رحلة نفسيّة في السفر الجوّي    العمل عن بُعد في المستقبل!    العلاقات السعودية الأمريكية.. استثمار 100 عام!    أميركا خارج اتفاقية «باريس للمناخ»    السواحه: المملكة تقود التحول نحو اقتصاد الابتكار بإنجازات نوعية في الذكاء الاصطناعي والتقنية    ما أحسنّي ضيف وما أخسّني مضيّف    السياسة وعلم النفس!    غزة.. لم يتبق شيء    رئاسة على صفيح ساخن:هل ينجح جوزيف عون في إنقاذ لبنان    "خالد بن سلطان الفيصل" يشارك في رالي حائل 2025    كل التساؤلات تستهدف الهلال!    أمانة جدة تضبط 3 أطنان من التبغ و2200 منتج منتهي الصلاحية    الثنائية تطاردنا    تاريخ محفوظ لوطن محظوظ برجاله..    تمديد فترة استقبال المشاركات في معسكر الابتكار الإعلامي «Saudi MIB» حتى 1 فبراير 2025    أعطته (كليتها) فتزوج صديقتها !    نقل العلوم والمعرفة والحضارات    خلال زيارته الرسمية.. وزير الخارجية يلتقي عدداً من القيادات اللبنانية    وزير الخارجية يلتقي رئيس وزراء لبنان المكلف    قرار في الهلال بشأن عروض تمبكتي    «حرس الحدود» بجازان ينقذ مواطناً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    أمير منطقة جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة فيفا    وزير الصناعة والثروة المعدنية يفتتح المؤتمر الدولي ال 12 لتطبيقات الإشعاع والنظائر المشعة الأحد القادم    مانشستر سيتي: مرموش كان بمقدوره تمثيل منتخب كندا ويعتبر محمد صلاح قدوته    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيس منغوليا في وفاة الرئيس السابق    نائب وزير البيئة والمياه والزراعة يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تمديد خدمته ل4 سنوات    سرد على شذى عطر أزرق بمقهى "أسمار" الشريك الأدبي في أحد المسارحة    «حرس الحدود» بعسير يحبط تهريب 795 كيلوغراماً من القات    هيئة الفروسية تناقش مستقبل البولو مع رئيس الاتحاد الدولي    فعالية "اِلتِقاء" تعود بنسختها الثانية لتعزيز التبادل الثقافي بين المملكة والبرازيل    إنجازات سعود الطبية في علاج السكتة الدماغية خلال 2024    فرص تطوعية إسعافية لخدمة زوار المسجد النبوي    وصول الطائرة الإغاثية السعودية الثانية عشرة لمساعدة الشعب السوري    ترمب يعيد تصنيف الحوثيين "منظمة إرهابية أجنبية"    هطول أمطار متفاوتة الغزارة على معظم مناطق المملكة.. ابتداءً من اليوم وحتى الاثنين    ولي العهد للرئيس الأمريكي: توسيع استثمارات السعودية مع الولايات المتحدة ب 600 مليار دولار    اتحاد بنزيما «شباب وعميد»    مجلس أكاديمية الإعلام يناقش الأهداف الإستراتيجية    1000 معتمر وزائر من 66 دولة هذا العام.. ضيوف» برنامج خادم الحرمين» يتوافدون إلى المدينة المنورة    أفراح آل حسين والجحدلي بزواج ريان    أمير الشرقية يستقبل الفائزين من "ثقافة وفنون" الدمام    السعودية تدين وتستنكر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالسويدي ينهي معاناة مراجع مع مضاعفات عملية تحويل المسار بجراحة تصحيحية نادرة ومعقدة    وصية المؤسس لولي عهده    القيادة تعزي الرئيس التركي في ضحايا حريق منتجع بولو    ندوة الإرجاف    المجتمع السعودي والقيم الإنسانية    ثقافة الابتسامة    وزير العدل يلتقي السفير الصيني    سليمان المنديل.. أخ عزيز فقدناه    الدرونز بين التقنية والإثارة الرياضية    نموذج الرعاية الصحية.. الأثر والرعاية الشاملة !    مستشفى الملك فهد الجامعي يجدد اعتماد «CBAHI» للمرة الرابعة    فرص للاستثمار بالقطاع الرياضي بالمنطقة الشرقية    "ملتقى القصة" يقدم تجربة إبداعية ويحتضن الكُتّاب    اختتام المخيم الكشفي التخصصي على مستوى المملكة بتعليم جازان    رابطة العالم الإسلامي تعزي تركيا في ضحايا الحريق بمنتجع بولاية بولو    وفد "الشورى" يستعرض دور المجلس في التنمية الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاعر "الريادة الثانية" لقصيدة النثر لا يزال في طريقه إلى "مدينة أين". سركون بولص ل "الوسط": كم غريب أن للكلمات هذا الوقع !
نشر في الحياة يوم 28 - 04 - 1997

خرج سركون بولص من عزلته الأميركيّة متأخّراً، ليحتل موقعه في "الريادة الثانية" لقصيدة النثر، وكان صدور مجموعته الأولى "الوصول إلى مدينة أين" 1985 حدثاً شعريّاً، ومنعطفاً في تاريخ تلك القصيدة. ثم تتالت مجموعاته لتمدّ بنفس جديد الاتجاه الذي بدأ بالتبلور في أواسط السبعينات، كتعبير حي، متحرك بين الجغرافيات، هو الأكثر راديكالية في الكتابة الشعرية العربية. كيف ينظر هذا المتسكّع الأبدي بين المدن واللغات والعصور بين الداخل والخارج، هذا المسترسل في تأمل المجرى وحركة الأشياء، إلى تجربة الاغتراب والكتابة؟ وما جذور تلك الحيرة الوجودية التي تحكم لديه العلاقة بين الحياة والقصيدة؟ "الوسط" إلتقت ذاك الدرويش الذي لا يبدو متطلباً من الخارج قدر تطلبه من نفسه، وكان الحديث عن جيل الستينات والحياة الأدبية في بغداد، عن اكتشافه لحركة البتنيكس وأثر الشعر الأميركي عليه، وعن عذاب العودة الشائكة إلى الشرق...
تجربة سركون بولص في الكتابة الشعرية لها تأثيرها ليس فقط على قراء القصيدة الحديثة، وإنما أيضاً على عدد من الشعراء الجدد من جيل التسعينات على وجه التحديد. وهي تجربة مثيرة للجدل في أوساط مجايليه وأوساط الشعراء الذين بدأوا في الظهور مطلع الثمانينات. والشاعر الذي غادر العراق في أعقاب الستينات، لم يجمع شعره في دواوين إلا ابتداءً من أواسط الثمانينات، أي بعد مرور سنوات على ظهور ريادة جديدة في قصيدة النثر ستشكّل مفترق طرق أساسيّاً، لا مفرّّ لمن سيخوض غمار الكتابة الشعريّة بعد ذلك من أخذه بعين الاعتبار .
خرج سركون بولص من عزلته الأميركيّة متأخّراً، ليحتل موقعه في "الريادة الثانية" لقصيدة النثر. وكان صدور مجموعته الأولى "الوصول إلى مدينة أين" سنة 1985 حدثاً شعريّاً، ومنعطفاً في تاريخ تلك القصيدة. ثم تتالت مجموعاته: "الحياة قرب الاوكروبول" 1988، "الأول والتالي" 1992، "حامل الفانوس في ليل الذئاب" 1996. هكذا التحقت تجربته الخاصة، ذات النكهة الخاصة والفضاء المتشكل بعيداً في أميركا، بال "الاغواء الشعري الجديد" الذي بدأ بالتبلور منذ أواسط السبعينات، كتعبير حي، متحرك بين الجغرافيات، لاتجاه هو الأكثر راديكالية في الكتابة الشعرية العربية.
لم يضمّن سركون بولص مجموعاته هذه أيّاً من شعره القديم المنشور في "شعر" و"مواقف". ولعلّه أدرك أن "زمن" هذا الشعر بموضوعاته وأخيلته وكيميائه وما ينهض عليه من مقومات فنية، أصبح بعيداً عن ذائقة الحاضر، فضلاً عن أن شاعره نفسه يبدو قلقاً ومتمرداً على صنيعه الفني أكثر منه راضياً به أو مطمئناً إليه. وهناك شاعر آخر يشترك معه في مفارقة الانتماء إلى جيل لاحق عليه، إنّه عباس بيضون الذي أصدر مجموعته الشعرية الأولى "الوقت بجرعات كبيرة" في العام 1982. لكن بيضون في بيروت كان أقرب إلى مسرح حركة الشعر، وأكثر نشاطاً، وبالتالي تأثيراً في الشعراء اللاحقين عليه من سركون بولص الذي ظلّ يتنقل قلقاً بين أميركا وأوروبا، من دون أن ينعم بالاستقرار في مكان.
أما "الاغواء" الذي مارسه بولص على الشعر العربي، فيجد نسغه ومادته أساساً في قصائد كتابه الأول. ف "الوصول إلى مدينة أين" لا يزال، على رغم صدور المجموعات اللاحقة، الكتاب الذي يستحضر من خلاله الشاعر. وهذه الظاهرة لها دلالات عدّة، نتوقّف بينها عند التمسّك بالصورة الأولى لمن نحب. كما أن هذه النظرة القسريّة، الاختزاليّة، تفضح عجزاً عن مواكبة التطور الذي تستبطنه التجربة الشعريّة، وعن استيعاب مواطن الاختلاف ونقاط التحوّل فيها.
سركون بولص شخصية هادئة، إلى درجة يبدو معها مستسلماً إلى تأمل المجرى وحركة الأشياء في سيرورتها الموضوعية. وقد يوهم مسلكه بالقعود والتراخي، وربما الكسل، لكن شخصيته الشعرية متقدة، حيوية، وانقلابية أيضاً. والنقاش معه حول الشعر يمضي من طبقة إلى أخرى في تجربته، ومن مستوى إلى آخر في المسارب الخفية لكتاباته. كأن علاقته بالقصيدة تبلغ درجة التصوف والانقطاع، بكل ما ينتج عن ذلك من انكشاف ل "مصادر النعمة"، يحرض على اخفائها بغية التلذذ بأسرارها، وصون هذه الأسرار لتكون مفاتيح لا يمكن العثور عليها إلا في القصائد نفسها، ولا يفلح في تحقيق ذلك إلا العارفون وحدهم. ذلك على الارجح من شأنه أن يحول الشاعر إلى درويش لا يبدو متطلباً من الخارج قدر تطلبه من نفسه.
ذات يوم وصل بولص إلى لندن بحقيبة ملأى بالقصائد والترجمات لشعراء وشاعرات من أميركا وبريطانيا، وبمشروعات أخرى طالما تأخر في نشرها، ليس أولها ترجمته الشعرية الخاصة لملحمة جلجامش، ولا آخرها إعطاء موقع لدرة شكسبير "هاملت" في اللغة الشعرية العربية الجديدة، وبينهما مجموعة من القصص القصيرة التي كتبها بولص المولع بهذا الفن الأدبي. كأنّه يقول لنا إن الوصول المتأخر، هو السلوك الوحيد الذي يليق بالشعراء.
هذا المتسكّع الأبدي بين المدن واللغات والعصور، بين الداخل والخارج، ليس على عجلة من أمره. وهنا تكمن ربّما أسباب تلك الحيرة الوجودية المستمرة التي تحكم رباط العلاقة بين حياته وقصيدته بطريقة درامية. "متى نصل؟" أمر مرتبط، بالضرورة، بالنتائج المرتبة على البحث عن "مدينة أين". وربما كانت المكافأة الكبرى لهذه المغامرة أنها تمكنت من عبور محطّات شتّى، وواصلت تجدّدها. وإلا كيف نفسّر أن بعض نصوصه يوحي أن كاتبها أصغر من عمره بعشرين سنة. ذلك هو سركون بولص، إنه من شعراء التسعينات!
دمّو، الراوي، العزّاوي والآخرون
تبدأ مغامرتك من كركوك مطلع الستينات...
- إنتقلنا سنة 1956 من الحبانية إلى كركوك، حيث بدأت أكتب. وكأي مراهق، كانت لي محاولات للتعبير شبه عشوائية، ظهرت منها فيما بعد ثيمات معينة، شغلتني وما زالت تشغلني في الكتابة. أذكر أن قصيدتي الأولى كان عنوانها "الصياد"، ويبدو لي أن ثيمة الصياد والصيد نفسها تستقطب اهتمامي في الوقت الحاضر. فكتابة القصيدة محاولة صيد بمعنى ما.
في كركوك إلتقيت بجان دمّو، وكنا ندرس معاً في متوسطة كركوك الغربية. جان دمّو وأنا كنّا دخلنا حلم الكتابة، وهو ذلك العالم الشاسع المليء بالمفاجآت إلى حد الانفجار الذي يلاقيه كل شاعر شاب يحدث له أن يمس بأصبعه مفتاح الدمار الخفي الذي ينتظره في ظلام الابجدية. بعد فترة أخبرني جان دمّو عن لقائه بمؤيد الراوي، وقال لي إنه صاحب شخصية مثيرة وطريفة ولا بد لي أن التقيه، وهكذا كان.
إلتقينا في كركوك الجديدة كما أذكر، حيث كانت لمؤيد زاوية قريبة من أجمة تمرّ بها مجموعة من المراهقات الآشوريات. وصرنا نقضي أوقاتاً طويلة في الحديث ومحاولة رصد تلك التحركات الأنسويّة التي كان لها عطر خاص، ونحن نفتح عيوننا المأخوذة على عالم جديد. وبعد فترة بالطبع التقينا بالآخرين... جليل القيسي، فاضل العزاوي، أنور الغساني، يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد، ثم صلاح فائق في فترة متأخرة.
كانت لقاءاتنا تتم عن طريق المصادفة وكيفما اتفق. أما الوشائج والهموم الشعرية فكانت تُنسج من دون معرفتنا. وسرعان ما وجدنا أنفسنا، خصوصاً بعد الاطلاع على الصحف والمجلات التي كانت تصلنا من بغداد وبيروت، مشدودين إلى فكرة التواصل، مع مراكز ثقافية أخرى. فجأة بدا لنا فضاء كركوك أضيق من أن يحتوي تلك الطاقات التي وجدنا أنفسنا مستسلمين لتياراتها العنيفة.
هنا بدأت مرحلتك البغداديّة...
- قبل أن أسافر إلى بغداد، نشرت العديد من القصائد في مجلة "شعر"، وبالتحديد بين 1963 - 1964 أي في العددين الأخيرين من مجلة "شعر" قبل توقفها. وبعد عودتها إلى الصدور أخذت تحمل قصائدي، على امتداد أعداد متتالية. وفي الوقت نفسه، كنت نشرت قصصاً في مجلة "الآداب" و"العاملون في النفط" والصفحة الثقافية في جريدة "الأنباء الجديدة" التي كان يحررها عبدالرحمن الربيعي. ولا بدّ من الاشارة إلى أن صحفاً صغيرة عدّة كانت تصدر في كركوك، أذكر منها "البشير" و"جريدة كركوك" حيث نشرنا جان دمّو والعزاوي والراوي وأنا قصائد ونصوصاً أخرى.
هكذا فإن وصولي إلى بغداد كان مهيأًً له. فبعض أدباء العاصمة كان يعرفني ونشأت بيننا إلفة عفوية. ثم بدأت سيرة المقاهي الرائعة التي كانت أشبه بالحلم يختلط فيها الليل بالنهار، والابداع بالفجاجة. من أحب تلك المقاهي إليّ "البلدية" العظيمة الشاسعة الاطراف، ما زلت أذكر شرائح النور الهائلة التي كانت تسقط على مجلسنا من السقف مختلطة بغيوم الغبار المتراقصة. أذكر أيضاً مقهى "ليالي السمر" الصيفي، حيث كانت زبدة الحياة الأدبية تطفح بين الموائد وتنفرط الحكايات اللاذعة كحبات السبحة في فضائها الرائق.
ما الذي دفعك إلى مغادرة العراق؟
- بعد نكسة حزيران 67، كانت الحاجة إلى الخروج قد تزايدت فيّ إلى درجة لا تطاق، فصارت فكرة ثابتة أهجس بها طوال الوقت. استحوذت عليّ رغبة الذهاب إلى بيروت، خصوصاً بعد لقائي الأوّل بيوسف الخال في بيت جبرا ابراهيم جبرا في المنصور. قال لي يوسف يومها أن مكاني بكل بساطة في بيروت، وأن عليّ أن أبذل كلّ ما في وسعي للوصول إلى هناك. وظناً منه أنني سأسافر إلى بيروت بطريقة شرعية، سلمني جبرا مخطوط ترجمته ل "الملك لير" مطبوعاً على آلة كاتبة لأوصله إلى "دار النهار"، ورحل المسكين قبل عامين من دون أن يعرف أن مخطوطه هذا عبر معي الصحراء سيراً على الاقدام في حقيبة صغيرة.
انطلقت من قرية صغيرة اسمها القائم، كانت تقيم فيها عائلة الصديق الناقد شجاع العاني. هذه المغامرة الأولى لا يزال يشغلني همّ التعبير عنها. فعلت ذلك في ثلاث قصائد احداها بعنوان "حدود" منشورة في "الحياة قرب الاكربول"، والثانية في "الأول والتالي" وعنوانها "مفتاح البيت". أما الثالثة فنشرتها في آخر مجموعاتي تحت عنوان "بستان المهربين على حدود القائم والصحراء".
من بيروت إلى ألكتراس
ماذا بقي لك من تجربتك البيروتية؟
- كان وصولي إلى بيروت قفزة نوعية. دلفت إلى عالم آخر، واسع الارجاء، مقارنة ببغداد، غني بالاكتشافات. كانت المدينة مشرّعة على المدى الشاسع، فهي العاصمة العربية التي تجمع بين الشرق والغرب في بوتقة واحدة. وعندما حططت رحالي أيقنت أنها المكان الذي كنت أبحث عنه، وكان يوسف الخال ومجموعة الشعراء البيروتيين هم الذين دلوني، كل على طريقته، إلى عالم الكتابة والحياة الثقافية بحلقاتها الداخلية.
عشت متنقّلاً بين مكتب "شعر" في "دار النهار"، ومكتب جريدة "لسان الحال" التي كان أدونيس يحرر صفحاتها الثقافية. كانت بيروت تعيش في تلك الفترة "العصر الذهبي" للثقافة العربية. فجميع الشخصيات الأساسية التي ساهمت في احداث ثورة في صلب الأدب العربي، كانت مجتمعة هناك، تعيش وتبدع وتصخب وتغامر دفعة واحدة. كما أن النساء، ولأول مرة في مدينة عربيّة، كن في أوج ممارستهن لحقوقهن الطبيعية، من المشاركة في الابداع وتجارب الكتابة الجديدة والعيش الحر. ومنهن غادة السمان التي لن ينساها كل من سنحت له فرصة اللقاء بها، وقبلها طبعاً ليلى بعلبكي التي كانت أول من احدث ثورة في الكتابة النسائية.
أمضيت في بيروت فترة مليئة بالزخم. كانت بيروت حقاً هي المكان. كم غريب أن يكون للكلمات هذا الوقع، هذا التأثير الجسدي الذي يمكنه أن يشكل لك مصيراً جديداً. لكن هذه الحالة استنفدت نفسها، ووجدت نفسي على الشاطئ مرة أخرى انتظر سفينة لا أدري إلى أين ستقلني.
في العام 1969 أبحرت مع جماعة من الهنود الحمر على ظهر قارب أقلع من خليج سان فرانسيسكو إلى جزيرة الكتراس، بهدف انشاء كيان خاص. وعبرت عن هذه التجربة في قصيدتك "قارب إلى الكتراس". كيف تسترجع الخبرة الشعورية والانسانية التي تقف وراء هذه القصيدة؟
- ذات يوم كنت مع إيتيل عدنان في مقهى يواجه الخليج خليج سان فرانسيسكو. وعبر الزجاج كنّا نرى حركات بشرية غير عادية، وأشخاص يغزون الشوارع بملابس مختلفة عن ملابس الهيبيين المنتشرة في كل مكان ذلك الوقت: خرز وقلادات هندية وعصي مزينة طويلة، وبطانيات محمولة على الظهور والاكتاف، أطفال، وعجائز بشعور طويلة. بعد يومين اكتشفت من بعض الاصدقاء، وعبر الصحف أن تجمعات من الهنود الحمر كانت قد زحفت إلى أطراف الخليج في القوارب مستعدة للابحار إلى جزيرة الكتراس التي كانت في ما سبق سجناً مشهوراً، قبل أن يقرّر محافظ المدينة إغلاقه، تحت ضغط الرأي العام، بسبب الوفيات الكثيرة بين السجناء. فالبرد والضباب، خصوصاً في الشتاء، كانا أقسى من أن يحتملا، حتى من قبل من نالهم العقاب في ان يكونوا مشرفين على هذا السجن وعاملين فيه.
كان مثيراً ان أرى الهنود الاميركان للمرة الأولى. فأنا لم أعرف عنهم، حتى ذلك الوقت، إلا من خلال الافلام وأحلام الطفولة. كان الهندي مجرد طيف أسطوري. ووجدت نفسي أندفع مع المندفعين. كان السند الشعبي موجوداً، والغالبيّة تؤيّد فكرة أن ينال الهندي قطعة صغيرة هي في الأصل له بعد أن سلبه الآخرون قارة بأكملها. كان كل شيء يجري بقيادة دنيس بانكس، وهو مناضل هندي مشهور ما زال يصارع، حتى الآن، لنيل بعض الحقوق لشعبه.
طوال أسبوع عشت تجربة فريدة. صادقت فتاة هندية اسمها فالو كانت تحمل سكيناً في جزمتها المصنوعة من جلد الغزال، وكنت أحب جدائلها الطويلة وشخصيتها المليئة بالحمى والغضب. ومن هنا جاءت تلك القصيدة.
ما النتيجة التي أسفر عنها الزحف الهندي على الكتراس؟
- بعد أيام كانت سيارات البوليس الأميركي تحيط بمنطقة الخليج. ويبدو أن الأوامر كانت أن يطرد الهنود بأي ثمن، حتى لو اضطروا إلى الضرب بالعصي واطلاق الرصاص. بعض الهنود نجح في التسلل إلى الجزيرة وعسكر هناك ليلتين، إلى أن وصلت إليهم قوات الأمن وانتزعتهم من هناك. قام الهنود، وما زالوا، بحركات مهمّة في أميركا وكندا، أشهرها ثورة "الركبة الجريح" ونديد ني وكانت ثورة مسلحة. وضع عن تلك الحركة كتاب عنوانه "ادفنوا قلبي في الركبة الجريحة"، بقلم كاتب هندي مشهور هو بارون دي.
إنشغلتَ بقضية الهنود الحمر بشكل ملحوظ...
- نعم، كثيراً. إعتبرتهم أهل الحضارة الحقيقية، وهي تبرز اكثر فأكثر مع مرور الزمن. ولعلها الحضارة الوحيدة الأصلية الموجودة في أميركا. وأنا، شخصياً، أعتبر أن انسان الحضارات القديمة، في صراعه مع أصحاب الحضارات الحديثة المصطنعة أو "المدنية" مسألة مثيرة. وهي في الجوهر شعرية.
ألانها خاسرة؟
- نعم، لأنها خاسرة بمعنى ما. لأن الخسارة موجودة في المعادلة. لكن ما هو المعنى الحقيقي للخسارة؟ كما يقول وليم كارلوس وليامز: "ما من هزيمة مؤلفة كلها من هزيمة". فحتى في الخسارة هناك نوع من الانتصار، اذا عرفت كيف تتعامل مع وضعك بعد الحدث.
ماذا كان الغرب يشكل بالنسبة إليك حينذاك؟
- كان الغرب نوعاً من الحلم الذي تسلّل إلينا عبر الكتب والأفلام. كان يسكن خيالنا، ويشكّل فضاءً مشرّعاً على الحريّة. وكان أيضاً شيئاً غامضاً وسرياً يجذبنا باغوائه. فالعالم الآخر دائماً سرّ، والسرّ دائماً يغوي. أعتقد أنني الآن عرفت السرّ، وعادت تسكنني حاجة إلى الشرق.
ثوريّة الستينات وشعراء البيتنكس
ما الذي حملك إلى أميركا؟
- الحلم ربما. حلم الطواف اللانهائي النابع من قراءاتي للشعر الاميركي. فضلاً عن أسباب معيشية وجدت نفسي واقعاً في شباكها يوماً بعد يوم، إلى أن وصل بي الأمر إلى التفكير مجدّداً في اللجوء إلى مكان بعيد. أميركا هي التجربة الكبرى، بالنسبة إلى كاتب يستطيع أن يجد نفسه فيها. أول ما وصلت إلى نيويورك خالجني شعور بأنني انتقلت إلى عالم آخر.
بعد شهر من وصولي، وجدت نفسي في بركلي أشارك الطلاب في تظاهرة ضد الحرب في فيتنام. كانوا يحملون الشموع، ويرتّلون قصائد هوشي مينه الذي كنت قد ترجمت له، عن "دار النهار" البيروتيّة، كتاباً بعنوان "يوميات في السجن". وكانت سان فرانسيسكو تشهد إحدى أكبر الثورات الشعرية ذلك الحين، أي كتابات شعراء وروائيي البتنيكس ومنهم ألان غينسبرغ وجاك كيرواك وغريغوري كورسو وبوب كوفمان الشاعر الزنجي الذي سمي في فرنسا برامبو الأسود... وجدت نفسي في هذه االبؤرة المضطرمة، في "نورث بيتمش" وهي المنطقة الأجمل والأكثر فوراناً في سان فرانسيسكو، ومنها انطلقت هذه الحركة التجديدية وحركات أخرى. لا أعرف كيف أصف ذلك الخضم من الحياة والشعر، ولكن ما أعرفه أن السحر الذي نبحث عنه في الكتابة كان يلف أجواء ذلك العالم، ويجعل من الستينات عصراً خارقاً من حيث ثوريته على مستوى الشارع والحياة الباطنية.
ولعل هذا أهم ما أحدثته الستينات من التغيير على مستوى الرؤية، ومن ثم في فعل الكتابة. فهنا كان عالم الباطن والظاهر يتواشجان ويتساويان من حيث أهميتهما في الموازنة الابداعية. أفكّر هنا في تجربة تيموثي ليري الذي سمّي ب "غورو السايكايدليات" أو الكاهن الأعلى للثورة الباطنية، وكان تأثيره كبيراً على غينسبرغ وكيرواك. هكذا هجر غينسبرغ أسلوب كتابته الأول الذي كان شبه تقليد لقصائد وليمز كارلوس وليمز، مبحراً في اتجاه جديد أعلنت عنه قصيدته الملحمية "عواء". وفجّر كيرواك طاقات الكتابة المعتادة في النثر الاميركي آنذاك، فجاءت روايته "على الطريق" المكتوبة بأسلوب التداعي الحر، لتصبح المرجع الأساسي لجيل كامل، ولتلهم ما عرف فيما بعد بالحركة "الهبيّة".
ذات يوم قلت لنا: "عشرون سنة في أميركا كافية، لكن خمس سنوات أخرى شيء لا يطاق". كأنّها كانت تجربة مؤلمة تضاف إلى مسيرتك، أو علامة صارمة تضع حداً بين الامتلاء والفراغ؟
- تحتاج على الاقل، إلى عشرة أعوام لتؤالف عادات الآخرين، وتتشرب الطقوس والقوانين الخفية التي تتحكم بمسيرة العالم الجديد. جديد عليك لأنك الزائر. عشرة أعوام لتشعر بشيء من الاستقرار وتعرف كيف تتعامل لا مع الآخرين، وحسب، وإنما مع نفسك أيضاً. اتكلم عن الشباب، عن الفتوة، عن الانسحار الذي يأخذ وقتاً طويلاً ليضمحل، وتبدأ بعده عملية التقويم. الغرب هو الغرب. لكن أميركا هي نقطة الانطلاق من نهايات الغرب إلى شيء آخر جديد تماماً يصب في المجهول.
في أواخر الستينات، أخذت الغشاوات كلها تنقشع، وتحديداً في سان فرانسيسكو البؤرة التي لا تزال تفعل فعلها في الثقافة الاميركية. الاثارة كانت في كل مكان، خصوصاً في نورث بيتش، وهي المنطقة التي انطلقت منها حركة البيتنكس، والشعر الجديد الذي كان مثيراً حقاً بالنسبة إلى ما كتب قبله.
قدّمتَ أواخر الستينات في مجلّة "شعر" أبرز كتاب حركة البيتنكس، وترجمت نصوصهم وعرّفت بالتجربة وأسسها وأماكنها. هل اكتشفت هذه الحركة مبكراً منذ أيّام العراق؟
- صحيح. هل تتصوّر شعوري لاحقاً، وأنا أجلس في تلك الأماكن المعينة التي وصفتها في مقدماتي لشعراء البيتنكس، قبل أن أدخل المدينة وأزور مقاهيها؟ تعرّفت إلى الشعراء الذين قدّمتهم للقارئ العربي، واكتشفت أن ما كتبته كان صحيحاً. تلك بداية شبه موفقة. زخم الحياة والشعر كان كثيفاً وقوياً إلى درجة ان انكشاف الاسرار استغرق مني أكثر من سبع أو ثماني سنوات. ولم يلزمني وقت طويل حتى أعقد الصداقات العميقة مع شعراء حركة البيتنكس.
كيف كان أثر وجودك كشاعر انتزع نفسه من نسيج انساني وثقافي عربي، وزج نفسه في عالم مختلف كلياً. كيف بدت لك اللغة العربية في قابلياتها على الاحاطة بتجربتك الحياتية الجديدة؟
- في السنتين التاليتين لوصولي كدت أهجر الكتابة بالعربية، إذ انشغلت بكل حواسي في البحث عن المعادلة التي ستجعلني أطفو على وجه التيار، المعادلة التي ستحميني من الغرق. فاللغة العربية بدت لي غير مؤهلة لاستيعاب ما يحدث، ولتشرب الاحاسيس الطاغية. جدّيتها المطلقة كانت تطأني، ووقفت حائلاً لفترة بيني وبين الحياة التي لم تكن تكف عن الانفجار بي وبمن حولي. إنّها الصدمة الأولى، إغواء الغرب الذي يأخذ مداه إلى أن يجد طريقه، ويتقن مهنة الربان فيصل إلى الضفاف التي يريد.
لم أذهب إلى "الغرب" طالباً، أو باحثاً ينتظر أن ينهي دراسته ليعود إلى بلاده وفي جعبته شهادة. بل ذهبت كزائر لا يدري إلى متى ستمتد فترة اقامته.
في تلك الفترة كتبت قصائد انشغلت عموماً بالفروق الفادحة والهوات التي تخلفها الغربة بين لغتك العربية والتجربة الشعورية والانسانية الجديدة التي رميت نفسك في خضمها. بعض تلك القصائد نشر في "مواقف"، وبعضها لا يزال في حقائبك هل يمكن ان تجمعها يوماً في كتاب؟
- ربما أفعل
العدد المقبل حلقة ثانيّة
عن الشعر والايقاع وقصيدة النثر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.