في طريقها الى جادة "كولارتشيفا" تحث ميلا الخطى عند الرابعة فجراً، وتستشف في الضباب الصفيق، الطابور الازرق لرجال الميليشيا، وشرطة مكافحة الشغب، الذي يطوق بثبات منذ اسابيع تجمعاً مسالماً لطلاب الجامعة القريبة يعتصم تحت شرفات "يوغوسلافيا بنكا". ابنتها تانيا تبدأ تظاهرتها اليومية في الحجارة، وتدوم مناوبتها في الاحتجاج ضد الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش خمس ساعات، تستبدل مع رفاقها بعدها، بصف آخر من طلاب كلية الفلسفة. ميلا منسقة "لجان الاهل"، تشرف على تسلم الحطب والطعام الذي يتبرع به القرويون في الضواحي، وسكان المدينة، لاذكاء نار البراميل المشتعلة ليلاً، لسمر المتظاهرين وتدفئتهم في صقيع بلغراد. وفوق شاحنة صغيرة، ركبت ادوات مطبخ كبير، تصعد اليها ميلا وبعض المتطوعين، ليبدأ توزيع حساء الصباح الساخن والسندويتشات على مناوبي "التظاهرة" الليلية، للصمود في حصارهم خلف جدار الميليشيا. ويمنع الجدار العسكري تدفقهم نحو احياء العاصمة، والطواف فيها، وقد يحدث احياناً، ولسبب غير مفهوم، ان ينسحب الطوق من دون سابق انذار، فيركب رجاله باصاتهم ويرحلون، يتقدم المحاصرون الى التظاهرة في آخر ساعات الليل، يطوفون احياء العاصمة "المحررة"، فينهض النائمون الى يافطاتهم عندئذ، وتتسع تدريجاً الصفوف من بضع مئات عند الانطلاق لتصل الى عشرات الآلاف وهي تغوص في اعماق بلغراد التي غابت عنها شرطة ميلوسيفيتش. مثلث الديموقراطية منذ اكثر من شهرين، ينتظم الاحتجاج في بلغراد على مساحة واحدة لا تتغير، في قلب العاصمة، وداخل مثلث تطوقه الشرطة ضلعه الواحد 500 متر. جادة كولارتشيفا للطلاب، ميدان الجمهورية لأنصار احزاب المعارضة الديموقراطية، وجادة مخايلو للقاء المجموعتين في تظاهرة واحدة وطواف واحد. ويتميز الاحتجاج الطلابي بالكرنفالية، فمكبرات الصوت الهائلة التي تصم آذان سكان وسط العاصمة، لا تبث خطباً سياسية، وليس من هتافات او شعارات عدوانية ضد ميلوسيفيتش، بل مزيج من اعلام صربية ويافطات تذكر احياناً بالسياسة وبموضوع التظاهرة، مطالبة الرئيس بالاعتراف بانتصار المعارضة في الانتخابات البلدية، الى جانب صور مغني "الريغيه" الجامايكي الراحل بوب هارلي، والبيتلز الذين تحولت اغنيتهم "لنغير العالم" الى نشيد رسمي للتظاهرة، تقطعه لازمة تتكرر، هي موسيقى مقدمة فيلم "تحت الارض" للمخرج البوسني أمير كوستوريكا التي تمزج "الهارد روك" بالانغام المحلية. ويجب انتظار الثالثة من بعد ظهر كل يوم، كي تنتصر السياسة لبعض الوقت على الرقص والغناء والروك، عندما تختلط بها تحت تمثال مخايلو محرر صربيا من العثمانيين في ميدان الجمهورية، خطب قادة المعارضة: فوك دراشكوفيتش زعيم "حركة التجديد الصربي"، شيوعي سابق وكاتب وصحافي معروف، وزوران جينغيتش رئيس "الحزب الديموقراطي"، استاذ الفلسفة في جامعة بلغراد، وفيستا باشيتش رئيسة "التحالف المدني" واستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة ايضاً. والطقس اليومي هو المطالبة باعتراف الرئيس الصربي بانتصار تحالف هذه الاحزاب ومرشحيها في المجالس البلدية لأربع عشرة مدينة على رأسها بلغراد. وداخل المثلث ايضاً تعيش المعارضة "جسدياً"، ففي جادة الكولارتشيفا يقع المقر الرئيسي لپ"الحزب الديموقراطي"، ومن الشرفة في الطابق الرابع، احياناً، يخاطب زوران جينغيتش مؤيديه، ومنها تصدر صحيفته "الديموقراطية"، وفي جادة مخايلو يقع مقر "حركة التجدد الصربي"، وداخلها يحتمي المتظاهرون "المشاغبون"، الذين تبحث عنهم الشرطة، وتأوي منبر دراشكوفيتش المتنقل الذي يرتفع فوق عربة اطفاء مع مكبرات للصوت. وفي شارع متفرع من مخايلو اتخذت فيسنا باشيتش مركزاً لتحالفها المدني، وفي قلب الجادة تقع كلية الفلسفة، التي تزود التظاهرات الطلابية بفيالقها الرئيسية وبقيادتها. ويتعايش داخل المثلث "المتظاهر المحترف" المناوب، و"نصير المعارضة"، وصف طويل من صرافي السوق السوداء للعملات الصعبة، يختلطون بالتظاهرة بعد الظهر عندما يبتلعهم مدها، من دون ان يتخلوا عن رصيفهم المقابل لطابور الشرطة التي تنظر ولا ترى، اعمال الصرافين المزدهرة، منذ بدء حركة الاحتجاج قبل شهرين بسبب ارتفاع الفارق في سعر صرف المارك الالماني الدنانير الصربية مع المصارف الى اكثر من عشرة في المئة، والمارك طبعاً هو العملة المرجع في صربيا، منذ ربط الدينار بالمارك قبل خمسة اعوام. العمال الفاشيون نيللي بائعة السجائر، متظاهرة في الحشد من غير ارادتها، الى جانب الصف الطويل من زميلاتها، عندما يغمرها دفق المتظاهرين بعد الظهر، فلا تغادر موقعاً استراتيجياً مربحاً عند تقاطع مخايلو الكولارتشيفا، دفعت "خلواً" للبقاء فيه، على رغم انها تود ان تسير مع الآخرين ضد ميلوسيفيتش والحزب الاشتراكي، لانها لم تقبض راتباً منذ عام كعاملة في مصنع الاحذية قضى عليه الحصار الاقتصادي الدولي لصربيا، وهي تدفع نصف ارباحها ونصف راتب زوجها لسداد فاتورة التدفئة، 600 دينار شهرياً، وتضطر احياناً الى اطفاء جهاز التدفئة بعض الليل، لاقتصاد بعض عائداتها وشراء حاجات اخرى… ودفع ايجار الركن الذي تبيع فيه سجائرها. ونيللي، التي لا تؤيد ميلوسيفيتش كزميلاتها الآتيات من "الزامون" منطقة مصنع الاحذية وعائلاتها، فضلت التصويت لمرشحي الحزب الراديكالي الذي يرأسه فويتسلاف شيشل اليميني المتطرف، الذي يقتصر برنامجه السياسي عملياً على الدعوة الى طرد مليوني مسلم ألباني يقطنون كوسوفو، كحل لمشاكل صربيا، واكتسح الدوائر العمالية في العاصمة، خصوصاً منطقة "الزامون" التي تضم المجمعات الصناعية الرئيسية، وتحيط بها الاحياء العمالية الصربية والكرواتية، وهي مجمعات اكثرها لا يعمل، ولم يعترض الحزب الاشتراكي على فوز الحزب الراديكالي فيها، على عكس مدينة بلغراد وسبع مدن رئيسية اخرى، حيث فازت المعارضة الديموقراطية، لتحييد اليمين الصربي الفاشي وكسب وده واعادة التحالف معه ضد المعارضة الديموقراطية. وتتميز منطقة الزامون العمالية بالهدوء، فيما تنزل برنونوفو، احدى معاقل الحزب الاشتراكي التي استولت عليها المعارضة، الى الشارع، عند السابعة والنصف من كل مساء، في موعد النشرة الاخبارية للتلفزة الرسمية، ويقرع السكان على الطناجر، وينفخون في الابواق والصفارات، ليطغى ضجيجهم على قارئ النشرة الاخبارية الذي يردد وجهة نظر ميلوسيفيتش المعتادة، بأن البلاد بخير وكل شيء على ما يرام. صراع على التلفزيون وعلى التلفزيون خصوصاً ووسائل الاعلام عموماً يدور الخلاف، وهو مبعث مخاوف الحزب الاشتراكي من انتقال السيطرة على محطات اقليمية كثيرة ووسائل اعلام مختلفة اذا ما تحقق للمعارضة ما تصبو اليه بتكريس فوزها في المجالس البلدية في 14 مدينة اساسية من اصل 18 مدينة يسكنها 70 في المئة من الصرب، وتخول قوانين الادارة اللامركزية لمجالس البلديات حق ادارة وسائل الاعلام القائمة فوق اراضيها، وتعيين طاقم الصحافيين الذي يناسبها لتنفيذ سياستها والدفاع عنها، ويعني ذلك مساعدة المعارضة على اسماع صوتها في طول البلاد وعرضها وبلوغ الداخل الزراعي الذي لا يزال بمنأئ عن تأثير المعارضة الديموقراطية، كما ان السيطرة على وسائل الاعلام قبل ستة اشهر من انتخابات تشريعية ورئاسية يمنح المعارضة منابر جديدة تغير ميزان القوى، لا سيما في بلغراد التي لن يساوم عليها ميلوسيفيتش بأي ثمن، على رغم فوز المعارضة بسبعين مقعداً في مجلس بلديتها، وحصل الاشتراكي على 23 مقعداً، والحزب الراديكالي على 15 مقعداً لأنها تضم اهم محطات التلفزة الصربية "ستوديوب". وحتى في المدن التي اعترفت بها السلطة بانتصار المعارضة، يعمل الحزب الاشتراكي، على افراغ انتصار المعارضين من محتواه، في كراغيوفيتس على بعد 120 كيلومتراً الى الشرق من بلغراد، احتلت الشرطة محطة التلفزة المحلية خلال عملية التسلم والتسليم بين الحزب الاشتراكي والمعارضة، وفرضت على مجلس البلدية الجديدة اجراء مفاوضات على ادارة المحطة، وفيما كانت الاشتباكات تدور مع الشرطة حول مبنى المحطة، كان ميلوسيفيتش يقترح حلاً بربط المحطات الاقليمية بشبكة التلفزة الوطنية، وهو الحل "الأمثل" الذي قد يطبق في المدن الاخرى ويخفف من الخسائر التي تعرض لها فريق الرئيس الصربي. والى جانب ضغط الشارع، يتعرض ميلوسيفيتش لضغط "منظمة الامن والتعاون الاوروبي، ولجنة فيليبي غونزاليس للتحقيق في الانتخابات التي قضت بفوز المعارضة في 14 مدينة. ويراهن الرئيس الصربي على دوره في البوسنة والحاجة اليه كعامل استقرار في البلقان، ومواصلة تنفيذ اتفاق دايتون، لتقنين الضغوط الدولية ضده، وقدرته على لجم صرب البوسنة واليمين الفاشي الصربي لمنع قيام جبهة موحدة في الغرب ضده. وعلى رغم كل الاحتجاجات والتظاهرات فان ميلوسيفيتش قد يخرج من هذه الازمة بسلام، كما خرج من سابقاتها العام 1991 عندما ارسل الجيش لقمع الشارع واسكات المعارضة، الا انه لن يخرج سليماً تماماً، لأن الأزمة الاقتصادية ستشتد في الشهور المقبلة، ولن تغفر له هذه المرة حروبه من اجل صربيا الكبرى، والمقاطعة الدولية، التي رصت صفوف الصرب خلفه. تجديد الصناعة فبعد ستة اشهر على رفع الحظر فعلياً، لاحت تباشير انتعاش اقتصادي من خلال عودة الاستثمارات لكن سرعان ما اوقفتها حركة الاحتجاج التي كلفت الشهر الماضي خمسين مليون مارك كرواتب اضافية للشرطة، فيما الغى الاتحاد الاوروبي اتفاقاً يمنح تسهيلات تجارية لصربيا، ومنعت بريطانيا التوقيع على اتفاق يمول فيه نادي لندن 30 في المئة من عملية تجديد شبكات الاتصال الهاتفية الصربية، ووضعت واشنطن فيتو على انضمام صربيا الى صندوق النقد الدولي وتأجل قرار بجدولة ديونها البالغة تسعة بلايين دولار الى الصيف المقبل، لاجبار ميلوسيفيتش على الرضوخ لمطالب المعارضة و"لجنة غونزاليس". وتحتاج صربيا لتجديد صناعتها التي يعود بناؤها الى الخمسينات والستينات، الى 3 مليارات دولار سنوياً، طيلة ثمانية اعوام، لكي تعود حسب تقديرات الخبراء الى الوضع الذي كانت عليه العام 1989، عندما كان متوسط دخل الفرد السنوي يبلغ 2500 دولار، وكانت تستعد لتقديم طلب انضمام الى الاتحاد الاوروبي، فيما يعيش ثلث سكانها اليوم تحت مستوى الفقر، بعد حروب البوسنة، ولا يتجاوز متوسط دخل الفرد سنوياً 800 دولار. ولا يستطيع الحزب الاشتراكي مواصلة اعتماد سياسة اقتصادية زادت فداحة المقاطعة الاقتصادية، بالاستمرار في دفع رواتب 400 الف عامل، 70 في المئة منهم لا يعملون، وكانت آلة طبع الاوراق النقدية وحدها توفر المصدر الرئيسي للوفاء برواتبهم، مما ادى الى انهيار الدينار وبلوغ التضخم رقماً من ستة اصفار كانت الرواتب تخسر قوتها الشرائية بشكل مستمر خلال دقائق، وكان مؤشر التضخم يرتبط بعقارب الساعة. ويتطلب الخروج من الازمة القيام باصلاحات اقتصادية وسياسية عميقة، كالتخصيص الذي سيفضي في كل الاحوال الى صرف الآلاف من العمال في الفترة، وحرمان الحزب الاشتراكي من قاعدته الانتخابية، التي حافظ عليها حتى الآن، لكنها لن تنجو لوقت طويل من ضرورة القيام بها، وسيجري في صربيا ما جرى لغيرها من تحولات سياسية واقتصادية، في بلدان اوروبا الشرقية الاشتراكية السابقة