كان الدكتور علي الحاج محمد وزير ديوان الحكم الاتحادي في حكومة الفريق عمر البشير الرجل الثالث في قيادة الجبهة الاسلامية القومية. وكلف منذ العام 1989 مهمات عدة شملت ملف الحرب الأهلية في جنوب السودان، وادارة الهيئة العامة للاستثمار. ورشح مراراً لرئاسة الحكومة. وكلف منذ ثلاث سنوات تطبيق نظام فيديرالي فضفاض لاحداث تغيير جوهري في العلاقة بين المركز والأطراف. ومع اجراء الانتخابات في السودان تجدد الحديث عن احتمال تكليف الدكتور علي الحاج تشكيل الحكومة الجديدة. غير أنه أعلن أنه قرر الابتعاد عن العمل السياسي ليلتحق طالباً بجامعة القرآن الكريم في أم درمان؟ وتحدث الى "الوسط" عن الأسباب التي جعلت السلطات السودانية تحرم مغتربيها من التصويت في الانتخابات النيابية والرئاسية. ورفض وصف حكومة البشير بأنها نظام عسكري واعتبر ذلك ظلماً لها. وهنا نص الحوار: تتحدثون عن "شرعية دستورية" إثر شرعية ثورية، هل يمكن نظاماً انقلابياً ان يسبغ على نفسه شرعية اعتدى عليها هو نفسه؟ - هذه الحكومة لم تأت أصلاً متعطشة الى السلطة. كان واضحاً من البيان الأول ان ثورة قامت بسبب تدهور الأوضاع، وكان لا بد من تغيير ذلك النظام. والثورة عمل طارئ. ومع أنه لا يمكن حل كل المشكلات والصعوبات في فترة بعينها، الا أن النجاح في حل أكبر قسم منها حتم العودة الى الشرعية الدستورية. قبل هذا النظام شهدت البلاد تجربتين من الحكم العسكري الفريق ابراهيم عبود والمشير جعفر نميري. ولم يتخل أي منهما عن الحكم الا بعد نقمة وثورة وانتفاضة. ثورة البشير وعدت منذ البداية بأنها عمل طارئ وستتخلى عن الحكم فور اصلاح الأوضاع. وأردفت ذلك تطبيقاً عملياً بدءاً بحل مجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطني، وتعيين مجلس وطني انتقالي برلمان، وصولاً الى المرسوم الدستوري الثالث عشر الذي اعتبره استكمالاً لبناء مؤسسات دستورية. يقال ان الضغوط وسلبية الشارع والعزلة الخارجية هي التي أملت عليكم محاولة الانتقال الى مؤسسات منتخبة. - ذلك ليس صحيحا. عقدنا مؤتمراً في العام الاول من عمر النظام ليحدد مرتكزات استراتيجية شاملة لتطوير البلاد. وقرر ذلك المؤتمر أن يكون السودان استكمل بناء مؤسساته الدستورية المدنية المنتخبة بحلول العام السابع من عمر الثورة. وهذا ما حدث لا أكثر ولا أقل. هل يعقل ان يتحدث انقلابيون تمردوا على الشرعية عن مؤسسات وشرعية؟ - الانقلاب العسكري جزء من نسيج الحياة السياسية في بلادنا. وإذا كنا نلنا استقلالنا قبل 40 عاماً فقد قضينا نحو 30 منها نخضع لحكم عسكري. لكن الانقلاب لا يأتي من فراغ، لأن النظام الديموقراطي الذي ورثناه عن برلمان ويستمنستر البريطاني يبدو غريبا بل اجنبي عن تكوين شعبنا. انه أشبه بالعضو الذي نزرعه زراعة في جسد مجتمعنا، وبعد كل 3 أو 4 سنوات تظهر عليه أعراض رفض ذلك الجسم الغريب فتقوم ثورة. وواقع السياسة في بلادنا ان الشرعية العسكرية أقوى من الشرعية الحزبية. كما أن ما تحقق في ظل الأنظمة العسكرية أكبر مما حققته الحكومات المدنية. في جنوب السودان مثلاً لم ينجح سوى نظام الرئيس السابق جعفر نميري في التوصل الى اتفاق سلام أديس ابابا 1972. وأياً يكن فاذا كان أصحاب الرأي الآخر يأخذون علينا الطبيعة العسكرية للنظام، فها نحن بهذه الانتخابات الرئاسية والنيابية أعدنا الأمر كله الى المدنيين والشعب وحده ليفعلوا ما شاؤوا. مسلمات لا جبهة أنت الرجل الثالث في الجبهة الاسلامية القومية. وهي التيار الوحيد المسيطر على الحكومة والشارع وآليات الانتاج. ولن يصدق أحد أنكم ستتخلون عن الحكم للفئات الأخرى. - لا يوجد شيء اسمه الجبهة الاسلامية القومية. الناس لا يريدون ان يصدقوا وتلك مشكلتهم. هناك تيار اسلامي عريض ملتف حول اتجاه عام تمضي نحوه البلاد، يقوم على ثوابت أساسية منها التوجه الحضاري، والنظام الفيديرالي، والنظام السياسي، والشورى. هذه مسلمات كبيرة يلتقي حولها كل مسلمي البلد. لكن العالم الخارجي يحاول دائماً ايجاد صيغ وسيناريوهات تصور جهة بعينها ومراكز قوة بعينها على أساس الانفراد بالشأن السوداني. وهذه أوهام فحسب. قلت ان العسكر ينجزون أكثر من المدنيين في الحكم. لكن حكومة الفريق البشير استثناء من تلك القاعدة. لأنها لم تحقق شيئا مما وعدت به. خصوصا الجنيه السوداني الذي بات في الرمق الأخير. أليس كذلك؟ - صحيح ان الحكومة وعدت بحل الحرب الدائرة في جنوب السودان، ولم تف بما وعدت. لكن للمشكلة شقين: عسكريا وسياسيا. واعتقد بأن الجانب العسكري حسمته هذه الحكومة بنسبة 90 في المئة وذلك باسترداد معظم الأراضي التي كانت تسيطر عليها قوات التمرد. ولكن سياسياً كان ينبغي التوصل الى حل سياسي يعزز ذلك الانتصار العسكري. وقد سعت الحكومة الى حل سياسي لكن التدخلات الخارجية اعاقت ذلك. أقول ذلك بحكم مشاركتي في عملية السلام واتصالاتي العلنية والسرية مع الجنوبيين. ومن انجازاتنا الكبيرة تطبيق النظام الفيديرالي وهو أمر عجزت عنه حكومات سابقة منذ مؤتمر جوبا العام 1947. خطوة كبيرة من دون شك لأننا غيرنا خريطة بقيت موروثة منذ العهد التركي لنتيح قدراً أكبر من المشاركة في السلطة والثروة لمواطني البلاد. السلطة الحقيقية في الولايات الآن بيد حكوماتها وليست بيد المركز. في الاطار الاقتصادي ايضا نعتقد بأننا حققنا تقدماً كبيراً. والاقتصاد، في نظري، لا ينحصر بالمعادلة بين سعر الدولار والعملة الوطنية. الدولار يساوي الآن أكثر من ألف جنيه سوداني، صحيح. ولكن قبل ذلك كنا نتلقى معونات ودعماً لميزان المدفوعات. أي ان الجنيه كان مدعوماً من العالم الخارجي، ولما يقطع الغرب معوناته عنا بدأ الجنيه يترنح محاولاً بلوغ مستواه الحقيقي غير المدعوم. هل تتوقع ان تشهد قيمته مزيداً من التدهور؟ - أنا لا أسميه تدهوراً. الدولة كانت تعتمد على طلب المعلونات وتلك سياسة أوقفناها. وليس من الانصاف اعتبار قيمة الجنيه في مقابل الدولار مؤشراً حقيقياً الى حال اقتصادنا. هناك نمو اقتصادي حقيقي بشهادة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي نسبته تراوح بين 8 و9 في المئة. لأن هذه الحكومة حرصت على اعادة تأهيل السكك الحديد وقطاع الطرق وغيرهما من المرافق. الأهم من ذلك كله ان الاقتصاد بات مبنياً على حفز المنتج من دون اعتماد على دعم للسلع الاساسية أو وسائل الانتاج. هذا النمو لا يلمسه مطلقاً رجل الشارع العادي الذي يشكو بلا انقطاع من الغلاء وقلة الحيلة. - من هو رجل الشارع؟ الموظف تعني؟ هناك 800 ألف موظف في السودان لا بد أن يعانوا بحكم محدودية الدخل، وتحاول اجهزة الخدمة المدنية معالجة تظلماتهم بوسائل مختلفة. لكن غالبية المستهلكين هي من المنتجين الذين يجدون أسعاراً مجزية لمنتجاتهم. ومن اكبر انجازات هذا النظام انه نجح في اعادة توزيع الثروة والسيولة المالية فبات 65 في المئة من السيولة في الولايات. وصدر بعد ذلك المرسوم الدستوري الثاني عشر لاعادة توزيع الدخل العمومي للدولة على الولايات والمركز. قد يكون ذلك صحيحا نظريا، لكن معظم السودانيين يشكو من غلاء المعيشة وقلة مداخيله، فيما يزيد المنتمون الى الجبهة ثراء وترفاً! - هذا ليس صحيحاً. موظفو الدولة يشكون ويحتجون، ونحن نقدر ذلك، لأن المرتب لا يزيد على 30 ألف جنيه سوداني في الشهر. وهو مبلغ غير كاف لتلبية مطالب الموظف الأسرية المتعددة. لكننا لا ننظر الى الأمر من هذه الزاوية وانما من ناحية ما تحقق في الاقتصاد كله من نمو وتحسن وثبات. ما تقوله عن استفادة المنتمين الى الجبهة الاسلامية القومية واستئثارهم بالفائدة الاقتصادية ليس صحيحاً أيضاً. اذا رجعت الى البنوك الموجودة في البلاد والهيئات المعنية بالاستثمار فستجد أن 90 في المئة من المستثمرين في ظل هذا النظام والمحققين أرباحاً أشخاص لا يمكن اعتبارهم من جماعة النظام، ولا نقول انهم معارضون، لكنهم تجار. عندما حصل تنفيذ برنامج التخصيص بدأنا نسمع ان ناس الجبهة اشتروا وحولوا ملكية القطاع العام لمصلحتهم. هذه اشاعات غير صحيحة. معظم المستثمرين في هذا المجال كوريون مصنع النسيج في بورتسودان، ومدبغة الجزيرة، وفندق قصر الصداقة، وسودانيون. أنتم تديرون البلاد عمليا منذ 1989 ووصلتم بعلاقاتها الخارجية الى أدنى مستوياتها. ألم تحدث مساءلات أو محاسبات بينكم في هذا الشأن؟ - سياستنا الخارجية انعكاس لسياستنا الداخلية وهذه هي مشكلتنا الحقيقية. التوجه الحضاري والاسلامي واعتمادنا على الذات هما الدعامتان الرئيسيتان لسياستنا الخارجية. لذلك لا نعتبر أننا قصّرنا في شيء. للعالم الخارجي مواقف ضدنا بسبب توجهاتنا. مصر مثلاً ليست لنا معها مشكلة، لكن مشكلتها ان هذه هي المرة الاولى تكون هناك حكومة سودانية لا تأتمر بأمر القاهرة. القاهرة لم تتحدث مطلقاً عن الجانب الذي أشرت اليه، لكنها تحدثت مثلاً عن سماح النظام باستضافة متطرفين ومتشددين مناوئين لها ولأنظمة حكم في بلدان اسلامية أخرى... - أن نفتح أبواب بلادنا لاستقبال العرب هذا ليس شيئاً سيئاً، وان كان ذلك أدى الى مشاكل في نهاية المطاف. الغرض الأساسي ان تصبح بلادنا واحة لنا ولسوانا، لكن بعضهم استغل ذلك لخدمة أغراضه مما اضطرنا الى فرض قيود واجراءات على الأجانب. هكذا كما ترى ليست هناك جوانب سيئة في سياساتنا لكن مشكلتنا ان اخواننا المصريين لا ينظرون الى بلادنا الا باعتبارها حديقة خلفية لمصر. هذا لا ينفي ان علاقاتكم مع دول أخرى ليست على ما يرام، خصوصاً الدول المحيطة بالبلاد. - الاخوة في اثيوبيا واريتريا منذ توليهم السلطة وقبل تدهور العلاقات أوضحوا لنا أنهم يتعرضون لضغوط شديدة للابتعاد عن السودان، وكانوا يقولون لنا انهم غير مقتنعين بتلك الضغوط. ولكن يبدو أنها مرتبطة بدعم خارجي ومعونات ونجحت في حملهم على اتخاذ مواقف سلبية تجاهنا لعزل السودان. نحن لا نلام على ذلك. حتى في الجنوب حيث نعتقد بأن المعركة العسكرية انتهت لمصلحتنا، عادت الحرب للاشتعال مجدداً ولكن يخوضها آخرون وواجهتهم جون قرنق، والمقصود النظام في السودان. جيرانكم يتحدثون صراحة عن محاولتكم أسلمة الحزام الافريقي والتعريب ونشر الاسلام بالقوة. - قال لي الرئيس الاوغندي يويري موسفيني انه يخشى الأصولية المقبلة من السودان. فقلت له كيف تخشانا ونحن الذين ينبغي أن نخشى الأصولية القادمة إلينا من مصر. وقال لي انهم يخشوننا لأننا نريد أن نعربهم بالقوة. فنفيت له ذلك. ولا اعتقد بأن حكومتنا تنشر الاسلام، لأن الاعلام الغربي والعربي هو الذي ينشر الاسلام بما يتناوله كل يوم عن الاسلام والبوسنة وفلسطين والشيشان والجزائر ومصر. والاسلام ليس دين السودانيين وحدهم ولا هو دين العرب وحدهم، انما هو دعوة مفتوحة للناس كافة. هل تعتقد بأن حكومتكم تستطيع التوصل الى صلح مع معارضيها الذين اتخذوا أسمرة مقراً لهم؟ - اذا كنت تتحدث عن محمد عثمان الميرغني ومبارك الفاضل واتباعهما فهؤلاء لا صلح معهم لأنهم يريدون سلطة فحسب. ونحن ضد عودة الطائفية والحزبية. ولا نعتقد بأن الجنوبيين، بكل فصائلهم، يثقون بالميرغني والمهدي، لأن الأخيرين هما سبب مشكلة الجنوب أصلاً. معارضوكم يتحدثون عن عقد "مؤتمر قومي دستوري" لحل مشكلات البلاد. لماذا ترفضون ذلك؟ - نحن عقدنا في السودان أكثر من 30 أو 40 مؤتمراً جامعاً مثلت فيه شتى وجهات النظر والآراء. ومع ذلك نحن نقول ان البرلمان الجديد المنتخب سيكون مكلفاً وضع دستور دائم للسودان. وسيطرح الدستور في استفتاء شعبي لاقراره أو رفضه. هل صحيح ان الجبهة الاسلامية القومية غيّرت اسمها وتكوينها استعداداً لمرحلة "الشرعية الدستورية"؟ - الجبهة غير موجودة أصلاً! نحن الآن "انقاذيون". نعم كلنا رجال الجبهة الاسلامية، لكننا "انقاذيون" فحسب، لأن الجبهة حلت أسوة بحزبي الامة والاتحادي الديموقراطي. ومعنا في النظام فئات ليست في الجبهة. ومن لا يرى ذلك فهو قطعاً يعاني من عمى ألوان! قمت أخيراً بجولة أوروبية قيل انها لتنوير السودانيين في الخارج عن الانتخابات النيابية والرئاسية. لماذا التنوير وهم فئة تقرر أصلاً حرمانها من الاقتراع؟ - غالبية مغتربينا في الخارج تعمل في دول الخليج العربية. ونخشى ان فتحنا المجال هناك للتصويت والحملات أن يؤثر ذلك في علاقاتنا بتلك البلدان، لأننا نعرف طبيعة الصراعات والخلافات التي تواكب مثل هذه الانتخابات والنشاط السياسي السوداني عموماً، وهي اشياء لا نريد لها أن تؤثر في البلدان المضيفة ولا في علاقتنا معها. أين تجد نفسك في الحكومة المقبلة؟ وهل صحيح انك مرشح لرئاستها؟ - خطوتي المقبلة هي الالتحاق طالباً بجامعة القرآن الكريم في أم درمان. وهذه رغبتي الخاصة التي أتمنى أن تتحقق.