منذ سنوات عدة، وخصوصاً منذ انهيار المعسكر الاشتراكي في 1992 تتردد الفاظ ومصطلحات ومفاهيم، مثل العولمة، الكوكبة، نهاية التاريخ، صراع الحضارات، العالم قرية. فالغرب يبدع المصلطحات ونحن نشرحها ونهمّش عليها، يروج لها بعضهم، وينقدها بعضهم الآخر حتى اصبحنا ندور في فلك الغرب المعرفي ونحن نحاول الفكاك منه. ومعظمها مفاهيم تشرّع لانتصار الرأسمالية بمفاهيم جديدة، تعبر عن نظام العالم ذي القطب الواحد بعدما انتهى نظام العالم ذو القطبين، تؤكد وحدته باسم النظام العالمي الجديد احادي القطب والنظرة والاتجاه، لا بديل عنه، ولا خيار دونه. مفهوم العولمة المقصود منه اعطاء الغطاء النظري البريء لاقتصاد السوق، ولمجموعة الدول الصناعية السبع، وللشركات المتعددة الجنسيات من اجل فتح اسواق العالم امام الصناعات الغربية بدعوى المنافسة والانفتاح، وتشجيع الدول الاقل نموا على التنمية والدخول في مضمار التسابق نحو الاسواق. فهل يمكن ان تتم العولمة بين اطراف غير متكافئة في مستوى التصنيع والاهتمامات وربما في المراحل التاريخية؟ هل يمكن ان تدخل شعوب العالم الثالث الاقل نموا، في منافسة مع الدول الصناعية السبع من اجل الاستيلاء على الاسواق ام ان ذلك سيكون لمصلحة الكبير على حساب الصغير؟ وهل الاهتمامات واحدة والمصالح واحدة بين من يود تصدير فائض المنتجات ومن يحاول الدفاع عن صناعاته الوطنية؟ وهل المرحلة التاريخية واحدة بين الغرب وشعوب العالم الثالث؟ لقد قتل حوالي مليون من البشر في رواندا بين قبائل الهوتو والتوتسي في خلاف عرقي لا شأن له باقتصاد السوق، ويدافع شعب فلسطين عن حقه في ارضه واستقلاله ولا شأن لذلك بتصريف المنتجات وحرية الاسواق، كما تعبر العولمة عن رغبة المجتمعات المستقرة سياسيا في النهضة اقتصاديا من اجل السيطرة على الخارج بعد الاستقرار على طبيعة النظام في الداخل. في حين ان المجتمعات في افريقيا واسيا مازالت تناضل للاستقرار سياسيا والتنمية الاقتصادية في آن واحد، والنضال من أجل حرية الفرد، وديموقراطية الحكم لا يقل اهمية عن النضال من اجل التنمية والتصنيع. تشترط العولمة فتح الحدود الوطنية للدول، وفتح الاسواق وتوقيع اتفاقية الغات، والا منع عنها البنك الدولي المعونات المالية، وحرمتها الدول الكبرى من المعونات السنوية التي تبلغ بالنسبة إلى مصر من اميركا 1،2 مليار دولار سنوياً. وتشترط الاصلاح الاقتصادي بمعنى الخصخصة، ورفع الدولة يدها عن مظاهر السيادة الوطنية مثل البنك المركزي، والتخطيط الاقتصادي في وقت تدافع الشعوب في افريقيا واسيا عن الاستقلال الوطني الذي حصلت عليه بعد نضال طويل في الخمسينات والستينات وبدأت تتعثر في المحافظة عليه في السبعينات والثمانينات حتى تأزمت الامور في التسعينات بسقوط النظام الاشتراكي الذي كان حليفا طبيعيا في عصر حركات التحرر الوطني. الشرط هو التخلي عن فكرة الدولة الوطنية والدولة القومية والتجمعات الاقليمية لمصلحة اقتصاد السوق العالمي. وتصبح الدولة الوطنية محاصرة في الخارج من النظام العالمي، ومن الداخل من حركات المعارضة، الوطنية والقومية والدينية. وفي الوقت الذي يتم تجميع القوى الصناعية الكبرى في القمة، والشركات العابرة للقارات، والمنظمات الدولية، والمؤسسات المالية العالمية، وثورة المعلومات وتركيز مراكزها في الغرب الصناعي، واستعمال المنظمات الدولية لحساب الدول الكبرى كما تفعل اميركا مع الاممالمتحدة ومنظماتها، يتم تفتيت القاعدة، وتجزئة الدول باسم القوميات العرقية والطوائف والاقليمية، يحدث ذلك في الاتحاد السوفياتي السابق وتهديد ما تبقى منه في روسيا بالتفتيت والتجزئة والدويلات المستقلة في البلطيق وجورجيا واذربيجان، والشيشان، وتفتيت دول البلقان، يوغوسلافيا، ومخاطر تجزئة الهند بالصراعات الطائفية وباكستان بالصراعات العرقية، وتفتيت العراق بين الشمال الكردي والجنوب الشيعي والوسط السني، وتجزئة السودان بين الجنوب والشمال والمعارضة والنظام، واشتعال مشاكل الاقليات في المغرب العربي. وفي الوقت الذي لا تسمح الدولة الوطنية باختراق حدود سيادتها والتفريط في ارادتها فانها تهدد بالحصار، مثل ليبيا، او بالغزو، مثل ايران، او بالحصار والمناورات العسكرية على حدودها من اعدائها، مثل المناورات العسكرية الاسرائيلية التركية على حدود سوريا، او بتهديد اسرائيل المستمر لجيرانها بالغزو والاحتلال. على كل الدول ان تدخل بيت الطاعة، ونظام العولمة هو الشكل الجديد للهيمنة الاقتصادية والسياسية والاعلامية. ويعود العالم على نحو خفي الى عصر الاستقطاب، من يقبل ان يكون جزءا من العولمة والعالم ذي القطب الواحد، ومن يرفض حفاظا على استقلاله الوطني وابقاء لاستقطاب جديد، بين الفقراء والاغنياء، بين الاطراف والمركز، فالعولمة في الحقيقة هي احد الاشكال الجديدة للاستقطاب بين المركز والمحيط، بين الشمال والجنوب لكن على المستوى الرأسي وليس على المستوى الافقي. المركز في القمة، مجموعة الدول السبع، والاطراف في القاعدة، الدول المستهلكة. ان العالم لا يسير بنظام واحد بل بنظامين، يتحدى كل منهما الاخر سلما وفكرا ونموذجا ومُثلا وليس بالضرورة عن طريق الحرب الباردة. والعرب والمسلمون هم المؤهلون حاليا للقيام بهذا الدور البديل للنظام العالمي ذي القطب الواحد. لذلك يتم التركيز عليهم بالحصار في الخارج والتفتيت في الداخل. فهل يقبل العرب التحدي؟ وهل يجد المعسكر الشرقي نفسه من جديد في تحالف مع هذا التحدي الجديد حتى يعيد اكتشاف ذاته، ويبقى على تواصله في التاريخ؟ .