تملك جنوب افريقيا مؤهلين لا يتوافران لغيرها في افريقيا: القوة الاقتصادية والتكنولوجية والزعامة الروحية للرئيس نيلسون مانديلا… وتتفوق بريتوريا بذلك على كل من نيجيريا ومصر وزائير - الكونغو. وهي بلدان تهزها حمى التنافس على لعب دور اقليمي في القارة الافريقية، اذ تطمح كل دولة من هذه الدول الأربعة الكبرى لأن تكون لاعباً سياسياً في منطقتها، لكن أكثر هذه الدول طموحاً وتخطيطاً وقدرة هي جنوب افريقيا. كان السؤال الذي يسيطر على الأفارقة بعدما تربع شيخ المناضلين الأفارقة مانديلا على السلطة هو هل تملك بريتوريا خطة عمل لاعادة الأمل لقارتها الأم المنهكة؟ ثم تفرعت عن ذلك السؤال أسئلة أخرى صغيرة: ماذا فعل مانديلا وماذا بإمكانه ان يفعل لاصدقائه خصوصاً أولئك الذين ساندوا مسيرة شعبه وهم الآن يعانون من العزلة والحصار مثل العقيد معمر القذافي والرئيس ياسر عرفات والرئيس صدام حسين والرئيس فيديل كاسترو؟ وما هو الدور الذي تستطيع بريتوريا ان تلعبه في فض نزاعات القارة والحد من حروبها، خصوصاً تلك التي تقع على الخط الساخن معها وهي ليست الا مخلفات لمشاكل افريقيا الجنوب مثل انغولا والموزامبيق؟ وكيف يمكن لمانديلا ان يكون "شيخ النضال" في افريقيا، ولا يهتم بمشاكل القارة التي دعمته ووقفت الى جانبه واتخذت منه رمزاً للمكابرة؟ وأين هي المساعدات التي يمكن لمانديلا ان يقدمها لفقراء افريقيا وهو ينام على ثروات تؤهل بلاده للمرتبة الاقتصادية العاشرة عالميا؟ ظلت تلك الأسئلة معلقة الى حين اندلاع الحرب في زائير - الكونغو. وكانت تلك الحرب التي تسببت في اضطرابات على الساحة الافريقية فرصة لبروز جنوب افريقيا كقوة اقليمية تريد لعب دور متقدم في القضايا التي تهم القارة. فقد اختار هذا البند الأزمة الزائيرية كي يدخل كلاعب سياسي بارز ويضطلع بالدور المرموق الذي يمنحه إياه ثقله الاقتصادي في افريقيا والسمعة الدولية التي يحظى بها رئيسه. وقبل ذلك بقليل حاول مانديلا ان يجد "حلاً وسطاً" لأزمة الحكم في نيجيريا، لكن الجنرال "ساني أباتشا" أغلق الأبواب أمام أية مساومات من شأنها ان تؤدي به الى مغادرة الحكم. وبدا واضحاً آنذاك ان أبوجا اصطدمت بطموحات بريتوريا في أكثر من قضية، اذ شكل حضور مانديلا المتميز في القارة خطراً على دور نيجيريا الاقليمي الذي لعبه زعماء هذا البلد لسنوات طويلة لم تكن فيها جنوب افريقيا الا بلداً منبوذاً أو معزولاً. وعلى رغم ان كثيرين من الأفارقة شعروا بالخيبة من بطء مانديلا الا انهم أدركوا أخيراً انه رجل يذهب الى أهدافه على مهل. فبعد زائير، ها هو اليوم يستعد لجولة اخرى من الوساطات لانهاء التوتر والقتال في افريقيا الوسطىوالكونغو - برازيفيل والسودان وسيراليون. وكانت الآمال في ايجاد حل سياسي للنزاع على السلطة بين كابيلا وموبوتو عن طريق التفاوض بدت ضعيفة، بل ومستحيلة، حين اتجهت حركة الرياح لمصلحة التغيير. ولأن جنوب افريقيا أرادت ان تكون منطلقاً لمبادرات السلام بين أطراف النزاع، فقد ربحت مكانة أدبية كبيرة لدى المجتمع الدولي. فبفضل نفوذه والسمعة التي يحظى بها وقدرته على ايجاد الحلول التي جعلت منه صانعپ"معجزة" جنوب افريقيا، استطاع مانديلا ان يكون وسيطاً يقبل به الأخوة الأعداء في الزائير. وسواء أثمرت أم لم تثمر تلك الوساطة شيئاً مفيداً لافريقيا فإن جهود بريتوريا دعمت مكانتها في القارة وجددت صورتها التي تشوهت في الماضي بسبب مواقفها المترددة. بائع السلاح ففي البداية خيبت جنوب افريقيا بزعامة مانديلا آمال الأفارقة بسبب تحفظها عن الميدان لصنع بعض الحلول لمشاكل القارة. وقد اعتقد الكثيرون بأن جنوب افريقيا "الجديدة" بقيادة الغالبية السوداء ستكتشف في نفسها "وعياً افريقياً" وتجعل من نفسها ا لمدافع عن التنمية والديموقراطية في القارة، لكنها على العكس من ذلك فضلت في بداية الأمر ان تظل بعيدة عن المشاكل الخارجية وقد أعطت الأولوية لقضاياها الداخلية. وكان هذا الموقف الذي اعتبره البعض موقفاً أنانياً قد جعل مانديلا نفسه عرضة للانتقادات، وأهمها ان الرجل لا زال يتحرك داخل سجن كبير وانه لا يريد ان يتورط في آلام القارة وان بريتوريا تريد ان تبقى بائعاً للأسلحة ومخزناً للمرتزقة في افريقيا. واذا كانت بريتوريا قامت بانعطافة غير متوقعة بقرارها، في نهاية الأمر، بأن تلعب دور الوسيط بين كابيلا وموبوتو، فذلك لاستعادة حظوتها بالدرجة الأولى، ثم ان قادتها أدركوا بأن مشاركتهم في حل النزاع الزائيري يخدم مصالح بلادهم. فالآثار الوخيمة للأزمة الزائيرية في غرب القارة ووسطها نبهت المسؤولين في جنوب افريقيا الى ان ازدهارهم مرتبط ارتباطاً وثيقاً باستقرار القارة. واذ سارعت بريتوريا في ان تجعل من البلدان المجاورة لها الحلقة الأولى من توسعها الاقتصادي في افريقيا، فلأن أية قلاقل تصيب دول هذه الحلقة، من شأنها ان تزيد من هشاشة الوضع السياسي في أنغولا أو في زامبيا وتتسبب في ظهور أمواج جديدة من اللاجئين نحو جنوب افريقيا، التي تحتضن في أراضيها ما يقرب من ثلاثة ملايين من المهاجرين غير الشرعيين، وهو عبء ثقيل يصعب حمله. ويحتاج اقتصاد جنوب افريقيا المتوجه أساساً الى خارج القارة الى الاستقرار لضمان نموه. فالسوق الافريقية ما تزال ضعيفة نسبياً فيما يتعلق بالصادرات، لكنها تزيد بمعدل 30 في المئة سنوياً. وتقوم جنوب افريقيا التي تنتج ثلث ثروات القارة ببرمجة صادراتها واستثماراتها تدريجياً عبر المنطقة كلها. توسع اقتصادي وانعزال سياسي لقد كانت انعزالية بريتوريا السياسية مناقضة تماماً لمنطق التوسع الاقتصادي الذي تحاول انتهاجه. وتواصلت هذه الانعزالية في عهد مانديلا، لكن حرب الكونغو - زائير وضعت حداً لهذا الانفصام. غير ان تغيير موقف جنوب افريقيا أعمق من ذلك في الواقع. فهذا البلد بدأ يفرض نفسه، ليس فقط كمحرك اقتصادي للقارة ولكن أيضاً كناطق باسمها في المجال السياسي حتى ان هناك من يرشحها لمقعد دائم في مجلس الأمن عن افريقيا. فبريتوريا تتباهى الآن بكونها قوة افريقية ترغب في تحرير المنطقة من وصية الأمم الغربية. وهذا ما أعلنه نائب رئيس جنوب افريقيا ثابو أمبيكي خلال زيارة قام بها الى واشنطن قبل شهرين اذ أكد "أن الهدف من الدور الجديد لجنوب افريقيا هو النهوض بالقارة كلها". ويشمل خطاب بريتوريا الموالي لافريقيا وهو خطاب يخفي مطامعها، جميع الميادين. وكثيراً ما قدم ترشيح مدينة الكاب لتنظيم الألعاب الأولمبية العام 2004 كحدث رمزي من شأنه ان يكون بداية هذا العهد الجديد لافريقيا. وفي المجال الاقتصادي اقترن انضمام جنوب افريقيا أخيراً الى اتفاقية لومي التي تربط بين الاتحاد الأوروبي وبلدان افريقيا الغربية وبلدان الكاريبي والمحيط الهادي، بتعهد من جانب بريتوريا بالدفاع عن مصالح هذه البلدان لدى بروكسيل. وذهب الرئيس مانديلا الى أبعد من ذلك عندما وسع هذا الخطاب ليشمل مجمل البلدان السائرة في طريق النمو. فلمناسبة زيارته للهند في نهاية آذار مارس الماضي أكد الزعيم الافريقي رغبته في احياء حركة عدم الانحياز التي ستترأسها جنوب افريقيا السنة المقبلة. وألح مانديلا على ضرورة ادخال اصلاحات على منظمة الأممالمتحدة. وأشار الى انشاء مقر دائم في مجلس الأمن خاص بالعالم السائر في طريق النمو من دون ان يطالب صراحة بأن يكون هذا المقر في بلاده. سطوة الأخ الأكبر ان جنوب افريقيا التي اخذتها النشوة لدورها الجديد كقوة اقليمية كبرى بدأت تغذي اليوم مطامع واسعة. وهذه المطامع قد أثارت مخاوف وحسابات الهيمنة في بلدان افريقية أخرى. فعلى الصعيد الاقتصادي هناك بلدان كزيمبابوي وكينيا وزامبيا وحتى أنغولا تنظر الى بريتوريا كمنافس شديد في أسواق المعادن. ولم تخف نيجيريا غضبها أمام زحف جنوب افريقيا على غرب القارة حيث تسللت الى ليبيريا وسيراليون وساحل العاج وغانا. وفي كل مكان تقريباً اصطدمت بريتوريا سياسياً أيضاً بامتعاض بعض البلدان من دور "الأخ الأكبر" الذي باتت تمارسه، وقد انتقدتها السلطات الأنغولية والزامبية والكونغولية لاقتراحها عليها مساعيها الحميدة من اجل فض نزاعاتها السياسية الداخلية. وبسبب الخوف من اتهامها بالتحيز أو عدم الحياد، اختارت جنوب افريقيا في الأزمة الزائيرية ان تضع جهود وساطتها رسمياً تحت وصاية الأممالمتحدة ومنظمة الوحدة الافريقية. ولا شك ان بريتوريا تخفي نوازع مبيتة وراء كل وساطة، كما يعتقد بعض المراقبين، فوساطتها فيما يتعلق بالسودان تعني بالنسبة الى مصر انها تريد ان تسرق لها دورها في بلدان حوض النيل. وثمة عامل آخر من شأنه ان يحد من طموحات وإشعاع دولة جنوب افريقيا، هو غياب الزعيم مانديلا، فسواء توفي مانديلا العجوز أو استقال في العام 1999، فإن أحداً من الفريق الحاكم لا يمكنه ان يكون في مستوى جاذبيته. ويقال ان خليفة مانديلا أصبح معروفاً، لكن النائب ثابو إمبيكى 55 عاماً اذا استطاع ان يجلس على مقعد مانديلا، فهو لن يستطيع أبداً ان يعوض ذلك الرجل غير القابل للتعويض. وعلى رغم ان إمبيكي الرجل اللطيف، ذا الأناقة البريطانية هو الحاكم الفعلي لبريتوريا حالياً وموجه سياستها الخارجية والداخلية، الا انه اذا فقد المرجعية في شخص مانديلا، سيكون من الصعب عليه ان يفرض نفسه على بارونات حزب المؤتمر الوطني اليساريين وذئاب مجتمع "الافريكانرز" الموغلين في الانغلاق. لقد كان إمبيكي أحد مخططي "المؤتمر الوطني" في المفاوضات التي أفضت الى تبني الدستور الجديد لجنوب افريقيا. وقد استطاع مع محبوب العمال سيرين رامافوز نقل البلاد الى حكم الغالبية السوداء في ظروف متوترة وحساسة. فهو بالنسبة الى البيض كان يبدو لهم الوجه المعتدل بين رجال مانديلا، أما بالنسبة الى السود، فكثيراً ما يوصف بأنه "رجل أبيض بجلد أسود". ولولا دعم مانديلا له، لم يكن لينجح في مهماته. في العام 1993، بعد اغتيال الزعيم الشيوعي ذي الهيبة كريس هاني، اختار مانديلا إمبيكي ليكون الى جانبه على رأس الشؤون السياسية، فيما اختار رامافوزا ليكون على رأس الشؤون الاقتصادية. وسواء فاز رامافوزا أو إمبيكي بخلافة مانديلا، فإن لا أحد منهما بإمكانه ان يجعل من جنوب افريقيا محط أنظار وتقدير كما هو حالها مع مانديلا. ولكن ما يؤكد ان بريتوريا سيزداد "تورطها" في القارة السمراء، هو ان موقعها الجغرافي ومؤهلاتها الاحتياطية والاستراتيجية لن تجعل منها فيلاً نائماً في غابة يزأر فيها الأسود. فروح التنافس بينها وبين كل من نيجيريا ومصر وربما غداً زائير - الكونغو تفرض عليها ايجاد ديناميكية تتناسب وامكاناتها الاقتصادية وطموحاتها الاقتصادية. فهي تملك الوسائل والتجربة والامكانات والرجال وكذلك الديموقراطية والتنوع والتعددية، لكي تتفوق على غيرها، وبالاضافة الى ذلك، فهي تعتبر دعامة لاستراتيجية النظام العالمي الجديد، فمن دون دول ذات الوزن المتوسط مثل جنوب افريقيا ومصر واندونيسيا وتركيا والبرازيل والمكسيك، فإن واشنطن لا تستطيع ان تفعل الشيء الكثير لأمن العالم الثالث. ان جنوب افريقيا ليست مساحة من الفقر والتخلف والثروات النائمة مثل زائير أو السودان، وانما هي مخزن من الثروات والتكنولوجيا والخبرات والأموال. فهي عاشر دولة صناعية في الترتيب العالمي، بل انها تحتوي على ثروات من الذهب واليورانيوم والماس والمانغيز وجميع أنواع المعادن تؤهلها لأن تكون الثالثة عالمياً، ومن حيث نشاطها المالي، فإن بورصة جوهانسبورغ تعتبر من أهم بورصات العالم الى جانب طوكيو ونيويورك ولندن وباريس وفرانكفورت، بحجم معاملات يعادل 185 مليار دولار. اما على الصعيد التكنولوجي، فإنها تملك ترسانة نووية منذ بداية الثمانينات وتعتبر من أهم الدول الصناعية في العالم مما يجعلها تحصد من المبيعات الصناعية، بما في ذلك السلاح حوالى 100 مليار دولار سنوياً، أي ما يوازي مبيعات القارة الافريقية كلها بما في ذلك النفط. والى جانب ذلك فهي تنتج 50 في المئة من الطاقة الكهربائية لافريقيا قاطبة، و80 في المئة من الحديد والصلب، وتملك حوالي 35 في المئة من السيارات والشاحنات التي تسير على أرض افريقيا كما هي المنتج الأول للماس والذهب والبلاتين والكروم على الصعيد العالمي، وبهذا الرصيد كله، فإن جنوب افريقيا تعزي جميع من يفكر فيها، سواء أولئك الأغنياء القادمين من الشمال، أو فقراء القارة الباحثين عن فرصة للتعاون. ان شبكة العلاقات التجارية والأمنية والديبلوماسية مع أغلب دول القارة التي نسجت معظمها خلال السنوات الماضية من شأنها كذلك ان تضع بريتوريا في المستقبل القريب كأهم دولة افريقية في المحيط الدولي، فهذه الدولة التي عاشت معزولة داخل محيطها الافريقي طوال عقود عدة أصبحت الآن مقصد شعوب القارة المعذبة .