لم يأخذ الاكراد العبر والتجارب من دروس الماضي. وقد عقدت الصفقات والمساومات على حساب آمالهم ومعاناتهم الجسيمة. يقرّ بهذا الامر مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني، في مقدمة كتاب ألّفه تحت عنوان "البارزاني وحركة التحرر الكردية". والكتاب، حسبما يشير المؤلف، "مشروع لدراسة التاريخ النضالي للشعب الكردي والقاء الضوء على الدور الوطني للبارزانيين الذين ساهموا في صناعة وصياغة العديد من منعطفاته". ولا يشرح مسعود البارزاني السبب الذي يدعوه الى الاقتصار على دور البارزانيين دون غيرهم من العشائر والجماعات الكردية ممن ساهموا في تلك الصياغة للتاريخ النضالي للشعب الكردي. أصول البارزانية لقد سميت عشيرة بارزان، يقول المؤلف، نسبة الى قرية بارزان مركز المشيخة التي كان استقر فيها الجد الاول للبارزانيين وأقام فيها تكية جذبت اليها المريدين والاتباع. وانتقلت مقاليدها في ما بين الابناء والاحفاد حتى وصلت الى الشيخ محمد البارزاني، الذي توفي عام 1903 وخلّف خمسة أولاد هم: عبدالسلام، الشيخ احمد، محمد صديق، بابو، الملا مصطفى. وتسنّم عبدالسلام زعامة العشيرة والمشيخة واستمال الكثير من العشائر الاخرى التي اندمجت مع العشيرة الأولى واكتسبت تسمية البارزانية. وسعت البارزانية، كأي عشيرة ، الى التحصن في منطقتها والاستقلال بشؤونها. وكان هذا سبباً دائماً في الاحتكاك مع الحكم المركزي اي السلطنة العثمانية. ولقد بدأ سوء التفاهم حين عمد عبدالسلام الى تسليح افراد العشيرة وسعى الى تشكيلهم على هيئة مجموعات مسلحة تفرض القوانين الخاصة بالعشيرة بالقوة من دون رجوع الى الحكم المركزي. ثم سارع الى رفض اداء الضريبة وأخذ يطالب بمنح منطقة عشيرته مكانة خاصة وقواماً استثنائياً ومن ثم رغب في إخضاع العشائر الاخرى له ولها. وهذه الاعمال وسواها أغاظت السلطنة. وتحركت قوات عسكرية في نهاية 1907 قادها الفريق محمد فاضل باشا الداغستاني ودخلت منطقة بارزان ففرّ عبدالسلام ولجأ الى منطقة تياري، عند الآشوريين، حيث اختبأ لدى الاسقف مار شمعون. واعتقلت القوات العثمانية عدداً كبيراً من افراد العشيرة البارزانية. وفي ما بعد تمّ اعتقاله فحكم عليه بالاعدام. ويعتبر مسعود هذه الاحداث "بداية التاريخ النضالي البارزاني". و"انتفاضة بارزان الأولى". وهذه "الانتفاضة"، التي هي محض تمرد عشائري كما يتضح من سير تشكلها وتطورها ومضمونها والغايات التي سعى في أثرها البارزانيون، امتدت، حسب المؤلف، الى 1931 حيث واصل السير بها الشيخ أحمد، شقيق عبدالسلام الذي تسلّم قيادة العشيرة والمشيخة بعد اعدام عبدالسلام، ولم يكن عمره يتجاوز الثامنة عشرة. ولم يكن الشيخ احمد أقل من أخيه نزوعاً الى معاداة العثمانيين ومن ثم البريطانيين الذين كانوا دخلوا العراق منذ 1919. ولقد ناهض الشيخ احمد البريطانيين على أساس ديني باعتبار ان هؤلاء كفار يدنسون ارض بارزان. وهو رفض دخول الجنود البريطانيين الى منطقته وحثّ رجاله ومريديه على الوقوف في وجه اي محاولة انكليزية لانشاء ادارة مدنية في المنطقة واقامة مخافر ومواقع عسكرية فيها. وبالفعل فحين قام حاكم الموصل الكولونيل بيل ومرافقه الكابتن سكوت بجولة في مناطق الزيبار والسورجين وبارزان رفض الشيخ احمد استقبالهما ثم أرسل أخاه محمد صديق مع آخرين للهجوم على موكبهما. وقُتل بيل سكوت في كمين نصبه لهما رجال العشائر من البارزانيين وغيرهم. ثم حدث خلاف شديد بين افراد العشائر على كيفية تقسيم الاموال العائدة الى المسؤولين البريطانيين. كان تشديد احمد البارزاني على الجانب الديني في رفضه الحضورَ الانكليزي طاغياً على سلوكه وتفكيره. ويروي مسعود البارزاني عن والده الملا مصطفى الذي كان أرسله أخوه الشيخ احمد لمقابلة مسؤول بريطاني، قول هذا الاخير له: "لقد تلقيت أوامر من قيادتي بوجوب الاستعداد لتسليم المنطقة الى فوج عراقي حسب طلبكم وارجو لكم عيشاً هنيئاً مع اخوانكم المسلمين ونحن الانكليز الكفار سنترك منطقتكم". البرادوسيتون: لم تكن البارزانية العشيرة الوحيدة في المنطقة. بل هي كانت واحدة من جملة عشائر اخرى ذات سطوة وشكيمة وتتوفر لها اسباب القوة والحضور، كما تحظى باتباع وانصار كثيرين. فعشائر الزيبار والهركي والسورجي والبرادوست... الخ، وهي العشائر القريبة من منطقة بارزان، تضرب جذورها عميقاً في كردستان. ولقد أثار ميل البارزانيين الى الاستئثار والهيمنة البرمَ والانزعاج في نفوس تلك العشائر. ومع ازدياد رغبة الزعماء البارزانيين في مد نفوذهم وفرض انفسهم سادة وشيوخاً على ما عداهم من الجماعات لم يكن هناك بد من وقوع الخلاف واضطرام النزاع بينهم وبين زعماء العشائر الاخرى. وهذا الخلاف لم يتأخر في التحول الى تناحر دموي وصراعات مميتة. وسرعان ما بدأت الاطراف في الاغارة على بعضها بعضاً فراحت تقتل وتنهب وتحرق الدور وتهلك الزرع والضرع. وقد أراد البرادوستيون وقف البرازانيين عند حدهم فقام هؤلاء بالهجوم عليهم وأوقعوا فيهم البلاء. يكتب مسعود البارزاني في ذلك: "هرب البرادوستيون تاركين الاموال... ولم يكتف ]البارزانيون[ بذلك بل واصلوا ملاحقتهم حتى عقر دارهم وأصيب البرادوستيون بهزيمة مؤلمة". وأدت الصراعات العشائرية والتناحرات القبلية والخلافات الدموية التي نتجت عنها الى حدوث ما يشبه الشرخ بين البارزانيين، الميالين الى السيطرة، وبين العشائر الاخرى التي آثرت الابتعاد عن العشيرة البارزانية ومالت اكثر فاكثر نحو الحكومة رغبة منها في توفير الحماية والامن. ولقد سعت الحكومة المركزية الى التدخل دائماً لحل الخلاف ونزع السلاح واخضاع الجميع للقانون، ولكنها لم تفلح في الكثير من الحالات. فبقت حالات العصيان والتمرد قائمة وخصوصاً في منطقة بارزان حيث استمرت الهجمات على العشائر الاخرى وكذلك على المخافر والمؤسسات الحكومية. وقد عمد الشيخ احمد البارزاني، شأن سلفه عبدالسلام، الى دفع رجاله لتشكيل قوة مسلحة مهاجمة تضرب الجيش وتلحق الاذى بالجماعات الرافضة لسلطانه دافعة بها الى الهرب. بكلمة، كان احمد البارزاني يريد الاستقلال بمنطقته وتشييد سلطته العسكرية دونما عائق. وكان هذا الامر، بالطبع، منافياً لمفهوم الدولة وسيادة القانون والحكم المدني الذي سعت في إثره الحكومة الملكية العراقية التي كانت قامت من جمع ولايتي البصرةوبغداد مع ولاية الموصل الكردية. وحين جاءت القوات الحكومية لفرض سلطتها في المناطق الشمالية الكردية، أسوة بباقي المناطق، اصطدمت بقوة العشيرة البارزانية المسلحة. ووقعت منازلة كبيرة بين الجانبين، وشارك في المعارك، لاول مرة، الملا مصطفى البارزاني الذي "أثبت كفاءة عسكرية فائقة في قيادة العمليات الدفاعية والهجومية على حد سواء مما عمّق ثقة المقاتلين فيه اكثر، ولقي تشجيعاً كبيراً من شقيقه الشيخ احمد البارزاني"، على ما يكتب مسعود البارزاني. وقد طالب البريطانيون بضرورة التزام البارزانيين القانون والركون الى الهدوء وأشاروا الى ضرورة قيام المتمردين بالقاء السلاح وتسليم انفسهم الى السلطان. ويكتب مسعود البارزاني: "كانت بريطانيا أكبر قوة استعمارية في العالم وخرجت من الحرب منتصرة فكان الغرور قد ركب رأسها وللأسف الشديد كان الحكام في بغداد مجرد آلة بيد البريطانيين لا حول لهم ولا قوة، ومجرد مقاومة الانكليز كان يعتبره الكثيرون نوعاً من الجنون". ولكن البارزانيين رأوا في ذلك الجنون عين العقل وقاوموا الانكليز فانهزموا وهرب الشيخ احمد البارزاني مع رجاله الى تركيا اي الدولة التي سبق ان تمرّد عليها أخوه الاكبر عبدالسلام قائلاً: "إني أعلم جيداً ان ليس بامكان عشيرة صغيرة مقاومة قوة بريطانيا وقهرها، ولكن الحياة هي وقفة شرف، فبإمكان الانكليز حرق قرانا وقتلنا ولكن ليس بامكانهم كسب ولائنا لهم، فسنظل نعاديهم". وأوضح ان الامر كان يتعلق بعقلية "عشيرة صغيرة" متأثرة بافكار الانغلاق الديني والضيق العشائري. فالحال ان البارزانيين ما كانوا يقاومون الانكليز على اساس قومي ولم تكن لديهم مطالب تتعلق بأمة أو قومية أو شعب ولم تأتِ خطاباتهم على مقولات الاستقلال القومي لكردستان مثلاً أو الحرية او ما شابه. لقد تعلق الامر ب"انتفاضة" عشائرية تتوخى الابقاء على امتيازات الزعامة العشائرية المغلقة. وبقي احمد البارزاني في تركيا حتى 1933حين قررت السلطات التركية تسليمه الى الحكومة العراقية وعند ذاك ترك أنصاره الاراضي التركية وعادوا الى بارزان. وقد ألقت الحكومة القبض عليهم فوضعت الشيخ احمد في الإقامة الجبرية بالموصل في حين ارسلت الباقين، ومنهم الملا مصطفى، الى السليمانية. القوميون الاكراد: في الوقت الذي كانت العشيرة البارزانية تنازع الحكومة العراقية والبريطانيين على حدود منطقتها، بارزان، وسلطتها العشائرية، كانت حركة قومية كردية ناشطة تنشأ في مدن كردستان الرئيسية مثل السليمانية وكركوك واربيل. وكانت هذه الحركة تطالب بالحقوق القومية والثقافية للاكراد وتدعو المسؤولين العراقيين الى الالتزام بوعود كانت حكومة العراق قطعتها للانتداب البريطاني بشأن احترام الهوية الكردية وتوفير المناخ لتمتع الاكراد بحقوقهم وثقافتهم ولغتهم. وقد قامت تنظيمات قومية كردية تخاطب الحكومة بلغة الحوار والتفاهم وبمفردات سياسية تقوم على مبدأ التفاهم المتبادل بعيداً عن العنف والتمرد. وكانت حكومة نوري السعيد تبذل جهوداً صادقة لتلبية المطالب الكردية. وكانت تأسست ايضاً منظمة باسم "زياني كردستان" حياة كردستان تنادي بقيام دولة كردية مستقلة. وقد سعت هذه المنظمة إلى فهم طبيعة تحركات البارزانيين وحاولت فهم بواعث التمردات المتكررة في منطقة بارزان، اذ لم يكن هناك اي اتصال بين البارزانيين والنخبة القومية السياسية الكردية في المدن. ويسمّي مسعود البارزاني الفصل الثاني من كتابه "ثورة بارزان 1943-1945"، ويقول ان "البارزاني ]أي الملا مصطفى، الآن، الذي هرب من السليمانية وعاد الى بارزان[ قد رأى ان الظرف مناسب جداً للقيام بالثورة". ولكنه لا يخوض في مضمون وطبيعة هذه الثورة وغايتها واهدافها كما لا يكشف النقاب عن القائمين بها. مع هذا، وفي موقف استعادي، يؤكد ان "المصالح البريطانية لم تكن متطابقة مع نضال الشعب الكردي، ولا مع طموحات الأمة العربية، وكان الحكم الحقيقي للعراق بيد البريطانيين الذين كانوا يعملون لإفساح المجال أمام بروز الطبقة الاقطاعية في كردستان". ويبدو هذا القول غريباً. فالبارزانيون ما كانوا شخصوا هدفهم بعد على خلفية قومية. ولم تكن العشيرة البارزانية "طليعة" نضال تحرري قومي لم يكن لديهم برنامج مطالب واضح وهم لم يطالبوا الحكومة باهداف محددة. اكثر من هذا، فان البارزانيين كانوا يشكلون، طبقة اقطاعية ذات مصالح وامتيازات في منطقة بارزان وكان لبّ "نضالهم" ينصبّ على الابقاء على الوضع القائم، وسيكون مضحكاً القول انهم كانوا يؤلفون "طبقة عمالية"، مثلاً، أو حركة فلاحين تسعى للانعتاق من الاقطاع. فالاراضي كانت كلها في أيديهم ولم يكن ينازعهم احد عليها. ولكن المؤلف يخوض في تعبير نضالي، طبقي، حافل بالمفردات المأخوذة من القاموس اليساري العربي والكردي. وهو يعطي الاكراد درساً في ضرورة التمييز "بين العدو والصديق" ووجوب اختيار "موقعنا الطبيعي في الخندق المعادي للامبريالية والصهيونية والرجعية". على اية حال، غادر الملا مصطفى السليمانية في 1943 وعمد الى جمع اتباعه حوله ومضى في حشدهم وتعبئتهم لرفض الخضوع للحكومة والابقاء على منطقة بارزان "نظيفة" منها ومن البريطانيين "الكفار". وقد عاد الشيخ، احمد، بدوره، من الموصل بعد عفو الحكومة عنه. ومع ازدياد حالات الشغب وعمليات النهب والعصيان المتكررة في المنطقة قام الضابط البريطاني الميجور مور بزيارة بارزان لمقابلة الشيخ احمد، وأبلغه طلباً من الحكومة البريطانية بضرورة التقيد بالأمن والانصياع للقانون والالتزام بأوامر الحكومة العراقية. ولكن الشيخ احمد رفض ذلك. ومرة اخرى نلاحظ ان الامر يتعلق بنزاعات وهواجس عشائرية. فاصرار الشيخ احمد على وجوب قيام العشائر الاخرى بالقاء السلاح يشير الى ان التنافس العشائري هو محور النشاط وان السلاح لا يهدف الى "تحرير كردستان" بل الى ردع وإخضاع العشائر الاخرى فان ألقت هذه أسلحتها تكون المسألة قد سُوّيت وانتهى الامر. في 1945 قررت الحكومة العراقية اجتياح منطقة بارزان وذلك "نظراً للاعمال الاجرامية والمخلة بالأمن التي يقوم بها الملا مصطفى البارزاني واعوانه. وبما ان الواجب يقضي اعادة النظام ومنع تكرار الاجرام، تقرر احتلال المنطقة البارزانية والقبض على المجرمين". وقد تأهب البارزانيون لذلك جيداً مهما كلف الامر وقد كلف الامر كثيراً. لقد كانت قضية البارزانيين، في تصديهم للحكومة العراقية والقوات البريطانية، قضية خاسرة. فضلاً عن هذا، كان منطق الصراع نفسه مختلاً لغير صالحهم: صراع النظام والقانون والدولة مع العصيان والفوضى والعشيرة. ويسمّي مسعود البارزاني تلك المواجهة مع الحكومة ثورةً. وهو يكتب، بجمل تذكر القارىء بتشي غيفارا اكثر مما تذكره بزعيم عشيرة: "إن الثورة في كل مكان بحاجة الى رجال يفهمون معنى كلمة الثورة، انها ليست صفقة تجارية، او مقاولة عمل، وإنما كفاح شاق لا يتحمله كل انسان، وعلى الثائر ان ينذر نفسه لشعبه ويتحلى بالصبر والنفس الطويل". وهو يأخذ على رؤساء العشائر الذين لم يشاطروا البارزانيين صنيعهم "عقلياتهم المحدودة وتفكيرهم المصلحي الضيّق"، ويصم تلك العشائر الكبيرة بالخيانة ويخصّ بالذكر السورجيين الذين "كانوا اول من استجاب لاغراء الحكومة فحملوا سلاح الخيانة وتحولوا الى قوة مرتزقة تحت إمرة قوة عقرة، وما لبث ان انتقلت عدوى خيانتهم الى العشائر الاخرى، حيث تبعهم البرادوستيون والشرفانيون والمزوريون والدوسكيون والبريفانكيون". باختصار فان المؤلف يضع معظم العشائر الكردية، المخالفة لوجهة نظر البارزانيين، في خانة الخيانة في حين يضفي على العشيرة البارزانية صفات الوطنية والعزة والشرف... الخ. على انه مع اندحار البارزانيين فرّ احمد البارزاني وأخوه الملا مصطفى ورجالهما الى ايران فدخلوها في 11/10/1945. جمهورية مهاباد بانتهاء "ثورة بارزان" يقول المؤلف، انتهت مرحلة جديدة من كفاح البارزانيين ضد السلطة. والثورة تلك انتهت بدخولهم أراضي كردستان ايران. وقد لجأ البارزانيون مع اسلحتهم وعوائلهم الى بعض العشائر الكردية في ايران فاستقبلهم هؤلاء بالترحاب ووفروا لهم المسكن وصنوف الراحة والمساعدة. وفي تلك الفترة كانت ايران عموماً وكردستان ايران على وجه الخصوص تمرّ بظروف حرجة. فقد كان الجيش السوفياتي دخل شمال ايران، بما في ذلك مناطق واسعة من كردستان واذربيجان الايرانيتين. وقد ساعد السوفيات الاكراد الآذريين على إقامة "حكومتين" مستقلتين في تبريز ومهاباد تتمتعان بحكم ذاتي وبمعزل عن الحكومة المركزية في طهران. أعلن الاكراد قيام جمهوريتهم المستقلة، ذات الحكم الذاتي، في بلدة مهاباد وترأسها قاضي محمد وهو رجل دين وشخصية معروفة في اوساط أكراد ايران، وتم تعيين مجلس للوزراء كما تقرر انشاء "جيش" كردي من كل القادرين على حمل السلاح للدفاع عن الجمهورية. وقد شكّل وجود رجال العشائر البارزانيين، المسلحون والاقوياء، صدفةً سعيدة لأركان الجمهورية فتم استدعاؤهم وعُيّن الملا مصطفى مسؤولاً حربياً وأعطي لباس جنرال روسي ونيطت به وبرجاله مهمة المساعدة في مقاومة اي هجوم حكومي محتمل. والحال ان ذلك الهجوم لم يتأخر. فبعد أقل من عام واحد على تشكيل الحكومة الكردية قام الجيش الايراني بهجوم كبير على المسلحين الاكراد الذين لم يستطيعوا الصمود ففروا وتشتتوا وسلّم قاضي محمد ووزراءه انفسهم للسلطات الايرانية تم ّ إعدامهم في ما بعد. اما الملا مصطفى ففضّل الهرب مع رجاله. وقد اجتازوا الحدود الايرانية ودخلوا اراضي أذربيجان السوفياتية، واما الشيخ احمد فرجع الى العراق وسلّم نفسه للسلطات هناك. ويلاحظ في هذا السياق ان عشائر كردية كثيرة في ايران لم تحبذ فكرة قيام دولة كردية مصطنعة تحت الوصاية السوفياتية. باشر البارزانيون مسيرة طويلة، في فرارهم من الجيش الايراني الذي أراد تعقبهم والقبض عليهم. ووصلوا الى الاراضي السوفياتية في 16/6/1947 حيث استقبلهم امين الحزب الشيوعي الاذربيجاني باقروف، ثم وضعهم في معسكرات لاجئين أقيمت لهم. وأبدى السوفيات اهتماماً ملحوظاً بهؤلاء اللاجئين العشائريين الذين اخترقوا حدودهم على هذا النحو المفاجىء. ويرى مسعود البارزاني في استقبال السلطات السوفياتية لوالده ورجاله "مغزى كبيراً" حيث جاء في اطار "برنامج استراتيجي أشمل لدعم الحركة التحررية الكردية وتهيئة هؤلاء الرجال ليوم مناسب". أي، بكلام آخر، للاستفادة منهم في النزاعات الاقليمية والصراع على النفوذ في العراق. لم يكن باقروف، وهو الاذربيجاني الكاره للاكراد، يكن وداً كثيراً للبارزانيين. وقد تذمر كثيراً من طابعهم القبلي وعقليتهم المنغلقة. اما الملا مصطفى، وقد وجد نفسه في وضع لاجىء سياسي، فحاول التقرب من الشيوعيين السوفيات ومجاراة سلوكهم واستعمال قاموسهم وراح يتقرب اكثر فاكثر من باقروف مطالباً اياه بتوفير الدعم والمساعدة. وقد كتب رسالة الى باقروف يقول فيها: "ان الشعب الكردي يأمل تحت راية الديموقراطية وبرعاية الرئيس الكبير، قائد الشغيلة العالمية، الرفيق ستالين، ان يبدد تلك الظلمة ويفتح طريق النضال أمامه، وللشعب الكردي كذلك أمل كبير بلطف الاب قائد الشعوب الشرقية الرفيق باقروف". على هذا النحو المتحلق والمبالغ في التفريط حاول البارزاني الظهور بمظهر قائد قومي للاكراد، وقد بدا مصطلح "الشعب الكردي" جديداً في قاموس البارزاني هو الذي تنطح دوماً لمهمة الذود عن عشيرة ومشيخة ومنطقة بارزان. ومع هذا رجع، بعد عدة فقرات من رسالته، فخاطب باقروف بالقول: "ان القبيلة البارزانية، التي هي بعهدتي وتحت مسؤوليتي، هي واحدة من القبائل الكبيرة في كردستان وتاريخها في النضال من اجل الحرية والتقدمية هكذا طويل". ثم شرع في المزج بين الروح القبلية والتحليل الطبقي الماركسي فكتب: "إن قبيلتنا تضم حوالي خمسين الف نسمة، وليس فيها آغا إقطاعي متسلط على رقاب الرعية والكل سواسية، لا فرق بينهم، والاسرة منا تحتفظ بعدد محدود من الماشية الى جانب قطعة ارض زراعية صغيرة". وقد تمنى البارزاني على باقروف مساعدته على "تحقيق أملي في رؤية قائد الشغيلة العالمية الرفيق ستالين". غير ان هذه الامنية العزيزة لم تتحقق ومات ستالين في ايار مايو 1953 وخلفه نيكيتا خروتشوف فقرر البارزاني الذهاب الى موسكو لمقابلته و... "قصد الكرملين مباشرة وتوجه الى مكتب الاستعلامات فيه وكشف عن هويته بقوله: أنا ملا مصطفى البارزاني، جئت لاعرض قضية شعب مظلوم، على شعب لينين وحزبه الذي كان من مبادئه الالتزام بدعم قضايا الشعوب التحررية". وعلى هذا النحو الكاريكاتوري الذي لا يمكن تصديقه يلتقي البارزاني بخروتشوف ليست هناك اية أدلة على ان هذا اللقاء قد تم فعلاً ويروح يشكو اليه معاملة باقروف له وقد رأينا كيف رسم البارزاني باقروف اباً للشعوب الشرقية، فضحك خروتشوف، على ما يروي مسعود البارزاني، وقال: كيف استطعت النفاذ الى حقيقة شخصية باقروف وقدرت على تشخيصه؟ فأجاب البارزاني: اننا مطلعون على مبادىء الاتحاد السوفياتي الداعمة لقضايا الشعوب المظلومة، ومن تعزّ عليه سمعة بلد عظيم كالاتحاد السوفياتي لا يمكن ان يتصرف كما تصرف باقروف مع مناضلين حاربوا الاستعمار. ويبدو ان الملا مصطفى ألقى كلمة في رجاله في باكو، ولكن الكلمة تنمّ عن تصور في فهم المعادلات السياسية وسذاجة في استيعاب العلاقات الدولية فضلاً عن اخطاء فادحة في ما يتعلق بالتاريخ عامة والتاريخ الكردي خاصةً. الاخطاء التاريخية الواردة في الكلمة كثيرة. يمكن مراجعة الكتاب في الصفحات 340-342. وهي تتضمن احكاماً أخلاقية عن "التعاون الانكلو - اميركي الذي يدعم الجيش الشاهنشاهي المدمن على المخدرات ويساعده على شراء ذمم الناس بالدولار". ولولا ذلك لما استطاع "هذا الجيش ان يقاوم جيشنا البطل". ويورد البارزاني، الاب، خليطاً كبيراً من الافكار الدينية والرعوية والعشائرية والقومية والعنصرية، خالطاً إياها بتقولات ماركسية شائعة في ذلك الحين. وهو يؤكد على رفض وجود اي تنظيم آخر سوى تنظيمه الحزب الديموقراطي لان "اي تنظيم آخر لا يقبل بقيادتنا يعني ارتباطه بالامبريالية المقيتة. ويجب اعتبار هذه التنظيمات ورقية وعلينا محاربتها لان ذلك جزء من واجبنا في محاربة النفوذ الامبريالي". ويشير المؤلف الى ان والده، الملا مصطفى، أعلن عن "استعداده، هو ورجاله، للتطوع والسفر الى مصر للدفاع عنها ضد العدوان الثلاثي عام 1956 مقتفياً بذلك آثار البطل الكردي صلاح الدين الأيوبي". وقد قدّر عبدالناصر، كما يؤكد المؤلف، هذا الموقف! 14 تموز 1958 "ان ثورة 14 تموز 1958 كانت ثمرة نضال مرير خاضه شعب العراق بعربه وكرده وأقلياته من اجل الحرية والكرامة والتخلص من التبعية للاجنبي، كما ان نجاحها وبتلك السرعة دليل على أصالة الثورة". هكذا يصف مسعود البارزاني الانقلاب الدموي الذي قامت به ثلة من الضباط العراقيين بزعامة عبدالكريم قاسم ضد الحكم الملكي المستند الى الدستور والتعددية الحزبية والتنوع القومي كان هناك على الدوام وزراء اكراد في الحكومة الملكية ويعتبر الانقلاب الدموي ذاك "يوماً خالداً في تاريخ العراق"، وهو ينسى ان ذلك اليوم شكّل فاتحة الكوارث الانقلابية والمآسي والمجازر التي سوف تتلاحق وتحوّل العراق الى كابوس طويل ما زال مستمراً. وينسى ايضاً ان البعثيين الذين انقلبوا على عبدالكريم قاسم، انما فعلوا ذلك بسرعة قياسية، ولهذا فان ذلك يشكل، بدوره، دليلاً على أصالة ثورة" البعث ايضاً. ربما كان السبب الكامن وراء اعجاب البارزاني بانقلاب 14 تموز هو قبول زعماء الانقلاب بعودة الملا مصطفى البارزاني ورجاله من المنفى السوفياتي الى العراق. وبالفعل فقد غادر البارزاني وأتباعه موسكو في 21/1/1958 وتوجهوا الى رومانيا ثم الى تشيكوسلوفاكيا، ومن هناك أرسل برقية الى عبدالكريم قاسم وصفه فيها ب"فخامة قائدنا المحبوب الزعيم الركن عبدالكريم قاسم بطل الثورة العراقية المجيدة". وبارك البارزاني "قائد الشعب العظيم" الذي قاد الثورة التي "قضت على الاستعمار اللعين والملكية الفاسدة". ثم طلب منه السماح بالرجوع الى "الوطن الحبيب لكي نساهم في شرف الدفاع عن الجمهورية وتقدمها". وختم برقيته بهتاف: عاش القائد والمنقذ عبدالكريم قاسم. وقد وصل البارزاني ومرافقوه الى العراق في 7/10/1958 واعتبر فوراً انه "جندي من جنود ثورة تموز تحت أمر الزعيم". ولكن قاسم لم يكن يحبّذ كثيراً فكرة مشاركة الاكراد في السلطة، رغم القرار الذي كان أصدره حول ذلك. وهو لم يكن رجل سياسة عاقلاً ورصيناً ومتفهماً لاحوال العراق وسكانه من القوميات المختلفة. وهو بقي مزاجياً، متقلباً في آرائه، مفتقداً الى رؤية واضحة وسديدة للامور. ولعل وصفه لحكومته يعطي فكرة عن مستواه السياسي. لقد وصف حكومته على هذا النحو: "جمهوريتنا اشتراكية، وطنية، إلهية، خاكية. لا قصور، ولا دور ولا حاكم ولا محكوم. لا احزاب، لا كتل. امة واحدة وحزب واحد. لا شرقية ولا غربية، لا جنوبية لا شمالية، لا جوني ولا جون بول وانما حمد وحمود. لا إقطاع بعد اليوم، لا قصور، لا ثلاجات، لا تلفزيونات، لا طبقات ولا جلالات ولا فخامات، بل حرية وعدل ومساواة". وكان من الطبيعي ان يبدأ الخلاف يدب بين الانقلابيين انفسهم. ثم فترت العلاقة بين عبدالكريم قاسم ومصطفى البارزاني زعيم سائر مظاهر الولاء والتزلف التي اظهرها لزعيمه "المحبوب". وقد رفض قاسم استقبال البارزاني الذي سعى الى لقائه لشرح موقفه من الوضع في العراق في ظل سلطته. وارتفعت الاصوات داخل الحكومة تطالب برفض مبدأ الشراكة العربية - الكردية في الحكومة. وأدى ذلك الى استنفار التنظيمات والجماعات الكردية في المدن والارياف. وغادر البارزاني بغداد متوجهاً الى بارزان واتصل به اعضاء الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي حذر من وقوع القطيعة مع الحكومة. والتف القوميون الاكراد من مثقفين وموظفين وطلاب وضباط حول الحزب الديموقراطي للاتفاق على خطة مشتركة لمواجهة المد الشوفيني العربي الذي بدأ يتصاعد داخل الحكومة العراقية. ونشرت جريدة "الثورة"، المحسوبة على عبدالكريم قاسم، مقالة تدعو الى وجوب صهر القومية الكردية واذابتها في بوتقة الامة العربية واتخذت السلطة من بعض الصراعات المسلحة بين العشيرة البارزانية والعشائر الاخرى ذريعة لملاحقة الحزب الديموقراطي الكردستاني والعمل من اجل حظر نشاطه. ومن جهته اتجه الحزب نحو مزيد من الانغلاق والتشدد وأحكم مصطفى البارزاني قبضته عليه وعزز الاتجاه العائلي - العشائري فيه وحارب كل اتجاه نحو التعددية، كما سعى الحزب الى وأد الرأي واختلاف الآراء. كذلك مضى البارزاني في التزلف لعبدالكريم قاسم وتملقه بغية الابقاء عليه قوة وحيدة في كردستان. واستعمل الحزب في بياناته تعابير تحمل نكهة استبدادية تفوح منها رائحة الخطاب البعثي الذي سيغزو العراق في ما بعد. لقد جاء في بيان للحزب ما يلي: "إن اصواتاً نشازاً لعملاء الاستعمار وأذناب حكومة طهران وأنقرة معادية لحزبنا تطرق اسماعنا وتحاول جعلنا اعداءً للزعيم البطل عبدالكريم قاسم. لكن خابت احلامهم ولتنبح الكلاب للسماء. ان حزبنا هو طليعة جماهير كردستان الشريفة وهو لن يقول لهؤلاء شيئاً لان وجوههم ستكلح والموت سيكون لهم، فالشعب والزعيم يعرفانهم وهم خدم للاستعمار". ولكن كل هذا لم يخدم الحزب في شيء. وتدهورت الامور الى ان وصلت الى حد الانفجار في 11 ايلول سبتمبر 1961 حيث وقعت المواجهة العسكرية العنيفة بين الحكومة والاكراد واستمرت على شكل معارك طاحنة حتى 1975 حين اندحر الاكراد ولقوا هزيمة مريرة بعد اتفاق العراقوايران في الجزائر. ولكن مسعود البارزاني يتوقف في كتابه عند عام 1961 لعله سوف يضع جزءاً عن هذه المرحلة في ما بعد. والحال ان الحقبة التالية اذا ما كُسبت فستشهد تغييراً في افكاره وقناعاته، وسيرمي بكل ثقله في جبهة "الامبريالية والشاهنشاه والصهيونية..." الخ، وسوف يقود الاكراد الى كوارث لم تنته آثارها حتى هذا اليوم.