عندما اعلنت حكومة ولاية الخرطوم نهاية آب اغسطس الماضي اجراءات جديدة لبيع رغيف الخبز وقالت انها تهدف الى ضبط الاسواق وتحديد اوزان الخبز واسعاره، لم يعبأ المواطن السوداني كثيراً، لأن اسعار السلع الاستهلاكية الاساسية تتزايد كل يوم والحملات التي تعلنها الحكومة من حين لآخر - بنظر المواطن - لن تؤدي لخفض اعباء الحياة المعيشية. غير انه عندما بدأت الحكومة تطبيق تلك الاجراءات، وأعلنت اسعاراً جديدة للخبز لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت سائدة أصلاً قبل بدء الاجراءات، اختفى الخبز تماماً. وعندها أحسَّ المواطن السوداني بأن ثمة خطأ، فتظاهر ضد تلك السياسات وهاجم المتظاهرون مبنى وزارة المال في ولاية الخرطوم لإحساسهم بأن السياسات التي اعلنتها الوزارة أدت الى انعدام الخبز، ولأن المواطن لم يعد يحتمل الغلاء مع الندرة. وقد اضحى مسلسل زيادات اسعار السلع الضرورية امراً مألوفاً في السودان. ففي 5 حزيران يونيو الماضي اصيب الناس بالدهشة عندما ادركوا وهم يتوجهون لمواقع عملهم ان الحكومة زادت من دون اعلان في اجهزة الاعلام الرسمية اسعار المحروقات بنسبة تراوح بين 47 و60 في المئة. ولم يكد الناس يفيقون من دهشتهم حتى طالعوا من خلال اعلان في الصحف الرسمية ان مرفق الكهرباء سيزيد اسعار الكهرباء اعتباراً من تموز يوليو الماضي بنسبة 19 في المئة للمتر الواحد من التيار الكهربائي. ويدرك السودانيون، بحسهم المعهود، مغزى هذه الزيادات وأثرها على حياتهم، ولكنهم سرعان ما يواجهون الأمر بدعابة. فالخرطوم عاصمة التوجه الاسلامي ستعود الى عهد ما قبل اكتشاف الكهرباء وسوف يستخدم سكانها المصابيح والفوانيس لعجزهم عن سداد قيمة استهلاك الكهرباء. وعادة لا يتفاءل المواطنون كثيراً عندما يتداول البرلمان المجلس الوطني أمر الزيادات المعتادة، لأنهم يدركون ان المجلس النيابي سيقر الزيادات في نهاية المطاف، لكنهم ذهلوا حينما تحدث بعض الوزراء مبشرين بزيادات اخرى ستعلن على بعض السلع قبل نهاية العام الحالي، باعتبار "ان الزيادات نتاج حصار غير معلن على البلاد وثمن لحرب مفروضة في الجنوب تبلغ تكلفتها اليومية مليون دولار". ومهما يكن فإن مواجهة أعباء المعيشة التي اضحت تتصاعد يومياً باتت هماً يؤرق كل اسرة، فالفوارق بين دخل الاسرة ومنصرفاتها اليومية تتسع كل يوم على رغم ان الحكومة تلجأ لاعلان زيادات في اجور ورواتب العاملين مرتين في العام، آخرها في كانون الثاني يناير الماضي، اذ رفعت الحد الادنى للاجور بنسبة 53 في المئة ليصبح 15 ألف جنيه أقل من 10 دولارات بدلاً من 4.9 ألف جنيه شهرياً. وتبين الارقام الجدول رقم 1 ان أسرةتتألف من 5 أشخاص تحتاج شهرياً الى 180 ألف جنيه لتغطية الحد الادنى من حاجاتها المعيشية لتناول وجبتين فقط يومياً. ونلاحظ ان الجدول لا يشمل منصرفات الكهرباء والمياه 5 آلاف جنيه شهرياً ولا يشمل ايضاً مصروفات الابناء من رسوم دراسية ورعاية صحية في مستشفيات الدولة التي فرضت رسوماً باهظة لتلقي العلاج. وهكذا فإن الموظف الذي لا يزيد أجره على 40 ألف جنيه سوداني شهرياً يحتاج الى ما لا يقل عن 200 ألف جنيه شهرياً. غير ان منصرفات هذا الموظف تفاقمت خلال آب اغسطس الماضي بفعل الزيادات المستمرة في اسعار السلع انظر الجدول. وبدراسة جدول آب يتضح ان هذا الموظف يحتاج الى اكثر من 250 ألف جنيه لتغطية حاجاته اليومية اي ان تكلفة حاجاته ارتفعت بين شهري أيار وآب بنسبة 25 في المئة. فضلاً عن ان هذا الموظف يستأجر منزلاً يتكون من غرفة واحدة وصالة بمبلغ 30 ألف جنيه شهرياً. ويتوقع هذا الموظف الذي يضيء منزله بست لمبات كهربائية، ويستخدم التيار الكهربائي لأربع ساعات فقط، ان يرتفع ما يدفع من فاتورة الكهرباء الى 25 ألف جنيه بدلاً عن 500.1 جنيه. في ظل هذه الظروف تزيد معاناة الناس الذين يعيشون على مرتبات محدودة، خصوصاً ان اقتصاد السودان ينوء بديون وصلت الى 17 بليون دولار، وحرب تحتدم زيادة في معدلات التضخم. ويشير تقرير اعده الجهاز المركزي للاحصاء الى ان معدلات التضخم في كانون الثاني 1991 بلغت 83 في المئة وفي شباط فبراير بلغت 95 في المئة وفي آذار مارس 102 في المئة وفي نيسان ابريل 117 في المئة وفي ايار 122 في المئة وفي حزيران يونيو 163 في المئة وفي تموز يوليو 166 في المئة. وتوقع التقرير ان ترتفع معدلات التضخم في آب وايلول، وان تتصاعد اسعار السلع بنسبة تتراوح بين 25 و100 في المئة. ويلجأ السودانيون الذين لم يعد بامكانهم استبدال ملابسهم واحذيتهم البالية الى العمل بأكثر من وظيفة لاطعام اسرهم، ويمتهن البعض مهناً هامشية منها غسيل السيارات وبيع ماء الشرب التي يمارسها اطفال صغار. ويقول اقتصاديون ان بعض العاملين في القطاع الحكومي لجأ الى سرقة المال العام لتوفير حاجات المعيشية، فضلاً عن ان بعضهم يعتمد على مساعدات ذويه الذين يعملون في دول نفطية ثرية. ويشير تقرير حكومي آخر الى تزايد معدلات اختلاس المال العام خلال السنوات الاخيرة. ويوضح التقرير الذي قدمه ابوبكر عبدالله مَارِنْ المراجع العام الى البرلمان ان نسبة اختلاس المال العام التي اكتشفت في الفترة من تموز 1994 حتى كانون الأول ديسمبر 1995 بلغت 740 مليون جنيه. وعزا تفاقم الاختلاسات الى عدم تطبيق القوانين واللوائح المالية، فيما رأى اقتصاديون ان الظروف المعيشية والاقتصادية السيئة التي يعيشها المواطنون تعتبر عاملاً اساسياً في زيادة اختلاس المال العام. وقال اقتصادي سوداني بارز ل "الوسط": "ان الاختلاسات دخلت مجال النظام المصرفي، وما عاد أمراً غريباً ان يتعامل الناس بالشيكات المتقاطعة بملايين الجنيهات". وأوضح تقرير اصدرته نيابة الجهاز المصرفي ان اختلاسات الجهاز المصرفي خلال الخمسة اشهر الماضية بلغت اكثر من 24 بليون جنيه سوداني الامر الذي أثر سلباً على الجهاز المصرفي والاقتصادي الوطني. ويفيد التقرير بأن جملة البلاغات القضائية التي فتحت في الاربعة أشهر الماضية بلغت 238 بلاغاً، وان محكمة الجهاز المصرفي استردت للبنوك عبر ثماني قضايا اكثر من 85 مليون جنيه، وانه في أحد البنوك بلغت جملة الاختلاسات التي قام بها موظفان في البنك مليوناً ومائة ألف دولار. وتؤثر الضائقة المعيشية والاوضاع الاقتصادية المتردية على الحياة الاجتماعية في البلاد، فقد تخلى معظم السودانيين عن عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية التي درجوا على ممارستها ولجأوا الى تقليل الصرف على الأفراح بعد ان اضحى حفل الزواج يكلف ملايين الجنيهات. وتناقل مجتمع العاصمة الخرطوم اخباراً عن حفل زواج نظم بمدينة أم درمان فوجئ المدعوون اليه بأن العشاء "عبارة عن سندويتشات متوسطة الحجم"، واكتفى المحتفلون فيه بتقديم الماء البارد الى المدعوين. واختصر السودانيون المأتم الذي كان يستمر لثلاثة أيام على الاقل، ليوم واحد فقط أو ربما بضع ساعات في يوم الوفاة، ويكتفي البعض عند بث انباء وفياتهم في الاذاعة السودانية الحكومية بعبارة "ينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن"! من جانبها، تبرر الحكومة السودانية سياساتها واستمرار الزيادات في اسعار السلع الاساسية بالقول: "لا مفر من الزيادات لحل معضلة عجز الموازنة في اجواء الحرب التي تسود جنوب البلاد". والواضح حسبما يذكر المسؤولون ان الاقتصاد السوداني يعاني من اختلالات تراكمت بجانب الحصار غير المعلن وتوقف القروض والمساعدات الخارجية التي كانت تصل الى 800 مليون دولار. وقال د. عبدالوهاب عثمان وزير المال الاتحادي امام البرلمان في معرض دفاعه عن الزيادات المتكررة ان الخزانة العامة للدولة تدفع دعماً شهرياً للبترول يبلغ 5 بلايين جنيه. وأضاف ان الدولة تكبدت خسارة في الاربعة أشهر الماضية بلغت 7.30 بليون جنيه، وان العجز المتوقع بنهاية العام الحالي سيصل الى 200 مليون جنيه "اذا لم يعاد النظر في اسعار البترول". ودافع الدكتور يسن عابدين مدير مرفق الكهرباء عن قراره زيادة تعريفة الكهرباء بقوله ان الزيادات ستؤدي الى "اتقاء اهم اسباب التضخم والظلم الاجتماعي وتحقق قسمة عادلة للثروة وتدعم البنيات الاساسية". وقال في مذكرة رسمية اصدرتها الهيئة القومية للكهرباء ان التسعيرة الجديدة ستؤدي الى ضغط على الاستهلاك السكني مما سيوفر طاقة كهربائية متزايدة توجه نحو الانتاج، مشيراً الى ان الاستهلاك السكني يستنزف اكثر من 60 في المئة من الطاقة المولّدة في البلاد. على صعيد آخر ترفض الهيئات الشعبية والاتحادات النقابية السودانية الزيادات التي اعلنت من قبل الحكومة. وقال هاشم احمد البشير نائب الامين العام لاتحاد العمال ان زيادات الكهرباء تعني حرمان المواطنين من خدمات الكهرباء وان متوسط استهلاك المواطن سيرتفع الى مبلغ يتراوح بين 20 و25 ألف جنيه، وهذا اكثر من الحد الادنى للاجور. واعتبر اتحاد العمال الزيادات سياسة خاطئة ستترتب عنها زيادات في اسعار السلع الضرورية. وقال انه كان بوسع وزير المال ايقاف الصرف البذخي للدولة بدلاً من اللجوء الى زيادات. واقترح اتحاد العمال زيادة اجور ورواتب العاملين في القطاع الحكومي بنسبة 118 في المئة، ودعم المشروعات العمالية بتوفير مال يصل لأكثر من بليوني جنيه لمساعدته في توفير السلع الضرورية للعمال بأسعار معقولة. ويتوقع محللون اقتصاديون ان تلجأ الحكومة لزيادة المرتبات في محاولة منها لامتصاص الرفض الواسع لمسلسل الزيادة، غير ان تلك الزيادات في الاجور لن تفي حسبما ذكروا لتلبية حاجات المواطنين التي تتفاقم يوماً بعد يوم في ظل الظروف الاقتصادية السيئة التي تسود البلاد. المصروفات اليومية في ايار 1996 لعائلة موظف حكومي تتألف من 5 أشخاص جدول رقم 1 خبز 50 قطعة 500.2 جنيه لحم نصف كيلوغرام 700 رطل سكر 400 رطل بن 200 خضار 300 فحم 300 قطعة صابون غسيل 150 نصف رطل زيت 200 بصل 200 علبة صلصة 200 بهارات توابل 150 طبق فول 300 مواصلات نقل 400 الجملة 000.6 المصروف اليومي للأسرة خلال آب 1996 البند الاسعار بالجنيه السوداني خبز 50 قطعة 750.2 لحم نصف كيلوغرام 250.1 رطل سكر 800 رطل لبن 400 خضار 500 فحم 300 قطعة صابون غسيل 200 بصل 250 نصف رطل زيت 250 علبة صلصة 400 بهارات توابل 200 طبق فول 400 مواصلات 700 الجملة 400.8