انها ابنة القرن العشرين، واحدى علاماته المميزة، وأهم مركز للتجارة والصناعة والمال في المغرب، بل عاصمته الاقتصادية الكبرى. فمن بلدة صغيرة لا تتعدى مساحتها 44 هكتاراً، تحولت الدار البيضاء مدينة كبيرة مترامية الأطراف، وغدت ثاني أكبر المدن في افريقيا. ومن عشرين ألف نسمة هو عدد سكانها العام 1900، تموج اليوم بحركة أربعة ملايين نسمة وربما أكثر من ذلك بكثير. ومنذ مؤتمر أنفا 1943، الذي استقبل خلاله الملك الراحل محمد الخامس مصحوباً بولي العهد آنذاك العاهل المغربي الحسن الثاني رؤساء دول العالم الحر الثلاثة: تشرشل وروزفلت وديغول، في ذروة الحرب الكونية الثانية، والدار البيضاء تستقطب المتفاوضين حول القضايا الدولية الشائكة، وتستضيف في رحابها المؤتمرات واللقاءات والقمم العربية والاسلامية. ومن المفارقات، ان الدار البيضاء لعبت دوراً مهماً في مجريات تلك الحرب نتيجة خطأ في ترجمة اسمها الى اللغة الالمانية، اذ فهمت المصالح السرية في برلين من البرقية المشفرة التي استلمتها من عملائها في الدار البيضاء ان مكان اجتماع القادة الثلاث هو "البيت الأبيض"، لتنصرف أنظار الرايخ الألماني الى واشنطن، بينما كانت الأمور المهمة يجري بحثها في ذلك الاجتماع الحاسم الذي قاد مسيرة الحلفاء نحو النصر. وقبل ذلك بعام، أي في 1942، وضع فيلم "كازا بلانكا"، الذي دخل به كل من همفري بوغارت وانغريد بيرغمان تاريخ السينما، الدار البيضاء على كل لسان، على الرغم من أن المخرج مايكل كورتيس لم يكلف نفسه عناء الانتقال من هوليود الى المدينة التي ورد وصفها في الفيلم على أنها "مكان مرمي في الصحراء". الدار البيضاء تزخر بالفنادق الرفيعة المستوى 160 فندقاً مصنفاً التي أهلتها لأن تصبح الباب السياحي الأول للمغرب، وفيها تتمركز الصناعات المتطورة التي جعلتها معقل النشاط الاقتصادي وبؤرة أنشطة القطاع الثالث التي تشكل أساس الوظيفة القيادية من بنوك ومؤسسات للتأمين وشركات للتصدير والاستيراد، فثمة 60 في المئة من العدد الاجمالي للمقاولات على الصعيد المحلي و83 في المئة من الصناعات الكيماوية وأكثر من 70 في المئة من الصناعات الكهربائية والالكترونية وحوالي 50 في المئة من الصناعات الغذائية، وهي تستهلك ما نسبته 30 في المئة من الطاقة الكهربائية للبلاد. من أنفا الى كازابلانكا ان تولد الدار البيضاء في فجر القرن، لا يعني أنها مدينة من دون تاريخ. فإذا تجاوزنا ما قيل عن "انسان سيدي عبدالرحمن" حيث عثر بالقرب من ضريح هذا "الولي الصالح" العام 1955 على جمجمة قدر العلماء عمرها بآلاف السنين، سنجد "أنفا" الاسم القديم للمدينة حاضرة في أحداث القرن الثامن، والمرجح أن تأسيسها تزامن مع المملكة البرغواطية التي لعبت دوراً مهماً في العلاقات المغربية - الأوروبية، خصوصاً مع اسبانيا والبرتغال، ولا أدل على قوتها ومنعتها من وقوفها في وجه السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين، وصمودها لفترة زادت عن خمسة أعوام ما بين 1063 و1068... وبعد القرن الرابع عشر، إبان العصر المريني، لعب أسطولها البحري دوراً بارزاً في المواجهات مع ملوك شبه الجزيرة الايبيرية. وجاء الرد عمليات عسكرية انتقامية شنها الأسطول البحري البرتغالي العام 1468 على "أنفا" طمعاً في احتلال هذا الموقع التجاري والاستراتيجي، وبعد اخلائها من سكانها الذين اتجهوا صوب مدينة الرباط، عملت فيها المدفعية البرتغالية تخريباً حتى أحالتها الى أنقاض، ثم دخلها البرتغاليون واستقروا فيها مع مطلع 1515 قبل أن يطردوا نهائياً العام 1755. وأثناء ذلك حصل التجار الاسبان على ترخيص للاقامة في المدينة، ومن هناك ينحدر أصل كلمة "كازابلانكا" التي حلت محل "كازابغانكا" الاسم الذي أطلقه البرتغاليون عليها وهو ما ترجمه المغاربة لاحقاً بالدار البيضاء. ولم يتوان الفرنسيون والانكليز لدى بحثهم عن المواد الأولية في النزول بها على غرار الاسبان. وما زالت المدينة تحتفظ بالذكريات البطولية للمقاومة ضد الوجود البرتغالي مثلما تحتفظ بشريط الأحداث الذي بدأ يوم 5 آب اغسطس 1907 ولم يتوقف الا في 18 تشرين الثاني يناير 1956، ففي ذلك اليوم قصفت البواخر والمدرعات الفرنسية الدار البيضاء، فهدمت الكثير من منازلها ومساجدها وحوانيتها، وقتلت المئات من سكانها، دون تمييز بين الجنود النظاميين والسكان المدنيين الذين فوجئوا بالقذائف تنهمر عليهم وهم في أسِرَّتهم. ومع النصف الثاني للقرن الثامن عشر جدد بناءها السلطان العلوي محمد بن عبدالله بأسوارها وأبوابها وسقالتها التي ما زالت محتفظة بمعالمها وبالمدافع التي جهزت بها للدفاع عن ثغرها المنفتح على الأطلسي. وتعتبر هذه الفترة من حيث أهميتها بمثابة البداية لتأكيد مكانتها بين المدن المغربية. ففي منتصف القرن التاسع عشر، وبسبب تزايد الطلب الأوروبي على الصوف والجلود والحبوب والزيوت والعسل، تطورت المدينة التي كانت مساحتها لا تزيد عن 44 هكتاراً، ما أدى الى تنمية حركة التصدير، واستقرار خطوط منتظمة للملاحة البحرية بين المغرب وأوروبا. وسيؤدي بناء الميناء الجديد العام 1914 الى النمو الهائل للمدينة معززاً طابعها التجاري والسير بها نحو التصنيع. وما زال هذا الميناء العنصر المحرك للدار البيضاء، العاصمة الصناعية والتجارية والمالية للمغرب. كنوز التقاليد ومباهج العصرنة في مطلع 1912، شيد المهندسون المعماريون مدينة نموذجية، مدينة عصرية فاتنة سيجعل منها نموها السريع حاضرة المغرب العربي الكبرى التي تبهر الأنظار بجمالية هندستها المعمارية. وقد شكلت استثناء مقارنة بالمدن المغربية الأخرى كمراكش والصويرة والرباط وغيرها، وهذا الاستثناء يتجلى في جمعها بين تشكيلات هندسية متنوعة منها ما هو قريب من الطابع الأندلسي ومنها ما هو أوروبي. هندسة العمارة هنا دقة وتناسق في الأشكال، فالأبنية شاهقة في غير إفراط، وبعض الأحياء يضم منازل بطابق واحد وفيلات محاطة بالخضرة، أما المساحات الخضراء المعشوشبة التي تخترق غلظة الاسمنت فتؤكد رغبة لا تقاوم في تحقيق التكامل والانسجام، وباختصار، فإن التوسع الذي عرفته هذه المدينة التي يتجاوز طولها عشرين كيلومتراً لم يمنعها من الحفاظ على الفن المعماري المغربي العريق، كما لم يفقدها ملامحها الأصيلة. إن الدار البيضاء مدينتان: قديمة وعصرية، بل هي نمط خاص من المدن بفضل إغناء كنوز التقاليد المغربية بمباهج العصرنة والتكنولوجيا الحديثة، ومن هنا تستمد خصوصيتها، فمع أنها ليست متحفاً للآثار لكنها ما زالت تحافظ على الأصيل من ماضيها، فوراء السور المحصن تقبع المدينة القديمة بكل تجلياتها ومكوناتها الأثرية الحاملة بين حيطانها آلاف الروايات والأحداث والمواقف التاريخية المنبثقة من حضارة أصيلة ومتجذرة، والى جوار المتاجر العصرية، تتعدد محلات الصناعة التقليدية التي تعرض الزرابي السجاد الرباطية والمنتوجات الجلدية والخشبية القادمة من مراكش والصويرة ومطرزات فاس وأواني الخزف التي تشتهر بها مدينة أسفي. غير أن الحديث طغى على القديم وقلل من حيزه وان لم ينل من شأنه الأثري والتاريخي، ذلك أن عماراتها الشاهقة وشوارعها الواسعة وحجم مصانعها هي أبرز ملامح الجسد الكبير لهذه المدينة الضخمة. لقد أعيد ترميم الأماكن التقليدية فبدا حي الحبوس الأوقاف المشيد في بداية القرن وكأنه يحكي عن الأزل. أزقة ضيقة بساحات مظللة جميلة محاطة بأقواس تنفتح على أسواقه تضم مختلف أنواع السلع. وفي هذا الحي شيد مقر الباشوية وهو مبنى أنيق متعدد ألوان الزليج بسقوف من خشب الأرز. وعلى مقربة منه توجد كنيسة "نوتردام دولورد"، وهي نحت أثري رائع من الاسمنت المقوى يعود الى الخمسينات، تضيئه واجهات زجاجية ضخمة تبلغ مساحتها 800 متر مربع. وفي شارع محمد الخامس وزنقة الأمير مولاي عبدالله والأزقة المجاورة التي لا تنقطع حركتها ليل نهار، أنت في قلب الدار البيضاء، مدينة البورصة والتجارة والأعمال والفنادق الفخمة والمطاعم الفاخرة، فضلاً عن عشرات المقاهي وقاعات السينما والمسرح وغيرها من أماكن اللهو والترفيه. والى جانب ساحة محمد الخامس حيث القبة البديعة ذات الشكل الكروي التي يخترقها ممر باطني من الأسفل مؤدياً الى كل الاتجاهات، تقوم حديقة الجامعة العربية بأشجارها المعمرة. ومن شارع مولاي يوسف، أحد أجمل الأحياء السكنية بالدار البيضاء المزينة جنباته بأشجار النخيل الباسقة، أي بمحاذاة الميناء يصل الزائر الى نقطة الانطلاق باتجاه المكان الذي يطلق عليه "حوض الحوت". وهو قطع صناعية في بيئة طبيعية تمثل عالم البحار، وتنساب وسط مياهها المتدفقة أسماك جميلة من مختلف الأنواع والأشكال. قبالة الحوض، هناك المسبح البلدي المحفور في الصخر على نحو يثير الدهشة. ومنه يفضي الطريق الى "عين الذئاب" الموقع الذي أثار انتباه البحارة منذ القدم بمينائه الطبيعي السهل المنفذ، قبل أن تنتشر المسابح والمقاهي والمطاعم الفخمة على امتداد شاطئه، وفوق رمال الشمال الناعمة، ثمة كازينوهات وفنادق فاخرة وميدان لسباق الخيل وناد لرياضة اليخوت وملعب غولف. مسجد الحسن الثاني وعلى الطريق الساحلي ينتصب مسجد الحسن الثاني في البحر وكأنه سفينة، متحدياً كل خيال، وهذا المسجد الذي يمتد على مساحة هكتارين والذي شارك في وضع نقوشه وزخارفه البديعة المدهشة أكثر من 3300 من الصناع التقليديين المغاربة أصبح منذ افتتاحه في نهاية آب اغسطس 1993 من أجمل مساجد العالم. وفي اتجاه الشرق، تشكل "بن سليمان" فرصة لقضاء وقت ممتع في نزهة أو جولة قنص في غابة بلوط. وفي الجنوب، أي في السهل، حيث تمتد مزارع كروم "بولعوان"، توجد أبرز المواقع العالمية للقنص بالصقور. وتمارس هذه الرياضة في قصبة مستطيلة رائعة بحصونها السبعة كان شيدها المولى اسماعيل العام 1710. لقد تعملقت الدار البيضاء حتى أمست، تضم ثماني عمالات محافظات وسبعة مجالس اقليمية وخمسة وثلاثين جماعة محلية، ومجموعة حضرية. وشكل طغيان الصناعة في المدينة مصدراً لتلوث بيئتها الطبيعية وتهديداً لصحة سكانها الذين يصل عددهم، وفقاً لبعض التقديرات، الى 7 ملايين نسمة. وترجع هذه الاختلالات الى عدم وجود تصاميم متوسطة وبعيدة المدى تؤهل المدينة للتطورات التي عرفتها على أكثر من مستوى، فمنذ العام 1918، خضع وسط الدار البيضاء، وهو ما سمي حين ذاك بأحياء خارج السور، لتصميم "بروست" من أجل تشييد محور عمراني يستوعب 500 ألف نسمة لا غير، غير أن التوسعات الكبيرة اللاحقة أفرزت أحياء غير منسجمة البناء، وأخرى عشوائية تفتقر الى المساحات الخضراء والى مرافق الخدمات، كما أفرزت شوارع غير قابلة للتوسع أو الامتداد. ويكاد الوجه التقليدي للمدينة يفقد طابعه المميز، فبعض المعالم الأثرية القائمة في الشوارع الرئيسية مثل سور "باب دار بايدا" الموجود بشارع الحسن الثاني، بدأ يندثر والبعض الآخر بات عرضة للتآكل، كما هو حال الأسوار والأقواس الموجودة في الأحباس وبوشنتوف وسيدي معروف الأول وغيرها. وعرف منتصف الثمانينات صحوة تجلت في إحداث وكالة حضرية وضعت تصميماً جديداً للمدينة، بيد أن ما تحقق منه كان محدوداً، الأمر الذي يطرح السؤال جدياً حول الواقع العمراني للدار البيضاء بعد العام 2000، فهل تستطيع هذه المدينة التي أصبحت تفتقر الى هامش عقاري يحافظ على مكانتها كعاصمة اقتصادية للمغرب، مواجهة مشاكل كثيرة محتملة نتيجة التزايد السكاني الذي يعود في جزء منه الى الهجرة القروية، أو نتيجة الأحياء التي تنبت عشوائياً؟ على أي حال ان ما يلفت النظر في هذه المدينة، ويشد الزائر اليها باعجاب، تلك الديناميكية التي تسابق الزمن، فالدار البيضاء هي نموذج للمدن المغربية التي تنطلق من دون توقف نحو المستقبل