الرحلة إلى مناطق الفالاشا في أقصى غرب الهضبة الاثيوبية تتطلب اجتياز مسالك جبلية وعرة في اقليمي غوجام وغوندار اللذين يمثلان قلب المملكة الحبشية التاريخية القديمة. إنها رحلة لا بد من أن يصاب خلالها المسافر بالرعب والخوف والدهشة، إذ أن السيارة تصعد متاهات جبلية متعرجة مخيفة، ثم تهبط أخاديد سحيقة لا تخلو من وديان. وربما فسرت هذه الطبيعة التي تراوح بين الهضاب العالية والجبال الشاهقة والوديان المنخفضة سبب انغلاق الفالاشا وانعزالهم بعيداً عن أي مؤثرات خارجية. غير أن جمال الطبيعة قد ينسي المسافر إلى معاقل الفالاشا شيئاً من مشاعر الخوف الشديد التي تنتابه في أعلى ذرى الهضبة الاثيوبية. فليس تحت تلك الجبال سوى بساط طبيعي من السندس الأخضر، تزيده جمالاً الورود البرية ذات الألوان الرائعة. ومشهد الجروف السحيقة المتعرجة تنساب منها المياه في التواء مبهر لتلتحم بالنيل الأزرق في مسيره مخترقاً السودان مواصلاً مسيره إلى مصر. لكن الطبيعة بغاباتها وأدغالها وجبالها ليست الحاجز الوحيد بين الفالاشا والمجتمعات الأخرى، إذ أن طبيعتهم وتقاليدهم تمثل أيضاً سياجاً منيعاً من الصعب على أي زائر أو غريب أن يخترق مجتمعهم، بل يصعب التفاهم معهم لأنهم لا يتكلمون الأمهرية السائدة هناك. ويحرصون على التفاهم في ما بينهم بالعبرية. ومع أن "الوسط" تكبدت مشقة الوصول إلى يهود الفالاشا، إلا أن حصيلة الزيارة كادت تؤول إلى الصفر، فقد امتنع هؤلاء عن مخاطبتنا بطريقة مباشرة، وفشلنا تماماً في اقناعهم بالسماح لنا بتصويرهم. وتمسكوا في حديثهم مع مرافقنا بأن التصوير سيجلب الأرواح الشريرة إلى منطقتهم. كان اختيار المرافق والسائق عاملاً حاسماً في وصول "الوسط" إلى هناك. الطرق ليست معبدة. وتضاريس الطريق تقهر أمهر السائقين إذا لم تكن لديهم خبرة بها. وتبعد مناطق الفالاشا نحو 830 كلم من أديس ابابا، حيث تمثل قريتي سوقطة وبيجميدير وما حولهما من القرى التي تمثّل التجمع الاساسي لمجتمع الفالاشا في اثيوبيا. كانت البداية في مدينة غوندر عاصمة المملكة الحبشية في الماضي، وأقرب مدينة الى تجمعات الفالاشا، وغوندر هذه مدينة منحوتة بكاملها داخل الجبال، وفيها أقدم قصر بُني في افريقيا، وهو للملك الحبشي فاسيل. ومعمارها بالغ الشبه بمدينة صنعاء القديمة. واستقبلنا فيها التاجر الاثيوبي ذو الاصل اليمني حسن محمد ثابت، الذي حدد لنا مواقع الفالاشا بدقة. وأوضح لنا ان زيارة مناطقهم تعتبر مخاطرة غير محسوبة العواقب. وفي اليوم الثاني اتجهنا الى قرية سوقطة احدى اكبر قرى الفالاشا، بالسيارة الخاصة لبنجوشي هيلي الذي يمتلك فندقاً في غوندر. وعند وصولنا الى سوقطة فوجئنا بوقفنا عند مدخل القرية حيث اخبرنا الفالاشا بأن هناك تعليمات خاصة بمنع اي اجنبي من دخول هذه القرى. وامتنعنا عن الحديث باللغة العربية خوفاً من افتضاح أمرنا. لكن مرافقنا نجوشي تدخل في محاولة منه لانقاذ الموقف، بالحديث الى الفالاشا موضحاً لهم اننا نمثّل منظمة اغاثة غربية. لكن هذه المحاولات زادت الموقف سوءاً، وذلك حين طالبنا السكان بإبراز بطاقات هذه المنظمات. وكان هذا الخطأ الفادح مصدراً لمتاعب عدة تعرضنا لها في ما بعد حيث انتشر خبر "الاجانب الغرباء ذوي الملامح الشبيهة بمواطني احدى دول الجوار" في كل مناطق الفالاشا. وتعمد جميعهم التخاطب معنا باللغة العبرية التي لا نفهم منها سوى كلمة اورشليم. وعلى رغم كل ذلك قررنا التحرك نحو منطقة بيجميدير، المركز الرئيسي للفالاشا، حيث كانت الامور اسوأ، فهذه المنطقة لديها سوابق بمجيء بعض الاميركيين والاوروبيين للمساعدة في تهجير الفالاشا، وذلك تحت ستار منظمات اغاثة انسانية. وقد أُبعد هؤلاء من اثيوبيا في غضون 24 ساعة. ومن المصادفات السيئة ان زيارتنا لبيجميدير تزامنت مع تلك الاحداث. وفوجئنا باللهجة الحادة لمسؤولي الفالاشا عند تخاطبهم معنا، وطلبوا منا ابراز بطاقتنا الحقيقية، وعندما علموا اننا صحافيون نمثّل جهات عربية، تعرضنا لتفتيش دقيق تم خلاله نزع كل الافلام التي التقطناها في الطريق وفي مناطقهم. وأقنعنا مرافقنا بقبول الامر الواقع: سلامتنا في مقابل الافلام على وزن "الارض في مقابل السلام"… وذلك خوفاً من تفاقم الامور نحو الأسوأ ول "الوسط" تجربة مماثلة إبان زيارتنا لمدينة الكرمك السودانية، حيث احتجز مندوبها لدى عودته الى الاراضي الاثيوبية. وانتابنا خوف نظراً الى حساسية المنطقة التي تضم منابع النيل، وكنا صوّرنا كل تلك المناطق. فلو تفاقم الامر كان يمكن تحميض تلك الافلام وتفسيرها وفق سياق مختلف تماماً عن مهمتنا الصحافية. وللفالاشا جدار سميك وحصانة اكتسبوها لمنع اي اجنبي من اختراقها. ووفقاً لمعلومات مرافقنا فاننا لا نمثل حالة استثنائية، فمعظم السياح والصحافيين الاوروبيين الذين حاولوا اختراق الفالاشا تعرضوا لتجربتنا هذه.والواقع أن يهود الفالاشا يمثلون لغزاً محيراً وسط القوميات في اثيوبيا. تتناثر قراهم التي لا يزيد عددها على 20 فوق هذه القمم الجبلية، ولم يتعدَ تعدادهم - حتى قبل التهجير - 100 ألف. والسؤال المحير: هل عقم الفالاشا، أم لحقت بهم لعنة الملك سليمان لأنهم عاونوا ابنه منليك على سرقة التابوت؟ فعلى رغم أنهم من أقدم السلالات التي هاجرت الحبشة قبل أكثر من ألف عام، فقد بقي عددهم لا يتجاوز ال 100 ألف، في حين انفجرت سلالات وفدت إلى المنطقة قبل بضعة قرون - كالأرومو مثلاً - إلى ملايين عدة. ويمثل ذلك أحد أهم عناصر غموض مسألة الفالاشا. الهائمون على وجوههم يقول الفالاشا إن تسميتهم مشتقة من العبرية، وتعني: يهاجر أو يقتحم الأرض عنوة أو يهيم على وجهه، ومركزهم في اثيوبيا اقليم غوندر في الشمال ومنطقة بحيرة تانا التي يعتقد بأن النيل الأزرق ينبع منها. وتنتشر مجموعات متفرقة منهم في منطقة التيغراي المتاخمة لأقليم غوندر. وأكبر مراكزهم بلدة بيجميدير، وتعني "أرض الإله" بلغة الجئز GEEZ، وهي إحدى اللغات التي تنتمي إلى مجموعة اللغات الأمهرية والعربية والعبرية. أما الفالاشا فيسمون انفسهم بيتا إسرائيل، ويختصرونها غالباً إلى إسرائيل فحسب، ولم يعرف أحد بوجودهم في اثيوبيا حتى العام 1682 عندما ورد ذكرهم في تقرير أحد الرحالة الغربيين. وكذلك ورد ذكرهم في كتاب أصدره أحد مستكشفي منابع النيل العام 1790. ومع أن أخبار وجود طائفة يهودية في اثيوبيا كانت معروفة منذ ذلك الوقت، إلا أن اليهود لم يبدوا اهتماماً بهم. بل كان المسيحيون الغربيون سباقين إلى الاهتمام بهم في مسعى يهدف إلى تنصيرهم. وارسلت أول بعثة تنصيرية إلى مناطقهم نحو العام 1856، غير أنها باءت والبعثات اللاحقة بالفشل تماماً. بقي أصل الفالاشا موضع جدل كبير على مر السنوات. يقولون عن أنفسهم إنهم من سلالة الملك سيلمان. ويروون أن الملكة الاثيوبية بلقيس ملكة سبأ اتصلت بالملك سليمان وأنجبت منه "منليك" - وتعني أصلاً ابن الملك - ومنه تحدر الفالاشا. وذكر علماء التاريخ أن ملكة سبأ اتصلت بالملك سليمان في القرن الثالث قبل الميلاد لكنها كانت تحكم منطقة جنوب الجزيرة العربية اليمن حالياً. ويقول الفالاشا إن منليك ذهب بعد بلوغه ال 22 إلى أورشليم للتعرف إلى أبيه الملك سليمان، ومكث هناك ثلاث سنوات تعلم فيها تشريعات التوراة وأتقن العبرية، ثم عاد إلى اثيوبيا ومع 12 ألفاً من الكهنة وأهل الحكمة والمعرفة لينضم إلى بقية البيت الإسرائيلي الموجود في الحبشة. لكن مؤرخين آخرين يرون أن الفالاشا قدموا إلى اثيوبيا بعد هدم الرومان هيكل سليمان وتشريد اليهود من القدس. ويقول دارسون إنهم ينتمون إلى مجموعة الأجاو AGAW العرقية الاثيوبية ذات الأصل الكوشي. وكانت لهم مملكة تسمى زاقو. ويرى فريق آخر من الدارسين انهم إسرائيليون أصلاً، بدليل وجود المخطوطة الأصلية للوصايا اليهودية العشر وتابوت موسى في الهضبة الحبشية. غير أن الحقيقة الوحيدة التي لا خلاف عليها أن ثمة اختلافات في الملامح الجسدية تميز الفالاشا عن بقية القوميات الاثيوبية. وكان ذلك سبباً حدا بالسلطات الإسرائيلية إلى تكليف جيري ويفر المنسق السابق لشؤون اللاجئين في سفارة الولاياتالمتحدة في الخرطوم مهمة التمييز بينهم وبين بقية اللاجئين في مخيمات اللاجئين الاثيوبيين في شرق السودان، تمهيداً لترحيلهم سراً إلى إسرائيل. وكان اسم ويفر تردد أثناء محاكمة المسؤولين في نظام الرئيس السوداني السابق جعفر نميري المتهمين بالتواطؤ لترحيل الفالاشا، باعتباره مسؤولاً عن الاستخبارات في السفارة الأميركية. ويتميز الفالاشا خصوصاً بعيونهم العسلية، وبالنحافة، والبشرة السمراء الداكنة. أهم محور في حياة الفالاشا ديانتهم. وربما كان حرصهم على طقوسها العامل الرئيسي الذي مكنهم من المحافظة على كيانهم من دون ذوبان في بقية المجتمعات الاثيوبية. وهم يعترفون بالعهد القديم فقط، ويجهلون التلمود الذي تعرفه بقية الطوائف اليهودية الأخرى. ومع أنهم يتمسكون بأنهم يتبعون تعاليم العهد القديم بدقة وحرفية، إلا أن بعض ممارساتهم يعود في أصله إلى المسيحية والوثنية. وقد يعزى ذلك إلى تأثرهم بالبيئة التي تحيط منطقتهم، إذ أن معقلهم الرئيسي في بيجيمدير محاط بقومية التيغراي المسيحية وقومية الاجو الوثنية. وكانت الحكومة تعيّن حاكماً اثيوبياً لإدارة شؤون الفالاشا، لكنهم يعتبرون السلطة الروحية الحقيقية عليهم في يد الكهنة وكبار السن من قوميتهم. ويوجد في كل قرية من قراهم معبد صغير كنيس يصلون فيه سبع مرات يومياً. والكنيس المحلي لا يختلف في تشييده عن أكواخهم. الأسرة والأقارب والبيت للفالاشا نظام اجتماعي شديد الغرابة، فهو تراتبي يبدأ بالأسرة فالأقارب ثم البيت الإسرائيلي، ويقصدون بذلك مجتمع الفالاشا. كل شيء خارج نطاق هذه المؤسسات الثلاث يعتبر مجتمعاً غير يهودي في عرفهم. ولأنهم رضوا لنفسهم هذه العزلة في هذه المناطق الجافة نسبياً، فهم لا يملكون أراضي زراعية خاصة بهم. ويعمل كثيرون منهم اجراء لدى ملاك الأراضي الزراعية المسيحيين في مقابل منحهم ثلث المحصول. غير أنهم معروفون بالمهارة في صنع المنتجات الحرفية اليدوية، وتبرع نساؤهم في صناعة الأواني الفخارية. كما أن رجالهم مهرة في صنع الأدوات الحديد مثل المحاريث والأواني الخزفية. ويحرص الفالاشا على عدم مخالطة أي شخص لا ينتمي إليهم. وإذا حصل أي مساس أو احتكاك بين أحدهم وشخص آخر، فعلى الفالاشي قبل العودة إلى داره ان يستحم للتطهر في بركة أو نهر. كما أنهم يذهبون للاستحمام الجماعي بعد دفن أي من موتاهم، وذلك لاعتقادهم بأن الجسد يصبح نجساً بعد أن تفارقه الروح. غير أن النظام الأسري لدى الفالاشا متماسك جداً، إذ يتولى الاب مسؤولية الانفاق اقتصادياً على أفراد أسرته، وللأم حق اختيار اسماء أبنائها وبناتها. ويحتل الابن أو الابنة البكر مكانة مميزة في الأسرة. ويقوم الأب باختيار زوجة لابنه حال بلوغه ال 16. وعادة يراوح عمر العروس بين 12 و14 عاماً. ومن أهم شروط الزواج أن تكون العروس بكراً. وفي يوم الزفاف يربط الكاهن شريطاً أحمر على جبين العريس. وفي ليلة "الدخلة" يفحص العريس عروسه للتأكد من أنها عذراء، فإذا لم تكن خرج على الملأ ليمزق أمامهم الشريط الأحمر الذي ربطه الكاهن حول جبينه. وفي هذه الحال يحتجز كل أهالي العروس ولا يسمح لهم بمغادرة دار العريس حتى يدفعوا تعويضاً مناسباً لذوي العريس. وعندما يتكفل أهلها بدفع التعويض المناسب يلعنونها علناً ويتبرأون منها وتعتبر من تلك اللحظة منبوذة. ويحق للعريس الارتباط بأي فتاة أخرى. غير أن من أخطر المحرمات الاقتران بأي فتاة لا تنتمي إلى "البيت الإسرائيلي". بعد أن تنجب الزوجة مولودها الأول تنقل إلى "بيت اللعن"، وهي إشارة إلى اللعنة التي يقول الفالاشا إنها لحقت بأمنا حواء لأنها كانت السبب في الخطأ الذي ارتكبه سيدنا آدم، فأخرجه الله من الجنة. وحين تضع المرأة مولودها تطلق النسوة اثنتي عشرة زغرودة ويعني ذلك أن المولود ذكر. أما إذا كانت المولودة انثى فإنهن يطلقن تسع زغاريد. ويختن المولود حين يكمل يومه الثامن، ويشترط أن تقوم بالختان امرأة. وإذا كانت الزوجة من الفقراء فهي تُلزم البقاء في "بيت اللعن" 40 يوماً. وإذا كانت تنحدر من أسرة ميسورة، فإنها تغادره بعد ثمانية أيام فقط، لكنها لا تعود إلى منزلها بل إلى "بيت جليليت" أي البيت الخاص، لئلا يضايقها الناس. وتمكث هناك ما بقي من فترة ال 40 يوماً. ولا يسمح للمرأة أثناء هذه الفترة بمخالطة أحد سوى قريباتها. وفي اليوم ال 40 تأخذ مولودها إلى النهر وتغطس في مائه على مرأى ومشهد من بقية الناس 40 مرة، وهي عارية كما ولدتها أمها. ويعتبر الفالاشا ذلك بمثابة اعلان أنها تطهرت على أكمل وجه، ويمكنها ان تعود إلى منزلها وتعاود الاختلاط بالمجتمع، كما كان وضعها قبل الولادة. تهجير الفالاشا ولأن الفالاشا يعتقدون ان الجثة تصبح نجسة بعد مفارقة الروح، فإنهم لا يسمحون بتأخير دفنها. وإذا مات الفالاشي ليلاً فيتعين ابقاء الجثة في كوخ منفصل عن المنزل الذي تقطنه الأسرة ريثما تشرق الشمس. وإذا حصلت الوفاة يوم السبت، العطلة المقدسة لدى اليهود، فيتعين الانتظار حتى يدفن في اليوم التالي. وعادة ما يشاركون الذكور والإناث من دون تمييز في موكب التشييع. وبعد الصلوات والدعوات والدفن يخاطب المشيعون المتوفى بالقول: "هذا هو بيتك ولن ترجع منه أبداً". كانت اسرائيل تدرك منذ فترة طويلة ان ثمة عنصراً يهودياً في اثيوبيا، لكنها لم تحفل به بسبب اعتراض الزعامات الدينية اليهودية على الاعتراف به. ولم يأت ذلك الاعتراف حتى العام 1975. واشار المحللون مراراً الى ان الاعتراف بيهود الفالاشا لم يأت لأسباب دينية، ولكن لأن اسرائيل لديها قلق مزمن حيال وضعها الديموغرافي. ففي حين لا يتعدى تعداد اليهود في فلسطين ثلاثة ملايين نسمة، فان معظمهم اما مجنّد واما في الاحتياط استعداداً للحروب المستمرة بين اسرائيل وجيرانها. ولذلك دأبت الدولة العبرية على تشجيع هجرة اليهود اليها من اي مكان في العالم. واعلن رئيس الوزراء السابق مناحيم بيغن العام 1977 رغبة حكومته في تهجير يهود اثيوبيا الى اسرائيل. غير ان البداية الحقيقية لعمليات التهجير انتظرت حتى العام 1983. وقد جمعت المنظمات والوكالات اليهودية في الولاياتالمتحدة نحو 538 مليون دولار لتغطية نفقات ترحيل الفالاشا. ونجح اليهود في الحصول من خلال المساعي الاميركية والاسرائيلية على موافقة الرئيس السوداني السابق جعفر نميري على نقل الفالاشا من السودان. غير ان الاخير اشترط عدم نقلهم من بلاده الى اسرائيل مباشرة. وقالت مصادر ديبلوماسية في اديس ابابا ان وزير الدفاع الاسرائيلي السابق ارييل شارون زار الخرطوم سراً العام 1980 وبحث في الموضوع مع نميري. وفي العام التالي التقى الزعيم السوداني رئيس الوزراء السابق بيغن في القاهرة اثناء تشييع جثمان الرئيس المصري انور السادات. ويعتقد انهما ناقشا معه مسألة الفالاشا. وفي غضون اشهر بعثت اسرائيل بوفد من عملاء الاستخبارات موساد الى السودان لوضع الترتيبات الملائمة لبدء "عملية موسى" لنقل يهود الفالاشا. والتقت "الوسط" في اديس ابابا احد افراد الفالاشا الذي كان ضمن اول مجموعة هجّرت الى اسرائيل عبر الاراضي السودانية، ويعمل حالياً استاذاً في الجامعة العبرية. وعاد الى العاصمة الاثيوبية لقضاء عطلته. قال ل "الوسط" ان هجرة الفالاشا تمت في ست عمليات. كانت الاولى من قرية عروس السياحية المطلة على البحر الاحمر شرق السودان، وأسفرت عن نقل بضع مئات. وذكر ان العملية الثانية تمت عن طريق مطار الخرطوم الدولي بمنح الفالاشا وثائق سفر اثيوبية بدعوى اعادة توطينهم في كنداوالولاياتالمتحدة. اما العملية الثالثة فتمت بنقل الفالاشا من الخرطوم الى مطار جوبا - عاصمة جنوب السودان - ومنها الى مطار العاصمة الكينية نيروبي ثم اثينا فاسرائيل. وتمت العملية الرابعة في مهبط ترابي للطائرات في منطقة الشوك القريبة من مدينة القضارق شرق السودان. اما العملية الخامسة فكانت اكبر عمليات التهجير اذ استمرت ستة اسابيع خلال الفترة من تشرين الثاني نوفمبر 1984 الى كانون الثاني يناير 1985. واستخدمت فيها شركة طيران بلجيكية قامت ب 35 رحلة اسفرت عن نقل 6150 فرداً من الفالاشا. وحملت هذه العملية اسم "عملية موسى". واطلق على عملية التهجير الرابعة "عملية سبأ" واستخدمت فيها طائرات تابعة لسلاح الجو الاميركي من طراز "هيركيوليز سي - 130" هبطت واقلعت من مطار ترابي صغير في بلدة العزازة شرق السودان. وتمت العملية في 28 آذار مارس 1985، وكان ضمن هذه الدفعة الاخيرة الاستاذ الجامعي الذي تحدث الى "الوسط" مشترطاً عدم كشف اسمه. وقال ان الطائرات الاميركية اقلعت من العزازة وهبطت مباشرة في احد المطارات العسكرية الاسرائيلية في صحراء النقب. واكتسبت العملية الاخيرة اهمية خاصة لأنها شملت الكهنة وما يحملونه من كتب مقدسة لدى اليهود. وقدرت مصادر اثيوبية عدد الفالاشا قبل التهجير بنحو 83 الفاً. واكدت مصادر اسرائيلية ان عمليات التهجير الست أسفرت عن نقل 62 ألفاً الى اسرائيل. اما البقية الباقية منهم فهم من كبار السن والفقراء. الفالاشا في اسرائيل يتوزع معظم يهود الفالاشا في مدن حيفا والقدس وتل ابيب. واستوعب معظم اليهود المهجّرين في الجيش. ويعمل الآخرون في اعمال يدوية وهامشية كتحصيل تذاكر دخول مواقف السيارات العمومية واصلاح الحدائق وما الى ذلك. وسعت اسرائيل الى تأهيل 1500 منهم بإلحاقهم بالجامعات. ويعمل خمسة منهم مساعدي تدريس في الجامعة العبرية. غير انه على رغم ذلك فانهم يواجهون صعوبات جمة في الاندماج في المجتمع الاسرائيلي. كانوا يحلمون بأن "أرض الميعاد" ستحميهم من اضطهاد القوميات والطوائف الاثيوبية الأخرى لكنهم فوجئوا بتمييز عنصري ضدهم، بل واجههم كبار الحاخامات اليهود بالتشكيك في يهوديتهم. وازاء الانباء المزعجة التي ترد عن اوضاعهم في اسرائيل اعلنت حكومة رئيس الوزراء الاثيوبي ملس زيناوي ان عمليات تهجير الفالاشا كانت مجرد "صفقة تصدير" مواطنين اثيوبيين ابرمها نظام الرئيس السابق مانغستو هايلي مريام مع اسرائيل. واعلنت الحكومة في اديس ابابا ترحيبها بعودة الفالاشا الذين قالت انهم يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة. وقال مسؤول اثيوبي رفيع المستوى ل "الوسط" ان نحو 1500 من الفالاشا عادوا الى اثيوبيا على رغم ان السلطات الاسرائيلية رفضت منح المجندين تأشيرات خروج. واعرب كثير من كبار السن ممن بقوا في البلاد من يهود الفالاشا عن استيائهم من تجنيد ابنائهم وارغامهم على المشاركة في حروب على جبهات عدة. ويعتقد ان الاكثر حرصاً على العودة هم الكهنة الذين فقدوا نفوذهم السابق نتيجة وجودهم في المجتمع الاسرائيلي الذي لا يعرفهم جيداً. كما انهم شعروا بإهانة كبيرة عندما تمسك الحاخامات الاسرائيليون بضرورة تعميدهم من جديد قبل الايذان لهم بممارسات طقوس ديانتهم. غير ان اسرائيل تحاول من جانبها التغلب على كل العقبات التي يواجهها الفالاشا هناك. وادخلت نحو 50 من شبانهم في قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية. واعتذر رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو قبل بضعة اشهر لممثليهم عن الاهانات التي لحقت بهم في المؤسستين العسكرية والمدنية. ويتوقع المركز الاسرائيلي للدراسات الاستراتيجية ان يصل عددهم في اسرائيل بحلول العام 2010 الى 250 الفاً طوائف شبيهة بالفالاشا توجد في اثيوبيا طائفة اسمها "الكمانت" يعتقد بأنها يهودية الاصل، وملامح افرادها شديدة الشبه بالفالاشا، ويتكلمون اللغة نفسها التي يتحدثها يهود الفالاشا. غير انهم يؤمنون بوجود كائن اعلى، ويذهبون في اوقات معينة الى صخور محددة يتعبدون امامها. وهناك قبيلة اخرى منعزلة في الترانسفال، جنوب افريقيا وفي زيمبابوي تسمى "الفرمبا"، يُعتقد بأن لها صلة بالفالاشا، وتمارس طقوساً شديدة الشبه بطقوس اليهود ويتساءل المراقبون: هل ستفاجئ اسرائيل العالم مرة اخرى بكشف خطة لتهجير هاتين المجموعتين الى اسرائيل؟.