يثير الاهتمام الاقليمي والدولي بنتائج الانتخابات الايرانية دهشة القيادة الايرانية التي تعتبره تدخلاً في شؤونها و"شيطنة" ينبغي الاحتراز منها والالتفات الى مخاطرها. وإذا كانت طهران دعت نحو 200 صحافي اجنبي بينهم مراسلو محطة "سي. ان. ان" وعدد كبير من النساء لتغطية المؤتمر الصحافي للرئيس المنتخب محمد خاتمي، فإن القيادة الايرانية ظلت تعتبر الاهتمام الاعلامي الخارجي، وتحديداً الغربي، بنتائج الانتخابات "محاولة لنشر السموم واثارة الضغائن والخلافات" في المجتمع الايراني عبر التحدث عن "الاصلاح والتغيير" المرتقبين في ضوء الاجماع على انتخاب محمد خاتمي في مقابل مرشح التيار الديني المحافظ ناطق نوري. لقد أسفرت الانتخابات الايرانية عن حقيقة ان الرئيس المنتخب خاتمي يظل أحد خيارات النظام من واقع ان مجلس الوصاية "صيانة الدستور" المتشدد في مطابقة أهلية المرشحين مع نصوص الدستور الايراني الذي أقر بغالبية الأصوات قبل أقل من عام على انتصار الثورة الاسلامية وسقوط نظام الشاه العام 1979 سمح لخاتمي بالترشيح وأيد بذلك تدينه والتزامه بالدستور، خصوصاً التابعية المطلقة لمبدأ ولاية الفقيه وأساسيات النظام الاسلامي القائمة على هذه التابعية. وربما لا يعرف الكثيرون ان الايرانيين سريعو التأثر بالاعلام الأجنبي، ومن هنا فإن بعض مفردات هذا الاعلام ساهمت بشكل غير مباشر في ترجيح كفة خاتمي على منافسه نوري، الأمر الذي جعل الأجنحة الرسمية التي تنافست بشدة اثناء الانتخابات تعلن الاصطفاف خلف خامنئي الذي دعا بعد ساعات من ظهور النتائج الأولية الى دعم خاتمي في مهمته الجديدة. اما رئيس البرلمان الذي قبل خسارته بروح رياضية فبادر الى تهنئة خاتمي وتعهد بالتعاون معه، في وقت اكدت مصادر برلمانية لپ"الوسط" ان غالبية أعضاء البرلمان الذي يسيطر عليه المحافظون من أنصار نوري سيمنحون الثقة للحكومة الجديدة التي ينوي خاتمي تشكيلها بعد تسلمه الرئاسة عملياً من الولي الفقيه في 3 آب اغسطس المقبل. ويدرس الجناح الديني المحافظ اليمين الذي خسر الانتخابات نتائج الانتخابات للاتعاظ وكسب العبر، كما قال قيادي بارز من رابطة علماء الدين المجاهدين "روحانيت" لپ"الوسط" الذي اكد ان الجماعة وإن كانت باركت لخاتمي انتصاره الساحق وأعلنت استعدادها تذليل الصعوبات امامه خصوصاً في البرلمان، فهي اصيبت بالذهول لأن من وقف خلف نوري كان المؤسسة الدينية الرسمية وكبار المراجع الدينيين في حوزة قم ومشهد وطهران وعدد كبير من الوزراء والشخصيات والزعماء السياسيين والدينيين، حتى ان الجماعة المنافسة التي دعمت خاتمي، جماعة علماء الدين المناضلين "روحانيون"، دخلت في معركة اعلامية مفتوحة مع الاذاعة والتلفزيون الخاضعين لاشراف الولي الفقيه واتهمتهما بالانحياز الى جانب نوري. والسؤال المثير هو كيف حصل ما حصل ولماذا لم يفلح نوري بالفوز على رغم الدعم والتأييد والدعاية الواسعة ووقوف المؤسسة الدينية الرسمية ورموز معروفة في حقل المرجعية الدينية الى جانبه؟ واللافت ايضاً ان مدينة مشهد التي شهدت تعرض أنصار "حزب الله" لخاتمي وتفتيش مجلسه الانتخابي في احد المساجد الكبيرة قبل الانتخابات، وكانت كل الدلائل فيها تشير الى انها ستكون مغلقة لمصلحة نوري منحت نحو 75 في المئة من أصوات الناخبين فيها لخاتمي، مثلما نقلت اوساط قريبة من صحيفة "سلام". لقد اصطف الى جانب خاتمي في حملته الانتخابية الأجنحة والتيارات الآتية: 1 - "روحانيون"، جماعة علماء الدين المجاهدين بزعامة الرئيس السابق للبرلمان مهدي كروبي. 2 - تحالف التنظيمات السائرة خلف خط الامام الخميني الراحل ومنها منظمة "مجاهدو الثورة الاسلامية" ومكتب تعزيز الوحدة. 3 - كوادر البناء "أنصار نهج البناء" العاملين في طاقم الرئيس رفسنجاني ومنهم ابنة الرئيس النائبة فائزة هاشمي، وهي مرشحة لتسلم حقيبة وزارية. 4 - المستقلون من التكنوقراط ورجال الدين. 5 - المعارضة المدنية من الأحزاب والتنظيمات القومية - الاسلامية المحظورة كحركة "تحرير ايران الليبرالية" بزعامة ايراهيم يزدي وأنصارها. 6 - اللامبالون من الذين اداروا ظهرهم للتفاعل مع النظام لكنهم لم يقفوا ضده، وهؤلاء انسحبوا لأسباب عدة من المشاركة في الفعاليات السياسية الايرانية كالانتخابات، لكنهم شاركوا في الانتخابات الأخيرة بعدما جذبهم الخطاب الانتخابي لخاتمي. 7 - دعاة التغيير المطالبون بالاصلاح الاجتماعي وهؤلاء وإن كان عدد كبير منهم يتوزع على الأجنحة الموالية للنظام إلا ان بعضهم يطالب بتغيرات اوسع ويتوقون الى وضع خاتمي في خانة التيار الليبرالي وينتظرون منه تغييرات جذرية. 8 - وأخيراً فإن نصف المجتمع الايراني تشكله شريحة الشباب تحت سن ال 18 عاماً اضافة الى النساء، وهؤلاء جذبهم برنامج خاتمي واصطلاحاته التي ركزت عليها، من قبيل التعددية السياسية والفكرية، كشرط يسبق التنمية الاقتصادية، اضافة الى اهتمامه الخاص بمشاركة المرأة في الادارة والحكم. لكن البعض ممن أدلوا بأصواتهم لخاتمي ويطالبون باصلاحات أوسع من اطار النظام الاسلامي سيصابون بالاحباط عندما يكتشفون ان كلام خاتمي في أول مؤتمر صحافي عقده اثر انتخابه وتأكيده انه احد خيارات النظام المقبولة، لم يكن شعاراً انتخابياً لذر الرماد في عيون زعماء المؤسسة الدينية وارضاء الولي الفقيه الذي بدا مرتاحاً جداً الاربعاء الماضي وهو يستقبل أعضاء البرلمان ويحثهم على التعاون مع خاتمي مؤيداً ما يريد فعله الرئيس المنتخب حول حاكمية القانون واشاعة التعددية الفكرية والسياسية. ويريد الرئيس المنتخب وهو من رجال المؤسسة الدينية ويرفض "اتهامه" بالليبرالية احياء المجتمع المدني في ايران على اساس الدين، ويقول انه يسعى الى انشاء مجتمع مدني ديني يختلف عما يريده الغرب، ويرى ان التدين اي الالتزام بالدين كان العامل الأساس في انتصار الثورة الاسلامية العام 1979. وفي هذا الواقع يرفض خاتمي، كما يقول، التوزير وتسلم المراكز القيادية في النظام على أساس الولاء الحزبي وتقاطعات الأجنحة السياسية، ويصر على ان يشكل حكومته المقبلة من المتخصصين من دون الالتفات الى معايير "الجناح والجنس" اي ان الأنوثة والذكورة ليست مطروحة أمامه. ويكشف انه يدرس خياراً لتوزير سيدة ويقول ان الدستور لا يعارض تسلم المرأة مناصب قيادية وادارية في ايران. ومن أولويات السياسة الداخلية للرئيس الجديد انتشار الأمن السياسي والاجتماعي، وهو يقول في هذا الصدد ان للفرد حرمة ويجب احترام آرائه وأفكاره "وأتطلع الى ان تكون المطالبة بالحقوق والحريات الفكرية والسياسية الفردية والاجتماعية في اطار القانون". حاكمية القانون ويستعير خاتمي من نهج الامام الخميني الراحل الذي ينتسب اليه تأكيد حاكمية القانون، ويقول انه يتعهد تطبيق الدستور كأهم وظائف رئيس الجمهورية في مقابل الولي الفقيه الذي يمتلك صلاحيات مطلقة منها كما ورد في المادة 110 اقالة الرئيس من منصبه، وهذه حقيقة يدركها ويلتزمها خاتمي مع غيره ممن تولى الرئاسة بعد ابو الحسن بني صدر. وفي خطاب خامنئي له غداة الانتصار في الانتخابات ذكّر الولي الفقيه بأسلوب سلفه الخميني بأن هذه الأصوات 20 مليوناً من أصل 29 مليون ناخب "هبة الهية يجب الالتفات اليها لأن الامام الخميني فعل الشيء نفسه مع أول رئيس منتخب حصل على 11 مليون صوت عندما قال الامام لبني صدر في مستشفى القلب "الدنيا رأس كل خطيئة". وقال مقربون منه ان خاتمي ادرك المغزى ولذلك قال في أول تصريحاته ان الپ20 مليون صوت ستزيد من ثقل مسؤولياته أمام الشعب والولي الفقيه. ويبدو ان القيادات الايرانية الدينية والسياسية تلقفت رسالة الانتخابات الأخيرة وهي بمختلف اجنحتها من يمين ديني محافظ الى يسار ديني متشدد تتعاطى مع النتائج على أساس انها انتصار للنظام في خياراته المتعددة. والمراقب لخطاب خامنئي بعد يوم واحد من المؤتمر الصحافي لخاتمي يجد ان الولي الفقيه سيدعم التغييرات التي ينوي خاتمي احداثها في المجتمع الايراني وستنحصر في اطار النظام ولن تخرج عن الدستور. وسيعمل خاتمي قبل كل شيء، كما ينقل المقربون عنه، على احداث نقلة نوعية في المسائل الأمنية داخل البلاد. وعلم على هذا الصعيد انه سيوفر أسس عمل آمنة للصحافة تجعلها تمارس النقد بحرية من دون خوف شرط التزام كليات النظام. تجارب رفسنجاني وسيستفيد خاتمي، مثلما ينقل المقربون عنه، من تجارب سلفه رفسنجاني ونجاحه واخفاقه لتطوير علاقات ايران الاقليمية والدولية، ويضع في الأولويات تطوير علاقات ايران العربية بدءاً من الدول المجاورة في الخليج. وإذا كان رفسنجاني اعترف بأن أكثر الوقائع مرارة خلال رئاسته الطويلة 8 سنوات هي اخفاقه في تطوير العلاقات مع الدول العربية وتحديداً مع الجيران في الخليج فإن خاتمي سيبدأ من الجيران، لذلك اطلق شعاره بصوت قوي وقال انه يرفض الحلول العسكرية وسياسة احتلال الأراضي لحل الخلافات. معتبراً ان المفاوضات المباشرة ولغة الحوار البناء المسبوقة بالصبر وحسن النية المتبادلة يجب ان تؤدي الى نتائج عملية ومثمرة لحل الخلافات بين دول المنطقة. وقال خاتمي ان ايران ستدافع عن سيادة الدول على أراضيها في المنطقة، وعلى رغم انه كان يشير الى العراق والعملية التركية الأخيرة إلا ان الواضح في طريقة تفكيره وأسلوبه التي استخدمها في حقل الثقافة وهي عنده أخطر بكثير من حقل السياسة المتعرج، انه ينتظر ان يقابله الآخرون بالروح نفسها "إذا كانوا جادين بالفعل في تطوير العلاقات مع ايران لمصلحة الأمن الاقليمي". وتعتبر ايران، كما قال رفسنجاني، ان أزمة الجزر هي من مخلفات الماضي لأن هذه الأزمة ترجع الى العام 1971 عبر الاتفاق الذي وقعته ايران مع امارة الشارقة لتنظيم الادارة في جزيرة ابو موسى بعدما كان شاه ايران انزل قواته بالاتفاق مع بريطانيا في جزيرتي طنب الصغرى والكبرى. لكن خاتمي لا يملك خياراً غير ان يقول ان الجزر ايرانية، إلا انه وعبر ما يؤمن به من أساليب حل الخلافات فإنه يدعو الامارات الى الحوار لحل هذا الخلاف وينصح ان يكون هذا الحوار ثنائياً ومباشراً من دون ان تتدخل فيه قوى اقليمية او دولية. وسألت "الوسط" احد مساعديه على أي شيء يقوم الحوار وانتم اغلقتم الباب بقولكم ان الجزر ايرانية فأجاب: "وبماذا تريد ان يرد خاتمي وهو مطالب بأن يتبنى موقفاً رسمياً يقبله المرشد؟". وأضاف ان لخاتمي مشروعاً لحل هذه الأزمة لن يتحقق من دون الحوار ومن دون الجلوس الى مائدة المفاوضات. وذكر ان خاتمي شعر بارتياح كبير لدى تلقيه اولى برقيات التهنئة من العاهل السعودي الملك فهد بن عبدالعزيز والثانية من أمير دولة الكويت في يوم اعلان النتائج، وتبعتها الثالثة من أمير دولة قطر. وأكد المقربون من الرئيس الايراني المنتخب انه يتوقع ان تشهد العلاقات الايرانية - الخليجية تطوراً ملموساً لأنها في مقدم اولويات سياسته الخارجية، وهو يأمل عدم اثارة العراقيل أمامه وينتظر استئناف المفاوضات مع الامارات للبحث في أزمة الجزر. اما في شأن عملية التسوية في الشرق الأوسط التي تثير عقبات دولية امام ايران فإن خاتمي ينظر اليها من زاوية ابداء الرأي فقط حول ما يرى انه حق او باطل من دون التدخل المباشر بهذه العملية التي يقول انها ناقصة وأنه يوكل أمرها الى الشعب الفلسطيني والدول العربية المعنية. وسيدعم سورية ولبنان ويضع العلاقة معهما في أول السلم رافضاً الاعتراف باسرائيل لأنها، حسب رأيه، "دولة عنصرية ومحتلة تمارس الهيمنة على المسلمين والمسيحيين واليهود". ايران وأميركا وربما نسي الكثيرون ان خاتمي هو أحد اعضاء اللجنة المركزية لجماعة علماء الدين المجاهدين "روحانيون" التي ترفض مجرد الحوار مع الولاياتالمتحدة، وتنظر الى العلاقة معها بمنظار الامام الخميني الراحل الذي كان يصف هذه العلاقة بأنها تشبه علاقة الحمل بالذئب. وهذه الجماعة ساندته في الانتخابات وكذلك فعل انصار نهج البناء ومنهم القطب البارز عطاء الله مهاجراني صاحب نظرية "الحوار المباشر" مع الولاياتالمتحدة. ولكي يجمع خاتمي بين الرأيين المتناقضين ويلتزم أساساً الخطوط العامة للسياسة الخارجية التي يرسمها الولي الفقيه، القى الكرة في الملعب الأميركي، وقال ان مفتاح الأزمة التي اثارتها الولاياتالمتحدة بانتهاج سياسة معادية ضد ايران هي بيد الادارة الأميركية التي عليها ان تغير سلوكها تجاه ايران. وتابع: "للأسف لم نشاهد أي تغيير في السلوك الأميركي المعادي لايران". ولهذا يستبعد خاتمي اي تغيير في العلاقة بين ايران وأميركا. لكن ما يميز خاتمي عن غيره انه لا يرفض في المطلق اعادة العلاقات مع الولاياتالمتحدة، وهو يؤمن بفتح باب الحوار الفكري "الانتقادي" على مصراعيه حتى مع الأميركيين "لأن علماء الفكر والثقافة يضعون نصب اعينهم مصالح المجتمع البشري على عكس السياسيين المحترفين"، ويستنتج خاتمي الذي اطلق المقولة السابقة ان نتيجة الحوار الانتقادي الفكري والثقافي توصل الى التعايش السلمي بين الحضارات المختلفة خلافاً لما يراه هانتيغتون في نظريته حول المواجهة بين الحضارات. ولذلك يمكن ان يطرح نظريته التي أثارت حفيظة "أنصار حزب الله" فاتهموه بالليبرالية ومعارضة نهج ولاية الفقيه. ويقول في هذه النظرية ان ايران عليها الابتعاد مهما امكن عن التورط في اثارة الازمات الاقليمية والدولية. هل ستقابل أفكار خاتمي حول العلاقات مع الدول ترحيباً لنقلها الى أرض الواقع، بعدما كانت في الخطاب الانتخابي؟ ام ان الرئيس الايراني الجديد سيواجه ما واجهه رفسنجاني الذي انهى أزمة الرهائن الغربيين وأراد تأسيس دولة اسلامية عصرية مستقلة في عالم متغير لا يفكر إلا بالمصالح؟ السنوات الأربع المقبلة ستعطي الاجابة على هذا السؤال الذي ما زال انصار التشدد يردون عليه بالنفي .