يقول أحد العارفين بطبيعة العلاقة القائمة بين رئيس الوزراء رفيق الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط أن العودة إلى شهر العسل الطويل مستحيلة وان الدفع في اتجاه الطلاق الكامل مكلف للاثنين، ولهذا اختارا ترميم العلاقة بينهما والعودة إلى قدر من التنسيق. وبعد أسابيع حفلت بالانتقادات الحادة في المجالس الخاصة نجح غازي العريض المستشار السياسي لجنبلاط في ترتيب جلسة مصارحة" بينهما يمكن أن تشكل أساساً لإعادة توحيد موقفيهما من الاستحقاقات المقبلة وبينها رئاسة الجمهورية وملفات أخرى. ولم يكن احد يظن قبل العام 1996 ان العلاقة المتينة والثابتة والعميقة التي سمّاها كثيرون حلفاً بين رئيس الحكومة رفيق الحريري والزعيم الدرزي الابرز رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وزير المهجرين وليد جنبلاط يمكن ان تسوء. إلا انها ساءت وبرز سوؤها الى العلن أواخر الصيف الماضي وبعد الإنتخابات النيابية. ومثلما كان جنبلاط قوياً في التعبير عن تحالفه مع الحريري وحاداً في الدفاع عنه، كان ايضاً قاسياً وحاداً في التعبير عن الخلاف معه. ويعود ذلك في شكل من الاشكال الى شخصية الزعيم الجنبلاطي التي لا تقبل الحلول الوسط الا على مضض أو مكرهة، ولا تجد نفسها مرتاحة الا عندما تعبر عن مواقفها وعواطفها وأفكارها بكل جرأة وصراحة، وان ادى ذلك الى إغضاب بعضهم والى افراح بعضهم الآخر حتى السعادة. وكان الاعلام في تلك الفترة مسرح الغضب الجنبلاطي على الحريري وأداة التعبير عنه، مثلما كان قبل ذلك مسرح الرضى عنه. وعزي انقلاب جنبلاط في حينه الى جملة اعتبارات من ابرزها وليس من اهمها لعبة انتخابية قام بها مؤيدو رئيس الحكومة في اقليم الخروب، وكان من نتائجها تفوق النائب والوزير في ذلك الوقت مروان حمادة على جنبلاط في عدد الاصوات التي نالها. ومعروف ان حمادة قام بأدوار عدة لمصلحة الزعيم الجنبلاطي منذ تعاطيه السياسة في صورة مباشرة ايام الرئيس الراحل الياس سركيس، نجح في معظمها في ترتيب العلاقة بينه وبين اكثر من جهة ومرجع في الداخل والخارج بسبب ديبلوماسيته. لكن المعروف ايضاً ان حمادة لم يكن يوماً عضواً في الحزب التقدمي الاشتراكي وان جنبلاط على رغم اعتماده عليه لم يعتبره من طاقمه الحزبي او السياسي. وبعدما ساءت العلاقة بين الحريري وجنبلاط لم يظن احد ان اعادة المياه الى مجاريها ممكنة بينهما، اولاً لأن الزعيم الجنبلاطي راح بعيداً وعلناً في هجومه وتهجمه على رئيس الحكومة بحيث لم يعد في استطاعته التكويع 180 درجة والعودة الى الموقع الذي كان فيه معه قبل الانتخابات وخلالها. وثانياً لأن الرئيس الحريري الذي تأذى كثيراً من جنبلاط لم يكن في امكانه تجاهل ما قاله في حقه، خصوصاً ان الناس واكبوا "قصائد المدح" يوم كانت العلاقة ممتازة لا بل تحالفية وكذلك "قصائد الهجاء" يوم ساءت. لكن عدم الظن لم يكن في محله، لأن اصدقاء مشتركين حاولوا ازالة سوء التفاهم او الخلاف للحؤول دون افادة اخصام الفريقين منه. وإذا كانوا لم ينجحوا في اعادة العلاقة الى سابق عهدها، إلا أنهم نجحوا اولاً في الغاء القطيعة التي تلت تردي العلاقة وثانياً في اعادة بعض الحرارة اليها. وقد يكون من اسباب نجاحهم التقاء الرؤية عند الحريري وجنبلاط في القضايا الوطنية العامة وفي القضايا الاستراتيجية، لا سيما المتعلقة بالمنطقة. الا ان نجاحهم الجزئي هذا بدا مهدداً في الآونة الاخيرة اذ عادت البرودة الى العلاقة بين الرجلين وعاد تبادل الانتقاد القاسي احياناً. وقد لمس الناس ذلك في آخر جلسات مجلس النواب المخصصة لمناقشة الحكومة اذ انتقد نائب الشوف واقليم الخروب وعضو "جبهة النضال الوطني" التي يتزعمها جنبلاط النائب وديع عقل الرئيس الحريري لعدم تقديم الحكومة المال اللازم لاستكمال اعادة المهجرين لا سيما الى الجبل. وهو ما كان ليفعل ذلك من دون ضوء اخضر من الزعيم الجنبلاطي. ولم يسكت الحريري على الانتقاد او على الهجوم فرد عليه محاولاً رمي الطابة في ملعب الكتلة النيابية التي يتزعمها جنبلاط باقتراح تسليم ملف المهجرين الى هذه الكتلة. طبعاً نشط الاصدقاء المشتركون من جديد لمنع الخلاف المتجدد من الاستعار، ويبدو انهم نجحوا في ذلك ربما لوجود قرار عند الحريري وجنبلاط بعدم التصعيد وتالياً بعدم الوصول الى القطيعة، لأكثر من سبب. لكن ما هي اسباب تجدد الخلاف بين رئيس الحكومة ووزير المهجرين؟ قبل الخوض في هذه الاسباب، يجيب العارفون، لا بد من الاشارة الى سبب جوهري حكم ولا يزال علاقات الزعيم الجنبلاطي ليس بالرئيس الحريري فحسب بل ايضاً برئيس الجمهورية الياس الهراوي ورئيس مجلس النواب نبيه بري فضلاً عن الجهات المعنية مباشرة لا سيما الاقليمية منها. ويتعلق هذا السبب بالنظام القائم في لبنان بتغيراته كلها وبالتركيبة السياسية الحاكمة وبالدور السياسي والوطني للطائفة الدرزية، واخيراً بدور الزعامة الابرز لهذه الطائفة التي مثلتها عن جدارة العائلة الجنبلاطية خصوصاً ايام الراحل كمال جنبلاط لا سيما بعد نشوب الحروب في لبنان ووفاة الزعيم الارسلاني الامير مجيد ارسلان وايام زعيمها الحالي وليد جنبلاط. وفي هذا المجال، يتابع العارفون، يعرف الجميع الدور السياسي الكبير الذي لعبه الدروز في جبل لبنان في النصف الثاني من القرن الماضي، وتحديداً بعد انتهاء الحرب الاهلية بين الدروز والموارنة في تلك المنطقة وقيام متصرفية الجبل التي استمرت حتى الحرب العالمية الاولى. فهذا الدور تقلص في لبنان الكبير بعد ضم الاقضية الاربعة اليه، اذ حل مكان الدروز في التركيبة الحاكمة المسلمون السنّة. وكان للمسلمين الشيعة موقعهم داخلها لكنهم في تلك الفترة كانوا لا يزالون في مرتبة سياسية ادنى لاعتبارات متنوعة. وقد حزّ هذا الامر في نفوس الدروز. لكن الزعيم الابرز فيهم كمال جنبلاط تمكن بشخصيته الفذّة وثقافته الواسعة وعلاقاته الخارجية الواسعة وبتقشفه، من جعل نفسه من الثوابت السياسية الاساسية في النظام والتركيبة الى درجة انه لُقّب بصانع رؤساء الجمهورية، خصوصاً بعدما عوّد المرشحين على "الخضوع لامتحانات رئاسية" عنده. الا ان ذلك لم يرض طموحاته فأراد نظاماً لبنانياً آخر وصيغة اخرى اقل طائفية، باعتبار ان الانظمة الطائفية تقلص دور طائفته كونها من الطوائف الصغرى عددياً، وعمل على تحقيقه بتحالفات داخلية وخارجية، الا ان حسابات الخارج كانت مختلفة عن حساباته، اذ انطلق من الغطاء الجنبلاطي والوطني لكن ليلغي بعد حين كل شيء محلي ويسير في تنفيذ استراتيجيته، فخسر جنبلاط بذلك الرهان وحلفاءه اللبنانيين، كما خسر اخصامه واعداءه اللبنانيين، اذ تدمر البلد وفقد استقلاله وسيادته ولا يزال ولم يقم فيه النظام المطلوب. وفي اثناء الحرب لا سيما بعد وفاة جنبلاط الاب، تمكن جنبلاط الابن بعدما قبل مبايعة الدروز الجنبلاطيين له زعيماً، من توحيد الدروز بقيادته وجعل دورهم في حجم ادوار الطوائف الكبرى. لكن الحرب انتهت من دون ان يتمكن جنبلاط من الاحتفاظ بموقعه المهم داخل النظام الجديد او داخل التركيبة الحاكمة. فهذا النظام الديموقراطي البرلماني الحر شكلاً لم يلغ الطائفية ولم يسع على الاقل منذ قيامه قبل زهاء سبع سنوات لإلغائها، وان تدريجاً. وعلى العكس من ذلك فقد فاقم المذهبية. وهو لم يستعد السيادة والاستقلال ولم يحقق المصالحة الوطنية. كما انه اثمر تركيبة سياسية غريبة اساسها "الترويكا"، اي رؤساء الجمهورية الماروني ومجلس النواب الشيعي ومجلس الوزراء السني وجعل منها حاكمة ولاغية للمؤسسات حتى للطوائف والمذاهب، خصوصاً بعدما اختصرها الرؤساء الثلاثة في أشخاصهم. وطبيعي ان لا يعجب هذا الوضع جنبلاط لأنه اضعفه، ولا يرضي الدروز لأنه حجَّمهم. وطبيعي في ظل هذه الاوضاع ان تكون استراتيجية الزعيم الدرزي التغيير وأن تكون تحالفاته السياسية تكتيكية تقتضيها المحافظة على مصالحه السياسية وعلى مصالح الدروز الامر الذي يجعلها قابلة للتصدع او للانهيار في كل لحظة. وفي هذا المجال يعتقد العارفون انفسهم بأن جنبلاط اليائس من النظام الحالي والتركيبة السياسية الحاكمة قد يكون "يترحم" على نظام ما قبل الحرب على رغم محاولة والده تغييره ورغم تأكده هو من مثالبه وثغراته، ربما لأن اصلاحه كان ممكناً، وهذا ما ليس متوافرا للنظام الحالي. اما اسباب تجدد الخلاف بين الحريري وجنبلاط فكثيرة. الا ان ابرزها في رأي العارفين اثنان: 1 - موضوع المهجرين، وفي هذا المجال يشكو الزعيم الدرزي منذ مدة طويلة من غياب الاموال التي تمكنه من استكمال عودة هؤلاء، ومن تحميله مسؤولية العودة الجزئية من اخصامه السياسيين ومن مراجع طائفية معينة، وهو طالب ولا يزال بالمبالغ اللازمة لإنجاز مهمته، لكنه لم يتسلمها على رغم الوعود الكثيرة. وولّد ذلك لديه شعوراً بأن رئيس الحكومة ربما لم "ينسَ" بعد انقلابه عليه علناً بعد الانتخابات النيابية الاخيرة. وبأن المرجعيات الاخرى لا تمانع في حشره وفي ابقائه في موقع الدفاع من خلال اثارة مواضيع عدة ابرزها افادة انصاره من اموال العودة اكثر من افادة المهجرين منها. 2 - عدم انتهاء "ازمة" شيخ عقل الطائفة الدرزية والمشاكل التي نتجت عنها. وفي هذا المجال يخشى جنبلاط ان يكون امتناع الرئيس الحريري عن متابعة تأييد موقفه على نحو كامل من هذه الازمة ناجماً عن عدم نسيانه انقلابه عليه قبل حوالي السنة. ويخشى ايضاً ان يكون يحاول تعزيز الجسور مع منافسة الدرزي الوزير الامير طلال ارسلان الذي له موقف مختلف عن موقف جنبلاط من "ازمة" مشيخة العقل. ويخشى اخيراً ان يساهم ذلك مع غض نظر اقليمي في تقليص حجم زعامته وفي اعادة ثنائية الزعامة الى الطائفة الدرزية. وفي اي حال، يلفت العارفون، الى أن الزعامة الجنبلاطية كانت دائماً عقدة اساسية في الحياة السياسية اللبنانية. وكانت لها، مثل سائر الزعامات اللبنانية، تأثيراتها في هذه الحياة الايجابية احياناً والسلبية احياناً اخرى. لكن هذه الزعامة لا تزال مع زعامات اخرى، تظن ان جهات عدة داخلية وخارجية تعمل لتطبيق مشروع في لبنان يرمي الى القضاء على الزعامات السياسية والاقطاعية، وهي تعرف ان الناس قد لا يرفضون مشروعاً من هذا النوع. لكنها تعرف ايضاً ان الناس قد يتمسكون بزعاماتهم "التقليدية" اذا رأوا ان المشروع المذكور لن يفرز قيادات وزعامات تهتم بهم وبمصالحهم وتمثلهم خير تمثيل، بل سيفرز منفذين لجهات معينة داخلية وخارجية. ويبدو ان اتكالها هو على هذه المعرفة.