي صحيفة حزبنا انتقاد الأجراءات الخاطئة والمطالبة بتحقيق الوعود التي جاءت بها الثورة وانهاء الاوضاع الأستثنائية في العراق. كانت رغبة السوفيات ابقاء ملا في موسكو، وبعد ارسال الرسالة عبر السفارة السوفياتية في بغداد واقناعهم بضرورة عودة ملا وافق السوفيات على عودته شرط تحسين العلاقة مع عبدالكريم. وبالفعل جاء ملا والتقى مباشرة عبدالكريم وأبلغه حتى بموضوع الأسلحة المعوضة، وعلى رغم عدم إعتراضه على هذا الموضوع بدا البرود واضحاً على وجهه. لم يحضر ملا جلسات المؤتمر الأول للحزب في بغداد، نتيجة مخاوف الاعتقال او الاغتيال من قبل القوميين الذين باشروا عمليات ضد عبدالكريم قاسم خصوصاً بعد محاولة اغتياله والمحاولة الفاشلة التي قادها عبدالوهاب الشواف واتهام البارزانيين بقمع العناصر المتعاطفة معها، ولهذه الأسباب فضل البقاء في منطقة بارزان. بعد تأجيل المؤتمر لمدة يوم من أجل إقناع ملا بحضوره، باعتباره رئيساً للحزب، وأثناء ذلك بعث قاسم رسالة نقلها المرحوم عوني يوسف، وزير الاسكان والعضو في قيادة حزبنا، مفادها ضرورة ترك ملا خارجاً لأنه رجل عشائري وانتم حزب مدني. وواضح ان الهدف احداث انشقاق في صفوف الحزب، تماماً كما فعل مع حزب الوطني الديموقراطي بين الاستاذين المرحوم كامل الجادرجي ومحمد حديد. طبعاً تنبهنا الى ذلك، وأخبرنا الوزير بأننا لن نمشي في انشقاق وان الطلب غير مقبول. بعد تسلم الرد بدأت حكومة عبدالكريم قاسم تزويد العشائر الكردية المعادية للبارزاني الاسلحة بحجة الدفاع عن النفس، اعطت اسلحة للزيباريين وللسورجية، فخلقت أجواء متوترة بين البارزاني والحكومة العراقية. وضمن هذه الأجواء أعادت جريدة "الثورة"، وهي صحيفة موالية لعبدالكريم قاسم، نشر مقال للأستاذ كلوفيس مقصود، عن الأقليات في الوطن العربي، يدعو فيه وبعقلية البعث الى رضوخ الاقليات او تهجيرها وطردها من الوطن العربي. ورغم اعتذار صاحب الجريدة، فإنها أثارت ضجة كبيرة، واعتبرناها عملية مقصودة ضدنا، ما دعانا الى جمع تواقيع ضدها، وكتبنا مقالات نفند بها أسانيدها. وضمن هذه الاجواء، وفي احد المؤتمرات الصحافية، لمح قاسم الى ان لديه وثائق اذا ما نشرت فان صاحبها سيشعر بالخزي والعار، وكنا نعرف من هو المقصود. وقد أخبرنا بذلك المقدم الركن عزيز العقراوي، وكنت انا مسؤوله الحزبي، وهو كان حاضراً في ذلك المؤتمر، وقال ان عبدالكريم ذكر حتى أسم ملا. بلغنا المكتب السياسي بهذا الموضوع، وكتبنا مقالات في صحيفة حزبنا، ومنها مقالة كتبتها بنفسي تحديت فيها السلطة نشر هذه الوثائق. وفي الحقيقة لم نكن نعرف ان هناك رسائل بين ملا والأنكليز، وتبينت لاحقاً صحة هذا الموضوع، اذ نشرت الرسائل في كتاب "ملا مصطفى بين الأسطورة والحقيقة" لفاضل البراك، وكانت بخط يده. وكنا في صحافتنا نسمي عبدالكريم قاسم بالسيد رئيس الوزراء او اللواء الركن. لم ننزلق وراء استعمال الصفات الاستفزازية لكننا عمدنا الى نشر مقابلاته في الصفحات الداخلية بدلاً من الصفحة الأولى. بدأت السلطة حملة اعتقالات شملت الكثير من رفاقنا في كركوك والسليمانية ودهوك، وتصاعدت وتائر التصدع بيننا وبين عبدالكريم قاسم. وجاء اغتيال صديق ميران قرب شقلاوة، وهو من رؤوساء عشيرة الخوشناو ونائب في العهد الملكي وأحد المعارضين للملا مصطفى، وقد وجهت اصابع الاتهام الى حزبنا، على رغم ترك الجناة صحيفة "خبات" النضال اليومية في موقع الحادث. مما دفع أحمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام الى إصدار حكم بالقاء القبض على سكرتير الحزب الاستاذ إبراهيم أحمد، الذي اضطر للاختفاء. وخلال الاحتفالات بعيد النوروز في العام 1961، وكنت حينذاك محرراً في صحيفة "خبات" ورئيس تحرير صحيفة "كردستان" اليومية، القيت كلمة في قاعة الشعب مدحت فيها ملا مصطفى وانتقدت الحكومة بلهجة شديدة. فصدر أمر القاء القبض علي فتواريت مما عطل الصحف التي كنت أعمل فيها وجعل الحزب من دون صحافة. وعلى ضوء هذه الاحداث أصبحت القطيعة وشيكة بين حزبنا من جهة والحكومة وعبدالكريم قاسم من جهة اخرى، وضمن هذه الأجواء حصلت مطاردة للحزب الشيوعي والبعثيين اما الحزب الوطني الديموقراطي فقد جمد نشاطه. وحاول السوفيات ان يصلحوا ويقربوا بيننا وبين عبدالكريم قاسم. كيف كان يتم الاتصال مع السوفيات؟ - كنت أنا حلقة الاتصال مع السفارة السوفياتية، لكن جهودهم وأتصالاتهم مع ملا مصطفى كانت تتم عبر المرحوم عزيز شريف، رئيس حركة أنصار السلام. تصاعد التوتر في كردستان، نتيجة تعطل صحافة الحزب وأختفاء الأستاذ إبراهيم أحمد ومن بعدها اختفائي ما ادى الى تعطيل الحزب. جرت حملة مطاردة شنتها الحكومة على أنصار الحزب. والحقيقة اننا نتحمل مسؤولية في ما وقع بيننا وبين عبدالكريم قاسم، وانا اتحمل مسؤولية شخصية في هذا الموضوع لانني كنت أمثل الجانب المتشدد. وترافق هذا مع تحرك الأغوات والعشائر الكردية وكل الذين تضرروا من جراء تطبيق قانون الاصلاح الزراعي، اذ عقدوا تحالفات ولقاءات في ما بينهم وعرفنا انهم قرروا الاتصال بشاه ايران، وكانت علاقته متوترة مع عبدالكريم قاسم بسبب الخلاف على شط العرب. وقف حزبنا والحزب الشيوعي العراقي مع تطبيق قانون الاصلاح الزراعي والحركة الجماهيرية الفلاحية التي عمت كردستان، ما أجج مشاعر الفلاحين فدفعوا الأغوات الى الهجرة والتوجه الى ايران. وبدأت ايران تحركهم وتسلحهم وتعيدهم الى المناطق الحدودية، عبر الاتصال بالجنرال الأيراني ورهام، الذي كان مقره في مهاباد في أورومية على رغم ان زعماء العشائر أنفسهم قدموا ولاءهم لملا في حالة تعرضه لأي خطر، الى درجة انهم ولدوا انطباعاً بأن كل العشائر الكردية ستقف وراء قيادة ملا. وبعد دراسة الموقف في حزبنا تولد اتجاهان: الأول على رأسه ملا وكنت أنا أقوده، وأخر قاده الأستاذ إبراهيم أحمد والدكتور عزيز شمديني والدكتور نوري شاويس. ومالت أكثرية المكتب السياسي الى اعتبار ان هذه الحركة عشائرية مشبوهة ترتبط بايران والتاريخ أثبت ان كل الحركات العشائرية فاشلة ولا مستقبل لها لذا على الحزب الابتعاد عنها. فيما كان الاتجاه الأول، الذي يمثله ملا وانا والاستاذ عمر مصطفى دبابة والشهيد علي العسكري وملا عبدالله اسماعيل، يرى ان هذه الحركة تستغل المشاعر القومية الكردية وإخافة عبدالكريم وما علينا سوى العمل ضمنها من أجل افراغها والسيطرة على قيادتها واخراج عناصرها وبالتالي نحن الذين نتولى العمل المسلح الحقيقي ضد عبدالكريم قاسم. والحقيقة ان حماسنا لأخذ زمام المبادرة ما دامت المواجهة قادمة والفلسفة التي اتبعناها بالسيطرة على المدن وأخذ الأسلحة كل ذلك كان خاطئاً. وقد سعى ملا الى تشجيع هذا الاتجاه العشائري، وكان يعتقد بأن دفع هذه العشائر الى التجمع في مناطق وادي خلكان بهدينان ورانية ودربندخان ودهوك، ستدفع عبدالكريم قاسم الى الرضوخ والمصالحة مع الحزب وملا مصطفى. اجتمع المكتب السياسي لحزبنا وقرر ارسالي الى بغداد للقاء ملا مصطفى، ومعرفة رأيه في التحضير للقتال. وكانت المجموعة التي ذكرتها، أضافة الى الحزب الشيوعي العراقي والسوفيات عن طريق الدكتور مراد عزيز، ضد هذا الاتجاه. ذهبت الى جبل شيرين حيث التقيت ملا مصطفى، وكان يقضي الصيف هناك، وسألته عن رأيه الأخير، فقال نحن لا نبدأ القتال. الا انني قلت ان حشد العشائر واصدار الأوامر بالقتال، خصوصاً تلك المتعلقة بنسف الجسور وقطع خطوط الاتصالات، سيخلق وضعاً من الصعب السيطرة عليه، وبالتالي سيدفع الحكومة الى ضربنا، لكن قناعة ملا كانت بأن هذا الشيء سوف لن يحصل وان هذه الاعمال لن تؤدي الى الصدام مع عبدالكريم قاسم. في تلك الفترة، وبالذات في 9 أيلول انتفضت مدينة زاخو واحتلها رفاقنا وأخذوا الأسلحة، وظن عبدالكريم اننا أخذنا زمام المبادرة وان بقية المدن الكردية ستنتفض فأصدر أوامره بالقصف الجوي وكان ذلك في 11 أيلول. وشمل القصف كل التجمعات العشائرية الموجودة في المناطق التي أشرت اليها سابقاً، ما عدا منطقة بارزان. وعندما رأت العشائر هذا القصف المكثف لم يبق لها سوى الفرار وتركنا لوحدنا، فأضطررنا، وكان عددنا نحن الحزبيين قليلاً، الى الهرب والتوجه الى الجبال، فاستعادت القوات الحكومية السيطرة على هذه المناطق. الا ان الحكومة لم تكتف بذلك وانما أصدرت بياناً في 12 أيلول باسم الشيخ أحمد البارزاني وملا مصطفى، بأنهما مع الحكومة وضد هذا التجمع ودعت العشائر الى العودة الى أعمالها واعلان الولاء لعبدالكريم قاسم. الى هنا حققت الحكومة أهدافها، ولكنها في 16 أيلول قصفت منطقة بارزان، ما دفع الشيخ أحمد البارزاني وهو الأخ الأكبر لملا مصطفى والزعيم الروحي للبارزانيين، الى قرار عدم القتال وأرسال برقية ولاء الى الحكومة المركزية وطلب من ملا مغادرة المنطقة. وبالفعل غادر ملا مصطفى المنطقة ومعه حوالي 250 مقاتلاً وقرر التوجه الى منطقة بهدينان التابعة لمحافظة دهوك، فيما توجهنا نحن الى الجبال الاسبوع المقبل: ايران وبريماكوف ومحطات أخرى