تقودنا الخطوة نحو الدار البيضاء… تلك المدينة العجيبة التي تفتح بوابتها كعين ساحرة. نلج جسدها ونرتقي سلالمها ونشم روائحها. انها المدينة الحالمة الطائشة، الملفعة بالبراءة والاسرار. تضمنا اليها، لكنها لا تمنحنا نفسها بسهولة. تبتسم ثم ما تلبث ان تختفي بين طعم الازمنة العريقة الجاثمة على كل التفاصيل. اذن ليس من مهرب سوى الذوبان في زمنها. تقذفنا الدار البيضاء الى ساحات وأزقة وأسواق معجونة بألوان الداخلين اليها، وتضعنا في مواجهة الشرفات المرتبة والمرصوفة على واجهة البنايات… تضيق، وما تلبث ان تتصاعد نحو فضاءات بيضاء لا قرار لها. تفاصيل… تفاصيل، فالدار البيضاء غاصة بالتفاصيل، ودونها تظل المعرفة ناقصة ومشوشة. تفضي بنا المدينة الى طوفان من بشر ومطاعم ومقاه وزنقات متعرجة ومتفرعة. انها قاموس ضخم تمتد صفحاته الى مئات الاعوام، تاريخ مدوّن بحقب زمنية تبدأ منذ عشرات القرون، حيث كانت قرية امازيغية صغيرة تدعى "آنفا" لتتحول مع حركة الزمن وتتابع دورانه الى موقع لسفن القراصنة الاوروبيين، لغاية العام 1468، عندما هدمها البرتغاليون. وما زال اسم "آنفا" يحتل عناوين بعض الاحياء السكنية والمتاجر. هاشم المعروفي في كتابه "عبير الزهور" يشير الى ان "آنفا" كانت آهلة بسكانها الذين كانوا يملكون دورها ومتاجرها وفنادقها ويستغلون بساتينها واجنتها بالملك والتصرف برسوم شرعية توارثها الخلف عن السلف، ثم اصيبوا برزية البرتغال الذين حطموها واحرقوها وصارت اثراً بعد عين… وجهل سكانها واضمحلوا، ولم يبق لهم اثر ولا خبر. يتآصر تاريخ تشييد الدار البيضاء مع السلطان محمد بن السلطان مولاي عبدالله، اذ وقف على مرساها فاعجبته، ثم امر ببنائها وتشييد اسوارها، ومنح شركة اسبانية امتياز تصدير الحبوب، وولى صهره عبدالله بن محمد الرحماني ادارتها. ويشاع ان السلطان كلف رؤساء قبائل الشاوية - من خلال صهره - ببناء اسوار المدينة، وفرض ضرائب لانجاز هذا المشروع. وقد كلف كل قبيلة ببناء جزء من السور. تثير تسمية المدينة ازدواجاً في المخيلة: الدار البيضاء، وكازا بلانكا. كأن بين التسميتين حاجزاً ماثلاً يفصل بين الماضي والحاضر. ثنائية تحمل في طياتها ازمنة وعوالم متمايزة، يجمعها الاسم وتشتتها الطقوس، وهي بذلك تبتكر نفسها وتصوغ حياتها. ولكن ما دلالة هذا الاختلاف… ما تأثيره في حياة المدينة؟ يشاع ان السلطان علي بن عبدالله تطلع الى شواهد ما بقي بآنفا بعد خرابها، وسأل عن دار كبيرة سلمت من الهدم كان يطلق عليها اسم "كازا برانكة" وحورها الاسبان الى "كازا بلانكة"، فقيل للسلطان انها تعني الدار البيضاء، فقال: سموا هذه المدينةالدار البيضاء. غير ان "كازا" هو الاقرب تطابقاً - وعلى نحو عفوي - مع هواجس المدينة والبانوراما التي تغلفها من كل جهات البوصلة. مدينة الاسرار في الدار البيضاء لا معرفة من دون ثمن… غرائب وخبايا كمعيار للتمايز والاختلاف، خليط مثير للدهشة، تمتزج فيه الحقائق بالاوهام، والسحر بالبديهيات، فاما ان تقبلها كما هي أو تلفظها. لا أحد يستطيع ان يضع نهاية لتراكم اسرار المدينة، وأن يرغم عقارب الوقت على التوقف. لا أحد يمكنه ان يمنع اسئلة الزمن المتراتبة من البحث عن الاجوبة الشافية. لكن الدار البيضاء هي الوحيدة القادرة، وبتفوق عسير الوصف، على ان تضع نقاط البداية مع كل نهاية تصلها. هذه هي اذن الدار البيضاء بشوارعها وأزقتها ومعالمها المشتتة بين المقاهي والاسواق والمتاجر المتراصفة، وليلها المسكون بكل الاحتمالات. في هذه المدينة يمكنك ان ترى كل شيء ولا ترى شيئاً. فكل ما مر في هذه المدينة حفر مكاناً في جسد الذاكرة. وفي كل مرة تغور لتشاهد ما خفي، لكنك تظل في الواجهة الامامية، الداخل له دهاليزه ويتطلب مغامرات على نحو جديد وغامض في آن… على رغم بساطته وإلفته. لندخل المدينة ونتوحد مع العجائب التي تفتح لنا اذرعتها. الدار البيضاء هي العاصمة الاقتصادية المعاصرة للمغرب، يقطنها خمسة ملايين نسمة يعاودون الامتداد على هذه الارض. فمنظر المدينة دائم التغير، والشاخصون على مسرحها في تبدل محير، في حين يسجل التاريخ تعاقب الازمان المختلفة. مقاه ومتاجر واسواق ومكتبات وصبايا سمر مشرعات القامة بعيون سود يخضبن اصابعهن بتزويق زخرفي متشابك من الحناء، وموسيقى بايقاعات محلية تنطلق من كل زاوية، يعجنها الهواء، ثم تندفع في الآفاق حاملة نفحات الطقوس القبلية، وتحضر في إلفة السماع. ندخل جوف المدينة، عالم اكثر ابهة واقل تشنجاً… ظاهرة المهن الهامشية تحظى بحيز شاخص في الحياة المغربية ودورانها المتواصل، وهي تمثل قناعاً خفياً للبطالة المقنعة والتسول. ظاهرة تتبادل الادوار وتحضر في كل زوايا الدار البيضاء، منذ خطوتك الاولى باتجاه المدينة حتى مغادرتها. رجال في بدلات زرقاء يسهرون على رعاية الارصفة، فتيان في عمر الزهور يتابعون احذية المارة، آخرون يعرضون بضائع وهمية على زبائن المقاهي. قرائن تتوشج مع اضطراب الاقتصاد وعسر العيش. يبدو تاريخ مقاهي الدار البيضاء قريباً، لكنه يغوص في ذاكرة الايام، تتناثر ذكريات المدينة فتلملمها مقاه تستقبل يومياً مئات الرواد… عبور رتيب للوقت في سحر المكان، ويغدو لغط الاحاديث جزءاً اساسياً من ديكوره الغريب والمشحون بالدهشة. مقاهي الدار البيضاء محشورة في طبقات الذاكرة: لا شوب، فرنسا، الاكسبيسور، موريطانيا، الخضراء، شانزليزي، الزهور، ومرسى السلطان. مركز المدينة امبراطورية المقاهي، ويشكل مقهى "فرنسا" رأس الامبراطورية "ولا شوب" سرتها و"مرسى السلطان" قدمها. مقاهي الدار البيضاء الشعبية… المعارض الاولى للفنون التقليدية: لوحات مزيفة لكبار الفنانين، اعلانات عفى عليها الزمن، اباريق مطلية بمعادن ثمينة مخادعة، تضفي على المكان البهاء والثراء الممزوجين مع الشاي الاخضر والنعناع والشاي الاسود التقليدي، الى جانب العصائر الملونة. ندل يأتون ويروحون، وطاولات ما تكاد تفرغ حتى تكتظ ثانية، واقداح بلورية صغيرة تعلق على حوافها فقاعات سرعان ما تنطفي. بين واجهات تلك المقاهي وجدرانها تطورت الحركات الادبية والفكرية والفنية، وبدأ على طاولاتها الصراع المفتوح لانتاج مناخ حياتي يتسم بالحداثة والتمرد. الجديد... والقديم معاً تتقاطر شوارع الدار البيضاء، يأتي القديم اولاً: درب السلطان، الامير مولاي عبدالله، الاحباس. اما الجديد فمحوره شارعان مستقيمان عريضان، وهما الرئيسيان في المدينة: الاول شارع محمد الخامس، والآخر بإسم الحسن الثاني. الشارع المطل على البحر والممتد على شاطئ الاطلسي، منتش بلذة السهر. وتأتي ليالي المدينة مع انجلاء الاضواء، تنقر النوافذ الساهرة وتمد الخيوط اليها، ويبقى اللقاء مسافة عائمة تدور في الرذاذ المتطاير الذي يصفع الوجوه العابرة برفق ومودة. تفتح شوارع الدار البيضاء اذرعتها لتستقبل الابواب المشرعة على كل الجهات التي دثرها الزمان، بعدما زحفت الامكنة الجديدة وغمرت عطر الماضي المدون بالرموز والمعاني، والممتد في ثراء روحي الى اطراف الحاضر. تبدأ كرنفالات البيع والشراء في اسواق الدار البيضاء مع بدايات الصباح: شموع الزفاف، البسة، حناء، حلويات، اشرطة موسيقية رخيصة الاثمان، صناعات تقليدية. تتجاذب الكائنات الغارقة في ضجيج المكان نحو الاقل ثمناً، مستدعية طقوس السوق الاليفة. متاجر ضيقة وأروقة مسقوفة تفوح منها رائحة الظل الابدي. بيع مفتوح ومساومات مضجرة تستطيل بين البائع والمشتري. تتآصر الاسواق في المدينة مع انفاس القادمين وتتواصل لتغدو كخرافة يمر تحت ظلها الواهي كل عبق التاريخ. اسواق تصحو مبكراً من ساعات الغبش الاولى، ثم تتثاءب مع اول خيوط المساء: السوق الشعبية البازار، سوق الامير مولاي عبدالله، درب السلطان. اسواق تمتد لتصل الى بسطات وليدة اللحظة، وعربات صغيرة تحتل واجهات المتاجر ليلاً بعد اغلاقها لتحول الشوارع الى ورشة عمل متخمة بطقوس البيع والشراء والاحتيال في آن. الموجودات القديمة في الاسواق تدب فيها الحياة فجأة، ترتعش التماثيل وتعوم اطباق الخزف ويشع الالق في الاباريق القديمة. وثمة عرائس ريفيات بعمر الزهور يفضحهن المكياج الصارخ ودهشة تفاصيل المدن الكبيرة وتعقيدات حياتها، يتبضعن ويمضغن الاحاديث ويحترن في اية جهة يواصلن المسير في سيرك يأخذ الوانه وزينته عند كل ناحية، ومن كل زمن. الاسواق غالباً ما تشتبك مع امتداد البيوت، وتمتد احياناً لتضم الاحياء السكنية بكاملها، محولة اياها الى واحة من المتاجر الصغيرة. كأنها في رحلة لا حدود لنهايتها. روائح وعطور واسرار تفوح في فناء مفتوح على السماء والضوء. الدار البيضاء مدينة مفتوحة على كل الجهات، لكنها غير متجانسة، وأزمانها متضادة: احياء الفقر تتسع لتصل احياء الثراء، بيوت القصدير التي شيدت مستقرها خارج اسوار المدينة تفضح ثراء المدينة المجوف. احزمة تحيط بالمدينة الكبيرة وتمدها بالعمالة الرخيصة. وما زالت هذه الاحياء تحتفظ بعاداتها الريفية. الدار البيضاء تسيل لتولد احياء جديدة تجمع بين العوز والترف، لتقضم اجزاءها الخضراء وتعتصر سماءها. يستقبل ساحل الدار البيضاء الوافدين اليه، الشواطئ الطويلة مكشوفة للجميع. امواج الاطلسي العالية ترتطم بجرف صخري تحت شمس كونية لاهبة. ينتشي الساحل ليلاً بالساهرين في مطاعم وملاه مبعثرة على امتداد الساحل المترع بالندى الرطب. على الجانب القصي من الساحل يتراءى من بعيد مسجد الحسن الثاني. فخامة معاصرة تحاور الزخارف الاسلامية التقليدية… تضيق المسافة بينهما ويتجاوران في احد اضخم المساجد على وجه الارض. مئذنة تنتصب عالياً وانوار كاشفة ترشدك اليها اينما تكون. تكر حبات مسبحة المكتبات ودور النشر في منطقة "الاحباس" التي شيدها الفاسيون الاوائل الذين قدموا الى الدار البيضاء. زنقات ضيّقة متعرجة وشرفات تزوق الواجهات واقواس تحتضن المارة وزخارف تتعاقب وتتماثل، تتقارب وتتنافر لتبوح بسيرتها الغارقة في القدم والمحفورة في جسد العراقة. تتآلف التفاصيل المتناقضة في "الاحباس". تحتشد الكتب مع المعروضات التقليدية وتتناثر المقاهي على اطراف الحي في استسلام كسول خرافي. وتحيا "الاحباس" تفاعلات مضنية، انها ملتقى ثقافات ومحصلة لاصطياد السياح. معادلة محيرة وعوالم ترسم في الاذهان علامات استفهام كبيرة، انه اشتباك يصعب فضه: رائحة الورق تغزو انوف السائرين والرفوف المكدسة بغبار الامس البعيد تفشي حقيقة الاسعار. ومن تراص المكتبات ودور النشر، اكتسبت "الاحباس" دلالتها المزحومة بالرموز. فهي ليست سهلة او متجانسة، انها ببساطة مخادعة تحمل بطانة دفينة من الثراء الروحي والخصوبة الذهنية. في هذه الازقة الضيقة يوقظ الفضول الى المعرفة والتمرد على الثوابت. اذن كيف ستكون الدار البيضاء من دون قلبها المبدع وجسدها الخصب؟ ميناء المدينة نقطة انطلاق صوب جهاتها الاربع، بعدما اتسعت افقياً وتناثرت اطرافها. شيد الميناء الفرنسيون حين احتلوا الدار البيضاء العام 1907، وكان مقامهم في المغرب متوقفاً على بناء اقتصاد ناجح يضمن لهم المكوث واستغلال خيرات البلاد، فكان مرسى الدار البيضاء. احتاج الامر في البداية الى يد عاملة رخيصة، فتقاطر على المدينة من الباحثين عن عمل وحلم من حواضر المغرب وبواديه، فانشأوا لسكناهم درب كرلوطي، مارتيني، درب الكبير، الطلبة، المعاريف، عين الشق، وعين السبع. وقد كشف الاحصاء الذي شهدته الدار البيضاء العام 1907 عن وجود خمسة وعشرين الف مواطن يقطنونها، وارتفع الرقم تصاعدياً ليبلغ العام 1912 اربعين الفاً. وتعتبر الجالية الاوروبية التي اتخذت من الدار البيضاء مستقراً دائماً لها، الاوسع في عموم المغرب، بعد جالية طنجة. الدار البيضاء، حاضراً، سيرك يستحق الفرجة، انها المدينة التي ظلت تغزل طوال عمرها لتضم الصورة الى الصورة، والسوق الى السوق، والزنقة الى الاخرى، تماماً مثل "بنيلوبي" في الاساطير الاغريقية القديمة. هذا ما فعلته الدار البيضاء لتضمن لها موقعاً في مفاصل الحياة على امداداتها العربية، كمن يلملم اطراف الكون ويحكم اغلاق الاصابع عليه، خشية من الانزلاق، ويمضي به صوب ثالوث الحياة السرمدي: البحر والشمس والتاريخ. * كاتب عراقي