ماذا يدور حقاً في السودان؟ سؤال تصعب الاجابة عنه، خصوصاً ان اجهزة الاعلام الحكومية وشبه الحكومية تخضع لرقابة مشددة. وتهيمن على البرامج الاخبارية في القناة الفضائية السودانية مشاهد تدريب الطلبة على فنون القتال، وتهديدات قادة النظام الذين يزورون معسكراتهم بتحويل السودان مقبرة لأي قوة تحاول عبور حدود البلاد. أما مؤيّدو الحكومة التي تدعمها الجبهة الاسلامية القومية بزعامة الدكتور حسن الترابي ممن يتنقلون في يسر بين السودان والخارج فيتحدثون لأبناء وطنهم العاملين في الخارج عن سودان يسوده الرخاء والرفاهية وتتوافر فيه السلع والخدمات. والحقيقة ان الصورة تبدو من الخارج مختلفة تماماً. فقد سعت الخرطوم الى تسويق اتفاق السلام الذي وقعته مع حلفائها من المتمردين الجنوبيين السابقين، غير انها فشلت في بيعه الى قمة منظمة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف ايغاد التي عقدت في نيروبي، وانتهت من دون اعتراف بپ"اتفاقية الخرطوم للسلام" نيسان/ ابريل 1997، على رغم ان ابرز اعضاء وفد السودان الى جانب الفريق عمر البشير كان الدكتور رياك مشار رئيس مجلس التنسيق الجنوبي حكومة جنوب السودان. وبدلاً من ذلك اضطرت الخرطوم الى اعلان قبولها "اعلان المبادئ" الذي توصلت اليه "ايغاد" العام 1994 واعتبرته اساساً لحل المشكلة السودانية، وذلك على رغم ما ينطوي عليه من اقرار بأن يكون الحل على اساس حكم علماني، وهو امر يعتبر النظام معارضته له احد الثوابت التي لن يتخلى عنها. ومن نيروبي انتقل الفريق البشير الى بريتوريا على أمل ان يرعى الرئيس نيلسون مانديلا اول لقاء بينه وبين العقيد جون قرنق زعيم "الجيش الشعبي لتحرير السودان" وقائد قوات المعارضة الشمالية والجنوبية. لكن الاخير رفض فكرة اللقاء، وانتهت قمة بريتوريا بمحادثات بين البشير ونظيره الاوغندي يويري موسفيني حضرها رئيس زيمبابوي روبرت موغابي ولم تؤد الى تحسين العلاقات بين الخرطوم وكمبالا. وعاد البشير الى بلاده ليواصل زياراته التفقدية لمعسكرات تدريب طلبة الشهادة السودانية المدارس الثانوية. وساء الوضع اكثر اثر شيوع معلومات عن ان السلطات قررت نقل الطلبة - على رغم صغر سنهم - الى ميادين القتال جنوباً، مما حدا بالمعارضة في الخارج الى الاستنجاد بالمقرر الدولي لحقوق الانسان في السودان الدكتور غاسبار بيرو. الذي مكث بضعة أيام في الخرطوم. وكان لافتاً ان ابرز اعضاء وفد الرئيس السوداني الى بريتوريا هو الدكتور الترابي رئيس المجلس الوطني البرلمان. ورأى مقربون الى قيادة النظام ان الترابي آثر ان يتفاوض وجهاً لوجه مع موسفيني الذي تمسك مراراً بأن مشكلته مع السودان تتمثل في الترابي وسياساته الرامية الى الاسلمة وتغليب العنصر العربي على زنوج افريقيا السوداء. وقبل ان ينقطع سيل تصريحات قادة الحكومة عن اتفاقهم مع موسفيني على "قضاء حوائجهم بالكتمان" حسبما ذكر الفريق البشير لدى عودته الى مطار الخرطوم - شنت السلطات السودانية هجوماً على مصر بدعوى انها ارسلت وزير خارجيتها عمرو موسى الى العواصم الافريقية التي شملتها جولة البشير، وكذلك بدعوى مضايقة القوات السودانية في حلايب التي يتنازع سيادتها البلدان المتجاوران. غير ان التدهور على صعيد العلاقات الخارجية للسودان، خصوصاً مع دول الجوار، يواكبه هذه المرة تردٍّ شديد في الاوضاع المعيشية والاقتصادية في الداخل، ونقمة على النظام من داخل صفوف مؤيديه. "الوسط" طلبت من الدكتور عبدالوهاب الافندي الملحق الاعلامي السابق في السفارة السودانية في بريطانيا، ان يقوِّم الوضع داخل السودان وسيناريوهاته المحتملة، إثر عودته الاسبوع الماضي من الخرطوم، فوافاها بتحقيق مطوّل. في اليوم الذي وصلت فيه الى الخرطوم بعد غيبة طويلة نسبياً، نشرت صحيفة "ألوان" المقربة جداً من الحكومة النص الآتي بعنوان "حكايات غير صالحة للنشر": وقف على شباك الصيدلية بثيابه الرثة وسلم الصيدلاني الروشتة فقرأها الأخير سريعاً وأحضر مجموعة من الأدوية وقبل ان يتم عبارة "يا حاج عاوزين 40 ألف جنيه" خطف الرجل مجموعة الأدوية بين يديه وأطلق ساقيه للريح. عندما ألقوا القبض عليه بعد ذلك بجهد جهيد صرخ باكياً وهو شيخ الخمسين "اشنقوني ولكن لا تأخذوا مني الدواء فطفلي يرقد مريضاً بالمستشفى ولا استطيع أن أراه يموت أمامي أنني لا أملك ثمن الدواء". احضروه الى قسم غسيل الكلى بالمستشفى كانت حالته خطرة ويحتاج الى أدوية بآلاف الجنيهات ليجري الغسيل. الاطباء وقفوا عاجزين أمام حالته لسبب واحد فقط فهم لا يستطيعون تطبيبه إلا بحضور الدواء... سألوه أين مرافقك؟ فقال بالحرف الواحد وهو يتنهد من الآلام ومن غيرها ووسط دهشة الاطباء "تقصدون أخي... لقد ذهب ليسرق لي ثمن الدواء". وفي الصباح حضر السارق وهو يحمل بين يديه مجموعة الأدوية المطلوبة وتحكي عيناه الزائغتان اللاهثتان قصة ثمنها... فوجد شقيقه قد فارق الحياة!!". من الواضح ان في الحكايتين أعلاه بعض المبالغة، وغير قليل من نسج الخيال، وقد كنت أميل أول الأمر الى تجاهلهما لولا أنني تأكدت خلال فترة مكوثي في الخرطوم من ان الواقع الذي تحكيانه حقيقة ماثلة مهما تكن مرارتها. المدهش في الأمر ان الفقر الذي تعكسه هذه "الأساطير"، والذي ضرب الطبقة المتوسطة تحديداً، ليس هو كل الحكاية، فالمظهر العام الذي تعكسه العاصمة السودانية أبعد ما يكون عن مظاهر البؤس العام، أو الحصار الاقتصادي، بل بالعكس، فإن أول ما يفاجئ الزائر هو مظاهر الازدهار الاقتصادي الواضحة: حركة عمرانية دائبة تكاد تغير وجه العاصمة السكني والتجاري يومياً، وتسابق مدهش في فخامة البنيان، ومحلات تجارية تنتشر في كل ركن، والباعة يعرضون ما لذ وطاب من الفواكه في كل ملتقى طرق، بينما تزدحم الطرقات بالسيارات الفارهة من كل نوع ومصدر. ولا يتعلق الأمر فقط بالوفرة ومظاهر الثراء، بل هناك مظاهر تقدم حقيقي ونجاح في حل مشاكل ظلت مستعصية لعقود من الزمن. في الفترة التي كنت أقيم فيها في الخرطوم في مطلع الثمانينات كانت هناك ثلاثة هموم تقض مضجع سكان العاصمة: الخبز ووقود السيارات وغاز الطبخ. فقد كان لزاماً على كل أسرة ان ترسل قبيل الفجر من يقف في طابور الخبز، بينما كانت طوابير الوقود تصطف ليلاً عند محطات الوقود، وبالمثل فإن الحصول على غاز الطبخ كان يستدعي مغامرات ليلية مماثلة. وفي زيارتي الأخيرة مطلع العام الماضي، لاحظت ان اشكالية توافر الخبز والوقود قد حلت، حيث أصبحت محطات الوقود لا تخلو منه، بينما أصبحت المشكلة فيما يتعلق بالخبز اتقاء هجوم الباعة المتجولين الذين يحاصرون سيارتك لمجرد الاشتباه في أنك تنوي شراء شيء منه. ولكن حل المشكل تم بمقابل، وهو ارتفاع حاد في اسعار الخبز والوقود مما جعلهما عبئاً ثقيلاً على موازنة كل اسرة. في هذه الزيارة لاحظت ان مشكلة غاز الطبخ حلت أيضاً، وبصورة دراماتيكية، اذ قامت الآن أربع شركات متنافسة تعرض أنابيب الغاز في وضح النهار، وبأسعار معقولة. وما دمنا بصدد ذكر الايجابيات فإنني لاحظت ايضاً ان الحرارة رجعت الى هاتف المنزل الذي عاد الى النطق بعد صمت دام عشرين عاماً، كما ان عملية رصف الشوارع في العاصمة السودانية تضطرد بسرعة مدهشة. وبالنسبة الى سكان الاقليم فإن انجاز طريق "التحدي" طريق الخرطوم - عطبرة اختصر الرحلة الى مسقط رأس الكاتب في شمال البلاد الى حوالي أربع ساعات بعدما كانت تستغرق يوماً كاملاً، وقد تهيأت لسكان دنقلا وكردفان تطورات مماثلة قربت المسافات. المفارقة ان المفتاح الى أكثر هذه النجاحات ما عدا الطرق كان اعتماد الحل الرأسمالي، وبمعنى آخر، رفع يد الدولة عن أكثر القطاعات المعنية، تم ذلك بتخصيص شركة الهاتف، وتحويل عبء توفير الوقود والخبز وغيره للقطاع الخاص. وبالطبع فإن هذا كان يعني بالضرورة التعرض لأكثر مساوئ النظام الرأسمالي، وأبرزها التفاوت الكبير بين الفقراء والاغنياء، وترك السوق تتحكم في كل شيء، بما في ذلك القيم والاخلاق. ولكن ذلك لم يكن كل ما في الأمر، أولاً لأن الدولة السودانية لم تترك المسألة كلية لاقتصاد السوق، بل تبقى حاضرة بقوة في أنحائه، وأبرز ذلك تكاثر الشركات الحكومية وشبه الحكومية، وثانياً: بالتدخلات المستمرة في الاقتصاد، وتغيير السياسات، ومن ذلك الهمة الزائدة في جمع الضرائب، وتزايد العبء الضريبي عموماً، خصوصاً مع تطبيق نظام الحكم الفيديرالي، وتكاثر الجهات التي تفرض الضرائب، ابتداء من المستوى المحلي، فمستوى المحافظة، ثم الولاية وأخيراً الحكومة المركزية. وثالثاً وأهم من كل ذلك، فإن سياسة الانفتاح الاقتصادي القائمة تعتمد أساساً في نجاحها على قبضة سياسية قوية تحد من حرية العناصر المتضررة في الاحتجاج. فسياسة التحرير الراهنة طاولت جوانب كثيرة، لكنها لم تطاول الأجور، بينما تبقى حرية النقابات في المساومة على الأجور وغيرها من الحقوق مقيدة بقيود قانونية وسياسية كثيرة. وهذا يعني ان مستخدمي الدولة، وقسماً لا يستهان به من العاملين في القطاع الخاص، يدفعون، في واقع الأمر، ضريبة أي تقدم يحدث، بل وضريبة بقاء الأمور على ما هي. وقد أتيحت لي الفرصة للالتقاء بخريج جامعي اعتبر نفسه من المحظوظين لأنه حصل على وظيفة حكومية بعد عامين من التخرج، لكنه اكتشف ان ما يتبقى له من راتبه البالغ سبعة وأربعين الفاً من الجنيهات بعد دفع تكاليف الانتقال الى مكان العمل وتناول وجبة صباحية واحدة في المكتب هو عشرة آلاف جنيه فقط لا غير، أي ما يكفي لتزويد عائلة صغيرة بالخبز الحاف لمدة يومين فقط. وتحدثت أيضاً مع سائق يعمل في مؤسسة في العاصمة براتب يبلغ أربعين ألفاً من الجنيهات، يصرف أكثر من ثلثيه على الانتقال من والى مكان العمل، ويعول بما تبقى اسرة من خمسة أفراد. ويحلم الرجل، مثله مثل الغالبية العظمى ممن التقيتهم، بالهجرة الى خارج البلاد لايجاد عمل يكسب منه ما يكفيه واسرته، أو تملك وسيلة نقل ليعمل بها في قطاع النقل الخاص. ولا يختلف وضع كبار موظفي الحكومة، بمن فيهم الوزراء، عن بقية الخلق الا قليلاً. فقد التقيت موظفاً حكومياً كبيراً يعمل في موقع حساس جداً أخبرني بأنه استقال من وظيفته لسبب واحد، هو ان الراتب الذي يتقاضاه لا يكفي حاجات أسرته المتواضعة. وقد سمعت من بعض كبار موظفي الدولة أن أكثرهم تمر عليه الأيام ولا يكون في بيته أي طعام. هذا مع ان كبار الموظفين يتمتعون بمزايا إضافية، مثل السكن والسيارة الرسمية ودفع فواتير الهاتف والكهرباء وغيرها. ولكن الذي لا جدال فيه هو ان أعلى راتب في الحكومة لا يكفي حاجات الأسرة المتوسطة من الطعام لأكثر من اسبوع. ومن هنا فإن الخلاصة المنطقية هي ان اكثر العاملين في الحكومة إما ان يكونوا من المتطوعين، أو ممن يعملون سخرة بسبب عدم وجود أي بديل. وليس الفقراء هم الوحيدون الذين يجأرون بالشكوى هذه الايام. فرجال الاعمال ايضاً يضجون بالشكوى من ارتفاع الضرائب وتعددها والسياسات المالية والنقدية التي يتبعها وزير المال الحالي بهدف خفض التضخم والحفاظ على سعر العملة السودانية عبر ضبط الانفاق الحكومي والكمية النقدية. وقد حقق الوزير أهدافه بنجاح كبير، حيث انخفض التضخم بمعدل يزيد على الثلثين الى 40 في المئة ولم يحافظ الجنيه السوداني على قيمته فقط، وانما أخذ في الارتفاع في مقابل الدولار. لكن الثمن المقابل كان إبطاء في النشاط الاقتصادي الى درجة التوقف، وزيادة في معدلات البطالة، مما يهدد بأثر عكسي، خصوصاً ان الجهات المستفيدة من التحسن الطفيف في سعر الجنيه وانخفاض التضخم، وهي الفئات المحدودة الدخل، لن تجد مردوداً ملموساً من هذه السياسات. فلا يتوقع أحد أن يصبح الموظف الحكومي غاية في السعادة لأن انخفاض التضخم يعني أن راتبه سيكفيه ثلاثة أيام بدلاً من يومين، خصوصاً أن سياسات الوزير تعني الرفض التام لأي زيادة ملموسة في الرواتب هي الأمل الوحيد للعاملين. وتعيد السياسات الاقتصادية الحالية التي تتبعها الحكومة التوجه الذي جاءت به أصلاً الى السلطة، حيث كانت تحرك القائمين عليها التوجهات ذات الطابع الاشتراكي المؤمنة بمقدرة الدولة على التحكم في الاقتصاد، والمفعمة بعدم الثقة في السوق وأهله. فقد اتبعت الحكومة حينها سياسات قابضة كانت تعتقد بأن التشدد فيها هو المعيار الوحيد لنجاحها، لكن هذه السياسات اصطدمت بما اصطدم به أمثالها في بقاع العالم الأخرى من جدار صلب، خصوصاً في ظل تداخل الاقتصاد العالمي، أو ما اصطلح على تسميته أخيراً بالعولمة. ولحسن الحظ فإن الاكتشاف استغرق عاماً واحداً، ولم يحتج الأمر الى سبعين عاماً كما حدث في بقاع أخرى. الفرق بين السياسة القابضة القديمة والسياسة الجديدة أن الأخيرة تستخدم أدوات اقتصادية، ولم تستصحب الوهم القائل بأن الحفاظ على قيمة العملة يتأتى باللجوء الى الشرطة، وان لم تتبرأ من هذا الوهم تماماً. فقد قرأت تصريحات لوزير المال يعزو فيها نجاح سياسته جزئياً الى الاجراءات القانونية التي اتخذت ضد تجار العملة، لكن حقيقة الأمر أن نجاح الوزير في خفض الانفاق الحكومي، بما في ذلك الانفاق العسكري، كان هو العامل الحاسم. ترف فكري! التركيز على الحديث عن الأزمة الاقتصادية في بلد أزمته الأساسية سياسية له مبرراته. أولا لأن الهم الاقتصادي هو الطاغي على تفكير غالبية المواطنين. وقد ذكرني بهذا أحد الاخوة عقب احدى الجلسات التي شهدناها ودار فيها حوار ساخن حول الوضع السياسي، ومزايا التعددية ومثالبها، إذ علق الرجل بامتعاض ان هذا ترف فكري، ولغو لم يمس هموم الخلق الماثلة، وأبرزها هموم المعاش. وحينما يتعلق الأمر بتوفير الطعام للأطفال، تتراجع هموم أخرى كثيرة. وجدير بالذكر ان بعض أنصار الحكومة يستخدم هذا الوضع حجة على أن المطالبة بالتعددية ليست من هموم الجماهير، وانما هي من دعاوى القلة المترفة. وكان ردي على هؤلاء أنه لو نجحت الحكومة في توفير الضروريات لخفت كثير من الجدل حولها. هناك، ثانياً، العلاقة المباشرة بين المشكل الاقتصادي والمشكل السياسي. فمن ناحية فإن لب المشكل الاقتصادي الحالي ليس، كما ذكرنا، عموم الفقر، بل وجود سوء توزيع ماثل في الثروة والأعباء الاقتصادية. فهناك قلة تعيش بذخاً لا مثيل له، وقطاع أكبر يعيش في سعة معقولة، بينما غالبية المواطنين في القطاع الحضري تعاني فقراً مذلاً. وهذا في حد ذاته نواة لمشكلة سياسية. فإذا أضفنا الى هذا الاعتقاد السائد عند العامة بأن عدم المساواة الاقتصادية له جذور سياسية أساسها التمييز بين أنصار الحكومة وخصومها، نجد أنفسنا أمام وضع متفجر شديد الخطورة. ولا يهم هنا هل هذه الاتهامات صحيحة أم لا، فإن الخطر يبقى ماثلاً ما دامت هي عقيدة الغالبية التي أنهكتها الأزمة. أضف الى ذلك ان الأزمة تشكل تهديداً مباشراً للنسيج الاجتماعي والأخلاقي في السودان، مما يعني توجيه ضربة قاصمة الى أسس الوجود الاسلامي في البلاد، ناهيك عن مقومات البرنامج الاسلامي الطموح الذي تتبناه الحكومة. فقد أصبحت الأزمة عبئاً ثقيلاً على التماسك العائلي الذي ظل صامداً على رغم تقلب الظروف، بينما أوشكت التقاليد السودانية الراسخة في العفة والكبرياء أن تصبح في ذمة التاريخ، وكثر الحديث عن الفساد بألوانه، وهو حديث لا يأتي فقط من المعارضين. فالأمر إذن يتعدى الضائقة الاقتصادية العابرة الى ما هو أبعد أثراً، خصوصاً لجهة تهديد الضائقة الاقتصادية لمقومات المجتمع الاسلامي في السودان وبنيته التحتية الأخلاقية والاجتماعية. ومن نافلة القول ان الوضع السياسي هو المسؤول الأول عن الأزمة الاقتصادية. فبالاضافة الى عدم التوازن في توزيع الدخل هناك عاملان رئيسيان وراء هذه الأزمة. الأول: حرب الجنوب التي تأكل نصيب الأسد من الناتج القومي وتمثل أكبر بند للصرف الحكومي. والثاني: المقاطعة التامة من الجهات المانحة والمقرضة، بما فيها صندوق النقد الدولي. ولعل قيمة النجاحات المحدودة التي حققتها الحكومة تتضاعف لو أدركنا انها تمت من دون أي عون خارجي يذكر. وإذا كانت دول أخرى كثيرة تفشل في تحقيق نهضة اقتصادية على رغم تدفق العون الخارجي، فإن انتظار فتح اقتصادي في ظل هذه الظروف الضاغطة يعتبر من باب انتظار المعجزات. وبالمثل فإن تأجيل الانهيار الاقتصادي الكامل في السودان حتى الآن لا يقل عن كونه معجزة، خصوصاً اذا عرفنا ان صندوق النقد الدولي فرض على البلاد دفع ستين مليون دولار سنوياً، وهو يكاد يعادل ما تصرفه الحكومة على الحرب. ولعل المقصود فعلاً بضغوط الصندوق انهاك الحكومة اقتصادياً اما للتعجيل بسقوطها، واما على الأقل تعويق قدرتها على تحمل أعباء الحرب. ويعلق محللو الحكومة الآمال على تدفق النفط الذي يتوقع ان يصل الى مستوى تجاري خلال عامين. ويبدو أن الحكومة ليست الجهة الوحيدة التي تتحسب لهذا الأمر. فمن الواضح أن تشديد المعارضة لهجماتها هذا العام كان المقصود منه استباق تحقيق مثل هذا الاختراق الاقتصادي الذي من شأنه أن يقلب موازين القوى بصورة حاسمة. وبالمثل فإن جهود جنوب افريقيا وماليزيا للتوسط لانهاء الحرب في البلاد لا تنفصل عن مصالح هذه الدول، إذ أن عدداً من الشركات من ماليزياوجنوب افريقيا ناشط حالياً في مجالات النفط والتعدين في البلاد. وفي ما يتعلق بالحرب في الجنوب فإن هناك أيضاً سباقاً محموماً بين خياري الحل من الداخل، والتسوية المدعومة دولياً. فتعيين رياك مشار رئيسا لمجلس تنسيق الولاياتالجنوبية في الشهر الماضي ينتظر أن يعقبه تحديد أعضاء مجلس التنسيق وبالتالي بدء العد التنازلي لاستفتاء تقرير المصير للجنوب قبل نهاية هذا الشهر. وأدى هذا الى تحريك الساحة السياسية في البلاد، ليس فقط في الأوساط الجنوبية التي تراقب باهتمام التحركات الجارية لاختيار مجالس الولاياتالجنوبية التشريعية وولاتها، تشارك بحماسة في المشاورات الجارية، بل أيضاً في الشمال. فقد اعلنت الحكومة في الوقت نفسه اعفاء ولاة الولايات الشمالية ما عدا والي الخرطوم، واجراء انتخابات للولاة للمرة الأولى طبقاً للمرسوم الدستوري الثالث عشر الذي صدر عام 1995، لكنه لم يطبق إلا في الخرطوم. وعلى رغم الاحتياطات الرسمية فإن الانتخابات حفلت بالمفاجآت، وحظيت باهتمام شعبي جعلها بحق أهم حدث سياسي في عهد "ثورة الانقاذ الوطني"، حيث فاق في الأهمية انتخابات الرئاسة والمجلس الوطني التي أجريت العام الماضي. وكان من أهم دلائل ذلك ان كل الصحف نفدت من الأسواق في الصباح الباكر غداة اعلان نتيجة الانتخابات، بينما أصبحت الانتخابات ونتائجها حديث المجالس في الخرطوم لبضعة أيام. وكان هناك حرص واضح من الجهات الرسمية على حصر التأثير الشعبي في الانتخابات، إذ لم تزد الفترة بين اعلان إعفاء الولاة وقيام الانتخابات على اسبوع. اضافة الى ذلك، فإن الاسماء الثلاثة التي رشحها رئيس الجمهورية للمجالس الولائية لتنتخب من بينها الولاة بقيت سرية حتى صبيحة يوم الاقتراع، مما أعطى المرشحين ومؤيديهم ساعات قليلة فقط للقيام بأي حملة لمصلحة انتخابهم. ومع ذلك جاءت النتائج مفاجأة للجهات الرسمية، فقط انتخب ستة ولاة على الأقل ضد رغبة الحكومة، وانتخبت كل الولايات ما عدا واحدة ولاية القضارف المرشح الوحيد الذي كان من أبناء الولاية. ولعب الاعلام والهاتف دوراً كبيراً في العملية، إذ ساعد التحسن الملموس في خدمات الهاتف في ذلك. ورصدت شركة الهاتف السودانية "سوداتيل" زيادة دراماتيكية في حجم مكالمات الهاتف عبر الولايات ومن خارج البلاد، مما عكس اهتماماً واسعاً بين المواطنين، بمن فيهم السودانيون في المهجر، بالانتخابات ومحاولاتهم التأثير في نتائجها. ورصد بعض المراقبين تغيراً واضحاً في توجهات التصويت، وعلى الأخص في ولايات غرب كردفان وكسلا والبحر الأحمر بعد اعلان نتائج الانتخابات في ولايات أخرى اتضح أنها فضلت اختيار أبنائها، فانعكست نتائج التصويت الأولى تبعا لذلك. وكان هذا درساً مهماً للحكومة، يجيء في أعقاب ما حدث في انتخابات أمين أمانة المؤتمر الوطني قبل عامين، وينبغي أن يجعلها تعيد النظر في قراءتها للخريطة السياسية واتجاهات الرأي العام. عقدة الجنوب ومن السابق لأوانه التكهن بما ستسفر عنه انتخابات الجنوب، لكن الاهتمام الواسع بها في اوساط الجنوبيين يوحي بأنها ستكون ذات تأثير مهم في مجرى مفاوضات السلام. وتراقب الجهات المحلية والدولية هذه العملية باهتمام كبير، حيث يخشى كثيرون بمن فيهم انصار حركة التمرد ان تعقد الانتخابات مجرى مفاوضات السلام بأحداثها واقعا جديدا على الأرض. ولا شك في ان عزوف زعيم التمرد جون قرنق عن الاستجابة لوساطة جنوب افريقيا للقاء الرئيس البشير كان وراءه الامتعاض من مضي الحكومة قدما في تنفيذ اتفاقها مع مجموعة رياك مشار وتعيين الأخير حاكما فعليا على الجنوب. ويفهم قرنق ومجموعته هذا الاجراء باعتباره عملا عدوانيا، خصوصا انه جاء بعد الاتفاق على استئناف مفاوضات السلام تحت مظلة دول "الايغاد". وبينما يرى بعض المراقبين ان تلكؤ قرنق في القدوم الى المفاوضات مبعثه التزامه مع التجمع الوطني الديموقراطي المعارض دعم التفاوض مع الحكومة فقط بشروط التجمع، وأيضا طمعه في احتلال جوبا وفرض الأمر الواقع في الجنوب، خصوصا بعد الدعم المقدر الذي تلقاه من حلفائه، الا ان سياسة الحكومة في الجنوب ربما كانت العامل الاكبر وراء شعور قرنق بعدم جدوى التفاوض. وعلى رغم ان الحرب تبقى العامل الأساسي في تعقيد الوضع السياسي، ويعتبر انهاؤها الامل الذي يتعلق به المواطنون لوضع حد لمعاناتهم، الا ان الحرب تبدو بعيدة عن اجواء الخرطوم التي تعيش استرخاء خادعاً وتسير وتيرة الحياة فيها بالبطء السوداني المعهود. وتبدو الحرب في الجنوب ومناوشات المعارضة في الشرق كأنها تنتمي الى عالم آخر، الا من بعض الاشارات في الاعلام، والاحتفالات المتكررة التي تقام على شرف "الشهداء". فلا يكاد يمر اسبوع من دون الاعلان عن عدد الذين سقطوا في الحرب، ويقيم ذووهم احتفالات حاشدة تغنى فيها الأناشيد الحماسية وتلقى فيها الخطب التي تشيد بمآثرهم وتجدد العهد على السير في طريقهم. ولا توجد احصاءات رسمية لعدد هؤلاء. لكن هناك بعض الاشارات ذات المغزى في الاعلام. ففي اطار افتخار ولايات ومناطق السودان بما قدمته من شهداء، اعلن محافظ ام درمان في خطبة بثها التلفزيون الشهر الماضي ان محافظته "قدمت 369 شهيدا". ويمكن استخلاص نسبة تقريبية اذا علمنا ان عدد سكان ام درمان يبلغ حوالي مليون نسمة. وبسبب النسيج العائلي المترابط في السودان، فإنه لا تكاد توجد اسرة في البلاد لم تتأثر بفقد قريب لها. والكثرة الغالبة من هؤلاء شباب في مقتبل العمر، وبعضهم في العشرين او دونها. جهاد وطالبان واللافت هو المناخ الثقافي والفكري الذي خلقته هذه الحركة الاستشهادية. فغالبية هؤلاء الشهداء من الشباب المتحمس الذين ذهبوا الى ميادين القتال بمحض ارادتهم، وبعضهم يصر على العودة الى الميدان مرة بعد مرة، حتى بعد ان جرح. وقد كان لكاتب هذه السطور قريب استشهد في معارك شرق السودان، ولكن شقيقه الأكبر الذي كان يحارب في الجنوب متطوعا ايضا رفض العودة الى الخرطوم بعد سماعه النبأ. ولنا قريب آخر كان يغضب كلما عاد الى اسرته اذا هنأه الاقارب بالسلامة، حتى تحققت له امنيته اخيرا فقتل في معارك الشرق وهو في مطلع العشرينات، واستقبلت اسرته نبأ مقتله برباطة جأش مدهشة. وتولدت حول هذه التوجهات حركة قوية، قوامها الشباب المقاتل في الجنوب، حتى اخذ بعضهم يطلق عليها مزاحاً حركة "طالبان". وتبلورت هذه الحركة حول مثاليات التضحية والتجرد والشهادة، وانضم اليها عدد من الناقمين على الاوضاع في الخرطوم، خصوصا ما يصفه هؤلاء بالتكالب على المناصب عند بعضهم وأسلوب الحياة المترف عند آخرين. وعليه فقد اصبحت "حركة الجهاد" في الجنوب تنطوي على احتجاج مبطن على الأوضاع. ولا يخفي بعض اهل الحكم قلقه من ان يتحول هذا الاحتجاج الى حركة معارضة نشطة، خصوصا بعدما تصاعد الاحتجاج في الاوساط الشبابية على ما رؤي عند بعضهم على انه خط مهادن اكثر من اللازم من قبل الحكومة تجلى في قبولها اعلان المبادئ الذي تبنته دول "ايغاد". وفي ظل كل هذه التطورات المتلاحقة والتيارات المتجاذبة، تعيش الخرطوم اجواء من الترقب لتغييرات حاسمة لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات. فمن جهة، يسيطر الآن تيار الانفتاح والاعتدال الذي تقوّى باتفاقية السلام الاخيرة، ويدعم بعض مبادرات الوفاق مثل مبادرة الشريف زين العابدين الهندي وغيرها. ويعكس هذا التوجه قيام لجنة فنية لصياغة دستور جديد للبلاد، والانفتاح في الحريات الصحافية والدعوات المتصاعدة الى التعددية الحزبية. ومن جهة اخرى هناك التيار الثوري الذي تمثله "طالبان" وبعض العناصر في الجيش والحكومة والحركة الاسلامية. وهذا التيار يتوجس من الحزبية والاحزاب، وينتقد "التخاذل" الحكومي في وجه الضغوط المحلية والخارجية، ويدعو الى التمسك بالمبادئ بأي ثمن. وهذه التيارات ليست متمايزة تماما، بل هي تتداخل في اكثر من نقطة. فبعض منتقدي الحكومة بسبب انحنائها للضغوط الخارجية هو في الوقت نفسه من ابرز دعاة الانفتاح على القوى السياسية الاخرى، وبعض المتحمسين للحرب في الجنوب اصبح لا يعارض مبدأ تقرير المصير، وهكذا. والخطورة في الامر ان التيار الثوري قد يتلاحم مع تيار المحرومين اقتصاديا فتتحد ثورة "المتطهرين" مع "ثورة الجياع"، مما يهدد بتدمير المكتسبات الاقتصادية والانفتاحية معا، والسير بالبلاد في طريق مجهول، ولعله من المهم ان نذكر هنا ان هذه البدائل التي فصلناها ليست هي الوحيدة المتاحة. فهناك طريق آخر ثالث على الأقل، يتمثل في تجنب التطرف باتجاه اي من القطبين: الانسياق وراء تيار انفتاحي يتقلب مع اتجاه الريح من دون هدف واضح ويدع اكثر المشاكل على ما هي عليه، او الانزلاق نحو انفجار شعبي غاضب يأتي على الاخضر واليابس. وهذا الحل يكون بإعادة احياء دور الشعب في العملية السياسية، وهو دور تعامت عنه الحكومة والمعارضة معا في اجواء الصراع الصفوي القائم. ويبدأ هذا بمواجهة المشكل الاقتصادي المتمثل في انعدام العدل الواضح في توزيع الدخل، وبالمثل كسر احتكار السلطة عبر توسيع مواعين العمل السياسي بصورة جذرية. والمهم ان كل الدلائل تشير الى ان اي حل للأزمة الحالية من المرجح ان يكون حلا ثوريا يمس بنية النظام من اسسها، وذلك بسبب الاعتقاد المتنامي بأن الامر بلغ حدا لم يعد ينفع معه الترقيع، وبالتالي فإن تجنب الكارثة يتطلب حسم الكثير من الامور المعلقة، وتجاوز الكثير من الاطر والاشخاص والمسلمات التي اصبحت عقبة في طريق اي تقدم باتجاه حلول حقيقية ناجعة. وفي ظل الهدوء الخادع الذي يسود العاصمة السودانية، يلاحظ المراقب ان سماءها تلبدت بسحب داكنة، قد تهطل امطاراً غزيرة، او تهب عواصف كاسحة