أعادت حادثة إعدام العراق لأربعة طلاب أردنيين الاسبوع الماضي وردود الفعل الأردنية العنيفة عليها الى الأذهان الطبيعة المتقلبة وغير المستقرة للعلاقات الأردنية - العراقية خلال العقود الأربعة الماضية. فمن الانقلاب العسكري على الحكم الملكي الهاشمي في العراق في 1958، وتسلم حزب البعث مقاليد الحكم الجمهوري الى هدنة الستينات، ثم الى افتراق كامل في السبعينات إثر إعدام العراق عدداً من الطلاب الأردنيين لأسباب سياسية، الى تحالف استراتيجي - عضوي في الثمانينات إبان الحرب العراقية - الايرانية، الى تقلب بين انقلاب أردني ضد العراق، وانقلاب معه وبالعكس في التسعينات خلال حرب الخليج الثانية وبعدها، لم تشهد العلاقات الثنائية الأردنية - العراقية حتى اليوم استقراراً على الصعيد الاستراتيجي. وكان الأردن أعلن الاسبوع الماضي طرد سبعة ديبلوماسيين عراقيين، واستدعى القائم بأعمال السفارة الأردنية في بغداد إثر إقدام السلطات العراقية على رغم وساطة قام بها العاهل الأردني الملك حسين - على إعدام أربعة طلاب أردنيين جامعيين بتهمة المتاجرة بقطع غيار السيارات. وكان الأردن استدعى سفيره لدى بغداد بسام قاقيش نهاية العام الماضي من دون ان يعيده الى موقعه أو يرسل بديلاً عنه اثر اغتيال أحد موظفي السفارة الأردنية على طريق عمان - بغداد. وتعرض السفير الأردني لمضايقات عراقية الى درجة إلقاء النفايات امام منزله. ويأتي قرار خفض التمثيل الديبلوماسي الأردني في بغداد الى مستوى أقل من منصب القائم بالأعمال، وخفض عدد أعضاء البعثة الديبلوماسية العراقية في عمان الى النصف، ليعكس درجة عالية من الغضب الأردني الذي تجاهل الى حد كبير مخاطر خسارة مصالح أردنية اقتصادية كبيرة في العراق، دون توفر امكان تعويضها من مصادر اخرى في المدى المنظور. فالأردن يحصل على كل احتياجاته من النفط من العراق، وبأسعار تفضيلية تصل عملياً الى نصف السعر الدولي في مقابل تصدير بضائع أردنية بضمانة البنك المركزي الأردني في اطار بروتوكول تجاري يجدد سنوياً. وعلى رغم المصالح الأردنية الاقتصادية في العراق، اضطرت الحكومة الأردنية برئاسة الدكتور عبدالسلام المجالي الى استدعاء السفير العراقي في عمان نوري الويس وابلاغه طرد سبعة ديبلوماسيين عراقيين وسحب القائم بأعمال السفارة الأردنية في بغداد عادل سويدان، وتحذير بغداد من عواقب تنفيذ حكم الاعدام بحق أردني خامس بتهمة التهريب، وهو عامر شهاب الدين الذي صدر الحكم عليه في 7 كانون الأول ديسمبر الجاري. وعكست تصريحات كل من رئيس الوزراء الأردني بالوكالة الدكتور عبدالله النسور ونائب رئيس الوزراء وزير الخارجية بالوكالة الدكتور جواد العناني الدكتور المجالي ووزير الخارجية الدكتور فايز الطراونة كانا يحضران مؤتمر القمة الاسلامية الذي عقد في طهران استياء الأردنيين، وفي مقدمهم الملك حسين من الطريقة التي تعامل فيها العراق مع قضية الطلاب الأردنيين من دون أخذ الوساطة الأردنية في الاعتبار، اذ ان النسور اعتبر انه ليس بإمكان الأردن تفهم الاجراء العراقي أو مجاملته "على حساب أرواح ودماء الأردنيين". الداخل مفقود والخارج مولود وقال العناني ان إعدام الأردنيين الأربعة مستهجن ومدان، ويتنافى مع أصول الاجراءات القانونية وأبسط مبادئ حقوق الانسان، فيما قال وزير الداخلية السيد نذير رشيد في جلسة لمجلس النواب ان "الداخل الى العراق مفقود والخارج منه مولود، في اشارة الى خطورة ذهاب الأردنيين الى العراق، واستنكاره إعدام الطلاب الأربعة. وأضاف ان السلطات العراقية "قتلت أربعة أردنيين دون انسانية وبدم بارد". وكان ناطق رسمي أردني استنكر بشدة اعدام المواطنين الأردنيين على رغم جهود الوساطة الأردنية "على أعلى المستويات" في اشارة الى محاولة الملك حسين التوسط لإنقاذ الطلاب الأردنيين من حبل المشنقة، ويرى مراقبون ان الأردن سيتخذ مزيداً من الاجراءات الانتقامية في حال مضت السلطات العراقية في تنفيذ حكم الاعدام بحق الأردني الخامس بتهمة التهريب. وبعثت الحكومة العراقية رسالة الى السفارة الأردنية في بغداد أبلغتها فيها بإعدام الأردنيين الأربعة ودعتها الى إبلاغ ذويهم لتسلم جثثهم وشهادات الوفاة الخاصة بهم. ووصف النسور يوم اعدام الأردنيين الأربعة بأنه "حزين ومفجع". غير انه على رغم الاستنكار الشديد والإدانة الواضحة للممارسات العراقية، فإن الأردن يواجه معضلة في علاقاته مع بغداد، إذ ان اعتماده على النفط العراقي بعد وقف ضخ النفط السعودي عبر انبوب الپ"تابلاين" في 15 ايلول سبتمبر 1990 اثر الغزو العراقي للكويت، وحصول الأردن على اسعار تفضيلية من العراق لم يمكنه الحصول عليها من أي مصدر آخر، فضلاً عن اعتماد الأردن على السوق العراقية لتصدير بضائعه في ضوء محدودية التصدير للدول العربية الخليجية، ومواصلة اسرائيل فرض سقف متدن للصادرات الاردنية للضفة الغربية، فإن الاستغناء عن العراق صار ضرباً من الانتحار الاقتصادي في غياب البدائل العملية وتفاقم الأزمة الاقتصادية التي من أبرز الدلائل عليها بلوغ نسبة البطالة 25 في المئة. غزو الكويت وعلى رغم مضي نحو سبع سنوات على حرب الخليج الثانية، بقيت الكويت مترددة في اعادة علاقاتها الديبلوماسية مع الأردن خصوصاً أن نحو 200 الف أردني فلسطيني اضطروا الى مغادرة الكويت والعودة الى الأردن، وتقول مراجع سياسية أردنية انه كان بإمكان الكويت التأثير في الرأي العام الأردني المتعاطف مع العراق وربما تغييره لو انها فتحت الأبواب أمام الأردنيين واستثمرت الاستياء العام من العراق وسط المواطنين الأردنيين الذين اضطروا الى الهروب من الكويت وخسارة استثماراتهم ووظائفهم هناك. كما ان الجفاء الذي تعرض له الأردن من جانب الدول العربية الخليجية إبان الأزمة وبعدها دفع الأردن أكثر فأكثر الى الحضن العراقي فضلاً عن ترك المملكة تحت رحمة العلاقة الاقتصادية المتنامية مع بغداد مع كل ما يعنيه ذلك من تبعات سياسية، اضافة الى ان الأردن اضطر الى الاندفاع نحو سلام مع اسرائيل بسبب العزلة العربية التي فرضت عليه، الى جانب اعتبارات استراتيجية اخرى تتعلق بتوقيع اتفاق اوسلو. بين مدّ وجزر وشهدت العلاقات الأردنية - العراقية تقلبات عدة خلال السنوات السبع الماضية. فمن تعرض ميناء العقبة الأردني الى حصار دولي بسبب تعاطف عمان مع العراق، مع ما رافق ذلك من ضغوط اميركية اقتصادية وسياسية، وغياب الانفتاح الخليجي في أوائل التسعينات، الى تعاون الأردن مع الولاياتالمتحدة للعمل على تغيير النظام العراقي، وعودة العلاقات مع المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج العربي باستثناء الكويت، بقيت العلاقات الأردنية - العراقية بين مد وجزر. وشمل هذا التقلب في المواقف استضافة الأردن حسين وصدام كامل حسن المجيد، صهري الرئيس العراقي، ودعوة الملك حسين المتكررة الى اسقاط النظام العراقي. ورافق ذلك سماح الأردن لحركة "الوفاق الوطني العراقي"، احدى فصائل المعارضة العراقية، بالاقامة في الأردن وتشغيل اذاعة موجهة ضد النظام العراقي انطلاقاً من الأراضي الأردنية. لكن فشل الولاياتالمتحدة في تنفيذ أكثر من مخطط للاطاحة بالنظام العراقي دفع الأردن الى التراجع عن موقفه المناوئ لصدام حسين، وحدا به الى تبني مواقف اكثر واقعية وتوازناً واعتباراً لمصالحه الاقتصادية. واعرب الأردن عن استيائه إزاء الفشل الاميركي في تغيير النظام العراقي بالتراجع عن موقفه الداعي الى اطاحة نظام بغداد، وزيادة قيمة البروتوكول التجاري الذي كانت الحكومة خفضته الى النصف في 1996. وساهم بطء تطبيع العلاقات الأردنية - الخليجية في تمسك المملكة بعلاقاتها مع بغداد، في ضوء اغراءات الاستمرار في الحصول على النفط العراقي بنصف السعر الدولي، واعتماد الصناعة الأردنية على الصادرات الى السوق العراقية الرهينة والسهلة، وانعدام البدائل العملية. تمويل النظام وعلى رغم استجابة الحكم في العراق لعودة الأردن عن دعوته الى تغيير النظام في بغداد لأسباب متعلقة بأن الأردن قاعدة للشركات العراقية التي تنشط واجهة لتمويل النظام العراقي، ولأن الأردن يمثل المخرج الوحيد للمسؤولين العراقيين في تحركهم السياسي الدولي فضلاً عن استثمار العراق الكبير والفعال في اجهزة الاعلام والرأي العام في الأردن، إلا ان الخلافات استمرت داخل الأردن في شأن سبل التعامل مع بغداد مع احتمالات انقلاب العراق على الأردن في حال رفع العقوبات الدولية المفروضة عليه. ويرى سياسيون من أبرزهم رئيس الوزراء الأردني السابق عبدالكريم الكباريتي، وهو من أنصار الابتعاد عن العراق وتقليل الاعتماد الاقتصادي عليه لتطوير علاقات متوازنة مع الخليج، انه ليس بالامكان اقامة علاقة استراتيجية مع العراق مع استمرار الحصار المفروض عليه. ويقول الكباريتي - الذي وجه انتقادات شديدة للنظام العراقي خلال ترؤسه الحكومة خلال الفترة من شباط فبراير 1996 الى آذار مارس 1997 - ان المصدّرين الأردنيين يراهنون على استمرار الحصار الدولي المفروض على العراق وانعدام الخيارات العراقية، ما يجعلهم "يستثمرون في استمرار معاناة الشعب العراقي". ويعتقد كثير من المحللين ان العراق لن يستمر في منح الأردن النفط بأسعار متدنية ولن يسمح للمصدرين بالاستمرار في استغلال السوق العراقية المحاصرة في حال رفع العقوبات الدولية، مما يمكن ان يوجه ضربة خطيرة للاقتصاد الأردني. ويحذر هؤلاء من ان الرئيس العراقي، في حال نجاحه في تجاوز العقوبات الدولية، لن ينسى استضافة الأردن لصهريه ودعوة الأردن الى اطاحته. ويفسر المحللون إقدام العراق على إعدام الأردنيين الأربعة بحجة تهريب قطع غيار سيارات على رغم توسط الملك حسين والحكومة الأردنية، بأنه مؤشر مهم الى الارتياح النسبي الذي يشعر به النظام العراقي إثر انفتاح عدد من الاطراف العربية والدولية أخيراً على بغداد خصوصاً سورية ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر وفرنسا وروسيا، الأمر الذي يحرر بغداد من الحرص على اقامة علاقات دافئة مع الأردن. كما ان رفض الدول العربية الموافقة على توجيه ضربة اميركية جديدة للعراق بسبب أزمة مفتشي الأممالمتحدة، ساهم في التقليل من شعور بغداد بالعزلة اقليمياً ودولياً. غير ان أنصار مواصلة العمل على تحسين العلاقات الأردنية مع بغداد، على رغم الخلافات السياسية بين البلدين، يصرون على ان الأردن لا يستطيع التخلي عن مثل هذه العلاقات في ضوء عدم استجابة دول الخليج العربية لاحتياجات الأردن الاقتصادية، واستمرار البرود واحياناً التوتر في العلاقات مع دمشق بسبب عملية السلام والتنافس على الدور الاقليمي. كما ان فشل معاهدة السلام الأردنية مع اسرائيل في تحقيق انفراج اقتصادي، لا يترك خيارات كثيرة أمام عمان، خصوصاً ان النظام العراقي لا يبدو على وشك السقوط، مع احتمال تزايد فرص اعادة تأهيله بمرور الوقت وتراجع نفوذ السياسة الاميركية في الخليج