وحده الخبز لم يعد سؤالاً مطروحاً بعد احداث العنف التي شهدتها اربع مدن في جنوبالاردن لثلاثة ايام متتالية. الخبز كان العنوان والسبب المباشر والمعلن لما جرى بعدما قررت الحكومة رفع اسعاره في مقابل دعم نقدي للمواطنين يغطي فارق الارتفاع في اسعار القمح ومشتقاته ومن ضمنها الخبز واعلاف المواشي. لكن اسعار الخبز الجديدة لم تعد موضع سؤال بعد الاحداث مباشرة. ويقول وزير الاعلام الاردني مروان المعشر ان مجموع المشاركين في التظاهرات لم يزد على ألفي شخص في كل المناطق التي شهدت احتجاجات. ولم يتسبب تدخل رجال الامن في اراقة قطرة دم واحدة، وهو ما اكده العاهل الاردني الملك حسين، وقال اكثر من مسؤول اردني ان الخسائر المادية من جراء اعمال الشغب لم تتجاوز ثلاثة ملايين دينار اردني، اي 4.25 مليون دولار اميركي تقريباً. غير ان تواضع الارقام السابقة لم يعكس حجم الازمة التي عاشها الاردن في تلك الايام ولا حجم الاسئلة عن المستقبل والنتائج المباشرة والبعيدة المدى للحدث الذي بدا اكبر بكثير من حجمه قياساً على مظاهر الاحتجاج والعنف في اي مكان من العالم. وتحدث الملك حسين، في رسالته إلى الجيش وقوى الامن اثر الاحداث، عن دور الجيش وأجهزة الامن في "وأد الفتنة ووقف قوى الشر الغاشمة التي خططت لها لبلوغ اهدافها. فصنتم بذلك الامن الوطني، وديموقراطية الاردن". وقاد الملك بنفسه الحكومة وكل اجهزة الدولة لمواجهة الموقف، وتعهد الضرب بشدة كل مظاهر الاحتجاج الموجهة ضد الحكومة دون غيرها، ذلك انها لم تكن موجهة ضد الحكم، اذ ان المتظاهرين كانوا يهتفون للملك. وعلى العموم فقد تراجع السؤال عن الخبز كنتيجة مباشرة للاحتجاج مخلياً المكان لثلاثة اسئلة اكثر الحاحاً: 1- ما مدى تأثير الاحداث الاخيرة في مستقبل الاردن القريب وهل هي بداية لاختلالات سياسية واجتماعية جديدة؟ 2- ما دور العراق فيها وما هو مستقبل العلاقات بين البلدين؟ 3- ما هو مصير الحكومة الحالية برئاسة السيد عبدالكريم الكباريتي التي حظيت بدعم غير مسبوق من العاهل الاردني قبل الاحداث الاخيرة وبعدها؟ وحاورت "الوسط" ستة مسؤولين اردنيين بينهم وزيران في الحكومة وسياسي معارض وثلاثة من التيار الوسطي بعضهم من اقرب المقربين إلى الحكم، في محاولة للاجابة عن الاسئلة البارزة بعد الاحداث الاخيرة، اضافة إلى عدد من السياسيين المجربين تحدثوا لكنهم اشترطوا عدم ذكر اسمائهم. البداية: الخبز كان لقرار الحكومة "تبديل سياسة دعم القمح" ردود فعل سلبية في الاوساط السياسية والشعبية المختلفة بدأت بانقسام مجلس النواب ثلاثة اقسام متساوية تقريباً، احدها مع القرار والثاني ضده والثالث يقترح حلاً وسطاً اصبح معارضاً بعدما اتخذت الحكومة القرار. وهذا ما فسر قرار الملك حسين بفض الدورة الاستثنائية لمجلس الامة بعد بعض ساعات من اندلاع الاحداث. ينقسم الاردن، ادارياً، إلى ثلاثة اقاليم يضم كل منها اربع محافظات. ويضم اقليم الجنوبمحافظات الكرك والطفيلة ومعان والعقبة ما لا يزيد على 10 في المئة من مجموع السكان، لكن مساحته تقارب ثلثي مساحة الاردن. ولم يتأثر الجنوب كغيره من الاقاليم بالهجرات القسرية المتتالية للفلسطينيين 1948 و1967 و1990 فظل محافظاً اكثر من الاقاليم الاخرى، كما ظل اعتماد السكان في حياتهم المعيشية على الوظائف الحكومية المحدودة الدخل من جهة وعلى تربية المواشي، علماً بأن رقعة الاراضي الزراعية متواضعة جداً في هذه المناطق. إلى كل ذلك، فإن المواطنين الاردنيين في الجنوب يعتبرون انفسهم الاكثر ولاء للحكم منذ الثورة العربية الكبرى مطلع القرن الحالي، وان معظم ابنائهم في الجيش وقوى الامن والجهاز الاداري للدولة. ومن كل ما سبق فإن قيام الاضطرابات في الجنوب يحمل دلالات كثيرة، بصرف النظر عن حجم الاحتجاجات واعمال الشغب، خصوصاً ان احتجاجات مماثلة حدثت في الجنوب انطلاقاً من مدينة معان عام 1989 وشكلت عنواناً لتغيير شامل تمثل في اصلاحات سياسية واقتصادية جذرية في البلاد. والى ان يقول القضاء كلمته، فإن كل الشواهد والتصريحات الرسمية الاردنية ترجح ان الاحتجاجات بدأت عفوية لكنها استثمرت سياسياً حسب المصادر الرسمية لزعزعة الامن واطاحة الحكومة. اصابع الاتهام وتقول السيدة ليلى شرف عضو مجلس الاعيان انه لولا وجود الاحتقان لما استطاع احد ان يفعل شيئاً بصرف النظر عن المصالح والتدخلات الخارجية. هذا الاحتقان بعض اسبابه محلية وبعضها الآخر افرزته اوضاع المنطقة، فثمة عملية تغيير متسارعة اوجدت هذه المعضلة. وتعتقد السيدة شرف، وهي وزيرة اعلام سابقة وزوجة رئيس الوزراء الراحل عبدالحميد شرف، بأن التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة التي اصابت مناحي الحياة الاردنية منذ 1989 احدثت تأثيرات اعمق بكثير من التطورات الطبيعية التي يمكن ان تحدث في فترة زمنية طولها سبع سنوات. وترى انه لا ينفعنا ان نوجه اصابع الاتهام إلى "هذه الشخصية او تلك او إلى هذه الجهة او تلك"، على خلفية الاحداث الاخيرة بل لا بد من النظر إلى جوهر المشكلة. فحالة الاحتقان قائمة وجاء موضوع الخبز والاعلاف، وهو مسألة حساسة في كل العالم، فلم يعالج بالحساسية المطلوبة ولم يلتفت القرار إلى فئات كثيرة من الشعب. اما السيد ابراهيم عزالدين الوزير في ثلاث حكومات سابقة منذ عام 1989، فيرى ان الخطأ الرئيسي للحكومة انها لم تأخذ في الاعتبار ان الخبز ليس كأي مادة استهلاكية، وكان عليها ان تتدرج في رفع الاسعار. وهو أمر لجأت اليه حكومات سابقة، بدليل الرفع التدريجي لأسعار مشتقات النفط التي تأتي في الدرجة الثانية بعد الخبز من حيث حساسيتها. الاسلاميون ويقول الشيخ حمزة منصور، الناطق الرسمي باسم نواب حزب "جبهة العمل الاسلامي"، ان رفع اسعار الخبز ادى إلى ارتفاع نسبته 20 في المئة من فاتورة الاستهلاك للمواطن، و "نعتقد بأن على كل القوى ممارسة مزيد من الضغط على الحكومة للتراجع عن قرارها". ودافع عن الاتهامات التي تواجه إلى موقف الاسلاميين، عارضاً مواقف نوابهم داخل البرلمان حتى خروجهم الاحتجاجي من الجلسة المخصصة للبحث في قرار الخبز بعدما فشلت جهودهم في تأمين غالبية نيابية معارضة للقرار. وقال ان "العنف ليس ضمن برامج حزب جبهة العمل الاسلامي ونحن نعتقد بأنه لا يحقق هدفاً". اما في شأن مسيرة "المليون جائع" التي منعت الحكومة الترخيص لها "فقد درسنا ردود الحكومة وقدّرنا الظرف الحالي، اذ لا يجوز ان نمارس عملاً قد يؤدي إلى عنف". لكن الشيخ منصور يعتقد بأن اعمال العنف التي وقعت مارسها مواطنون عاديون ولا يقف وراءها حزب سياسي. ودافع عن موقف الاسلاميين قائلاً انهم "ليسوا تجاراً يقطفون ثمار ما يفعله الآخرون، ففي عام 1989 قطفنا بعض ثمار تواصلنا مع شعبنا وكذلك عام 1993 حتى في ظل قانون الانتخاب بالصوت الواحد الذي فصّل من اجل اضعافنا". دور العراق ويقول وزير بارز، رفض كشف اسمه: "لا شك في اننا في ازمة مع العراق غير مسبوقة، فقد ثبت من التحقيقات انه بدأ يحرك عملاءه واتباعه لزعزعة امننا. فهي المرة الاولى التي يتدخل فيها في شؤوننا الداخلية". وأضاف: لم تتدهور علاقاتنا إلى هذا الحد منذ العام 1978 عندما استؤنفت بعد اعدام طلاب اردنيين في العراق قبل ذلك التاريخ". اما وزير الاعلام الدكتور مروان المعشر فيؤكد تورط جهات خارجية في الاحداث، "ولا نقول ان الجهات الخارجية هي كل السبب لكنها استغلت الاوضاع على حد تعبيره". وقد اجاب العاهل الاردني عن سؤال في شأن تورط العراق في الاحداث، قال: "تخيلكم ليس بعيداً عن الحقيقة". واعترف مسؤول اردني بالحذر الذي تمارسه بلاده عند الحديث عن تورط بغداد لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية المتبادلة، لأن الاردن لا يريد قطع الامدادات النفطية العراقية عنه كما لا يريد لصادراته إلى العراق ان تتوقف. ويقول: "مصالحنا مرتبطة تماماً باسترداد ديوننا البالغة نحو 1.2 مليار دولار". ويستورد الاردن معظم حاجاته النفطية من العراق ويبلغ مجموع فاتورة استهلاكه النفطي حوالى 500 مليون دولار، هي قيمة حاجته من النفط التي تبلغ 70 ألف برميل يومياً. ويشير اكثر من مصدر إلى ان العراق يمنح الاردن 33 ألف برميل يومياً مجاناً، بينما يدفع ثمن الكمية الباقية 37 الف برميل يومياً لتجار اردنيين سداداً لديونهم على العراق. اي انه لا يدفع للعراق ثمناً مباشراً. وفي المقابل - كما يلاحظ المسؤول الاردني - ان الاردن ما زال الرئة "القانونية" الوحيدة للعراق. واضافة إلى العلاقات الاقتصادية، تخشى عمان ان تقرر بغداد طرد حوالى خمسة آلاف طالب اردني يدرسون حالياً في الجامعات العراقية، من هنا اهمية قرار وزير التعليم العالي الاردني بالغاء بعثات الوزارة إلى هذه الجامعات. لكل ما سبق، يقول المسؤول الاردني ذاته، ان بلاده لا تنوي اتخاذ اجراء ضد العراق ليس بسبب مصالحها فحسب "بل لأننا لا نريد زيادة آلام الشعب العراقي فوق آلام الحصار المفروض عليه، ولكن علينا ان نتنبه إلى تصرفات نظامه الذي بدأ بالتدخل في شؤوننا". الطلاق وقع ويرى السيد طاهر المصري رئيس الوزراء السابق ان الطلاق في المواقف السياسية بين الاردنوالعراق وقع قبل الاحداث الاخيرة، ولكن كان لا بد من مراعاة المصالح الحقيقية، خصوصاً في ظروف الاردن الحالية "وأخطر ما فيها انه لا يستطيع سداد فاتورة نفطه الباهظة والبالغة نحو 500 مليون دولار". اضافة إلى ذلك، فإن جزءاً من البروتوكول التجاري مازال سارياً. كما ان الاردن يمكن ان يفيد عند نفاذ اتفاق "النفط في مقابل الغذاء" بين العراق والأمم المتحدة عن طريق ميناء العقبة وتصدير مزيد من المنتجات الاردنية إلى العراق. في مقابل ذلك، فإن المسؤولين العراقيين يكررون القول انهم لا يريدون ايقاع الضرر بالمواطن الاردني، وهم يدركون في الوقت نفسه ان الاردن منفذهم الوحيد على العالم. وتعترف السيدة ليلى شرف بأنها ليست في موقع يوفر لها معلومات عن وجود تدخل خارجي، لكنها تعتقد بأن توجيه الاتهامات قد يضر بجوهر المشاكل الداخلية الاساسية ويحول عنها الانظار، وهي مشاكل "لا يمكن حلها إلا بحوار عميق يجري في طريق من مسربين بين الحكومة والبرلمان وإلا فقدت الديموقراطية هيكلها". وقالت: "اضافة إلى ذلك لا نزال نتعرض لضغوط خارجية تفاقم اوضاعنا الداخلية، واصبح النظام العربي يتعرض يومياً للطمات، ولعل آخرها وأكثرها مساساً بالكرامة العربية اعتداء اريتريا على جزر اليمن، وهي التي لم تظهر كدولة الا بالأمس القريب وكنا عوناً لها في ثورتها من اجل استقلالها. اضف إلى ذلك اللطمات التي تأتينا من تعثر مسار السلام وتعنت اسرائيل ومحاولات تركيا السيطرة على المياه والمعاناة التي يمر بها العراق. لذلك كان علينا مع مراجعتنا لمسيرتنا الداخلية ان نساهم مساهمة رئيسية، كما تعودنا في السابق، في اعادة اللحمة العربية مع اشقائنا ومراجعة علاقاتنا بدول الجوار منبثقين من مواقف عربية موحدة لبناء علاقات على اسس متينة من الاحترام والمصالح المتبادلة". ويركز السيد ابراهيم عزالدين على الاسباب الداخلية فيقول ان العالم بدأ منذ 1989 بتفكيك دولة الرفاه بعد تراجع الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي لاحقاً. وقد قام هذا النموذج رداً على النموذج الاشتراكي، لكن التركيز اليوم اصبح على السوق الحرة ما دفع الدول إلى اعادة هيكلة اقتصادياتها على نحو يتحمل فيها المواطن العبء الكامل للخدمات التي تقدم اليه، وهو أمر اكثر صعوبة في دول العالم الثالث حيث تجري من دون زيادة حقيقية في المداخيل. ويلاحظ ان الاردن لا يستطيع الخروج عن اطار التوجه الدولي لكن حكومته تستطيع ان تجعل العلاج اخف ألماً مما يجري حالياً. اما الشيخ حمزة منصور فيرى ان اتهام الحكومة الاردنيةالعراق يهدف إلى تشويه الموقف العراقي "كمبرر للتنكر له". لكنه يستدرك: "لست محامياً عن العراق ولا أدافع عن اي نظام، لكنني اتكلم عن بلد عربي شقيق لديه قدرات كبيرة وشعبه يعاني وطأة الحصار. وان اتهام العراق ليس جديداً على الحكومة فالعلاقات معه تعرضت لانتكاسات خطيرة بلغت ذروتها في عهد هذه الحكومة لكنها لم تبدأ معها. فمن علاقات متميزة ابان حرب الخليج الاولى وحتى الثانية إلى تراجع ففتور إلى احتضان بعض المنشقين والجهات التي تعمل ضد المصلحة القومية". وأشار إلى ضغط اردني رسمي متزايد على العراق "مع ان واجبنا ومصالحنا تقتضي ألا نضغط عليه في ظروف الحصار". ودافع الناطق الرسمي باسم نواب الحركة الاسلامية عن حزب البعث الاردني الموالي للعراق قائلاً انه حزب لم نلمس لديه سوى الرغبة في العمل وفقاً للقانون، وبادر ذات مرة إلى الحيلولة دون قيام تعاون بين حزب غير مرخص له وعدد من الاحزاب المجازة في الاردن لأسباب قانونية. واعتبر منصور ان اعتقال قيادات حزب البعث اعتقل 6 من القيادة العليا للحزب المكونة من 11 عضواً "لا ينسجم مع الحرية والديموقراطية". وطالب الحكومة باعادة النظر في سياستها ازاء العراق. شعرة معاوية وعلى رغم عدم تردد الملك حسين والحكومة الاردنية في توجيه الاتهام الصريح إلى العراق، إلا انهم في الوقت نفسه لا يريدون ل "شعرة معاوية" ان تنقطع لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية المتبادلة، علماً بأن العلاقات السياسية بين البلدين مجمدة تماماً منذ اكثر من ثلاث سنوات. غير ان تدهورها تسارع منذ لجوء الفريق الاول حسين كامل حسن إلى عمان الصيف الماضي واعلانه من الديوان الملكي بدء العمل لاطاحة النظام العراقي. ويحتضن الاردن عدداً كبيراً من المعارضين العراقيين، اضافة إلى نحو 20 ألف مواطن عراقي يقيمون في اراضيه منذ بضع سنوات. وسمح باقامة محطة اذاعة خاصة بالمعارضة العراقية وهي محطة الاذاعة الخاصة الوحيدة المرخص لها في الاردن. ووصلت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ احوالها في عهد الحكومة الحالية بسبب المواقف المتشددة لرئيس الوزراء من النظام العراقي. ويقول مواطن اردني زار العراق اخيراً ان العراقيين يوجهون انتقادات متزايدة إلى الكباريتي ويحملونه مسؤولية التدهور في العلاقات لكنهم يمتنعون عن انتقاد الملك حسين. وكانت الحكومة الاردنية طردت الملحق الصحافي العراقي وكاتباً في السفارة وألغت اقامة موظف ثالث بعدما اتهمتهم بالتدخل في احداث الشغب الاخيرة. السياسة الداخلية نقل احد المقربين من السيد زيد الرفاعي رئيس الوزراء السابق الذي اطاحته اعمال الاحتجاج عام 1989 عنه قوله ان الملك حسين لم يمنحه فرصة ولو لأسبوعين لترتيب الاوضاع السياسية والامنية الداخلية قبل ان يقيله، ويبدو حتى اليوم كأنه يتحمل مسؤولية الازمة اقتصادياً وسياسياً. ويعقد سياسي اردني مجرب مقارنة بين رؤساء اربع حكومات تعامل الملك حسين مع واحد منهم فقط على نحو مختلف هو رئيس الوزراء الحالي. وقال ان حكومة الرفاعي تحملت مسؤولية ما وقع نتيجة تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية ساهم فيها قرار فك الارتباط القانوني والاداري مع الضفة الغربية عام 1988 وخفض قيمة الدينار بعوامل السوق وظهور الاختلالات الاقتصادية. اما حكومة طاهر المصري فاستقالت بعد اقل من ستة اشهر على تشكيلها اثر توقيع غالبية برلمانية عريضة ضدها رفعتها إلى الملك، وهي عريضة غير كافية لاسقاط الحكومة، لكن الملك قبل استقالة الوزارة. واستقالت حكومة الدكتور عبدالسلام المجالي ايضاً بسبب ازمة "العلاقات العامة" التي عانتها ووقوف غالبية السياسيين التقليديين ضدها. ويقول السيد طاهر المصري ان الوضع بالنسبة إلى حكومته مختلف فهو قدم وزارته ثمناً للخروج من آثار ازمة الخليج والتحضير لمؤتمر مدريد للسلام، ولولا استقالتها لتهددت مسيرة السلام والديموقراطية الاردنية. وكشف للمرة الاولى مذكرة قدمها 60 نائباً من اصل 80 إلى الملك حسين ضد حكومة المجالي عام 1994 اثناء رئاسة المصري لمجلس النواب. وقال انه تعامل مع المذكرة بسرية تامة وقدمها إلى الملك من دون نشرها اعلامياً. لكن الوضع مختلف مع الحكومة الحالية التي نالت دعماً غير مسبوق من العاهل الاردني الذي واصل دعمه اياها بعد الاحداث الاخيرة ما فسره سياسيون "بردة فعل خوفاً من ان تصبح اعمال الاحتجاج اسلوباً اردنياً في طرد الحكومات". غير ان الامر ليس على هذا النحو كما يبدو. اذ يرى المصري "ان حكومة الكباريتي جاءت بدعم ملكي كامل، ومع مرور الايام اصبح الحكم طرفاً في القرارات التنفيذية فاختلطت الاوراق لأن الخلافات مع الحكومة لم تكن على السياسات وانما على الاخراج والتطبيق في بعض الاحيان". ويشير إلى ان الكباريتي رفض كل الحلول الوسط في شأن مسألة الخبز على سبيل المثال، وأن لا بد من فك الارتباط بين الملك والحكومة لتواجه نتائج قراراتها امام البرلمان والمواطنين. نادي الرؤساء والتقى الملك حسين الاثنين 26 آب اغسطس الفائت رؤساء الحكومة السابقين: احمد اللوزي وزيد الرفاعي ومضر بدران وأحمد عبيدات وطاهر المصري وعبدالسلام المجالي، في حضور رئيس الوزراء الحالي الكباريتي، في خطوة غير مسبوقة جعلت من مصطلح نادي رؤساء الوزراء حقيقة واقعة. وأكثر ما لفت الانتباه حضور أحمد عبيدات الذي يقف منذ اكثر من سنتين في مقدم صفوف المعارضة، وهو الذي صرح عقب اللقاء بأنه كان صريحاً ومفيداً. ولم يشر الاعلام الرسمي إلى اللقاء، على رغم بث التلفزيون غالبية الحوارات التي اجراها الملك اثر الاحداث الاخيرة بكل وقائعها. غير ان احد رؤساء الحكومة السابقين قال ل "الوسط" ان الملك كان مستمعاً جيداً وسمع كلاماً جدياً ومفصلاً. وأعرب عن اعتقاده بأن دعم الملك حكومة الكباريتي ليس مجرد ردة فعل فهو لم يضع الحكومة على جهاز التنفس الاصطناعي لكنه بث فيها كل اسباب الحياة والاستمرار. إلا ان بعض الاوساط السياسية الاردنية يفسر ما ورد في خطاب للملك بأن كل شيء قابل للبحث بعد ان تهدأ الاوضاع، كمؤشر إلى امكان رحيل الحكومة. ويذهب آخرون إلى حد التأكيد ان الملك وعد الاسلاميين بتغيير وزاري قريب. وفي المقابل، يؤكد وزير الاعلام ان حكومته لا تريد ان تكون لإدارة ازمات تخرج من واحدة لتدخل في اخرى، فهي لا تتخبط في ظلام، بل تعرف تماماً اين تسير. ويعتقد وزير آخر بأن الحكومة باتت اكثر قوة من اي وقت مضى، فهي قامت بعملية اصلاح كبيرة، ونجحت فيها فنالت ثقة الملك الذي لم يقف إلى جانبها لحفظ ماء الوجه ولا كردة فعل للأحداث، بل بسبب انجازها الكبير الذي ما زالت تواصله بمزيد من الاصلاحات الاقتصادية والادارية. وعلى رغم الدعم الملكي للحكومة، فإنها ما زالت تواجه معارضة اتسعت إثر الاحداث الاخيرة لتضم شخصيات معروفة بولائها التقليدي للحكم، اذ اصدرت عشرات الشخصيات بينها رؤساء وزارة سابقون بياناً حملت فيه الحكومة مسؤولية احداث الجنوب بسبب "سلوك الاستعلاء والتعنت والانفراد بالقرار ومعاداة النهج الديموقراطي الذي انتهجته وعكس نهجاً انفعالياً عاجزاً يفتقر إلى الحد الادنى من المسؤولية وبعد النظر". اما المعارضة التقليدية التي تضم 23 نائباً وثمانية احزاب سياسية وغالبية النقابات المهنية وشخصيات مستقلة فأصدرت بياناً طالبت فيه الحكومة بالرحيل فوراً. والتقى طرفا المعارضة عند نقطة اساسية وهي مناشدة الملك حسين التدخل لوضع حد للتدهور. ويرى السيد ابراهيم عزالدين، السياسي المعتدل، "ان الحكومة في ازمة لأن هنالك جسماً سياسياً يعترض عليها ليس في شأن موضوع الخبز وحده، بل في شؤون كثيرة لم تتخذ ازاءها قرارات توحي بقدرتها على التفاعل مع الجسم السياسي. واذا لم تستطع الحكومة ان تغير صورتها حتى انعقاد البرلمان في تشرين الأول اكتوبر المقبل فستتعرض لطرح الثقة بها". وتعتقد السيدة شرف بأن الاردن يحتاج إلى حكومة تكنوقراط "لأنه في مرحلة انتقال جذرية في نظامه الاقتصادي وبناء القوى البشرية لمواجهة القرن المقبل في عالم منفتح. وعلى الحكومة ألا تضم من السياسيين سوى وزراء الخارجية والاعلام والداخلية". وتخوف من "ان تكون الحكومة اخذت تذوب كمؤسسة تحت وطأة الاشخاص الاقوياء فيها، وان يكون مجلس النواب اخذ يذوب ايضاً تحت وطأة ضغط الحكومة من جهة والاحلام بتولي المناصب الوزارية عند اي تعديل وزاري مقبل من جهة ثانية في الحكومة الحالية 22 نائباً. وأخطر ما يمكن ان يقع لتركيبتنا الديموقراطية ان تقع المؤسسات تحت وطأة مثل هذه الضغوط". وترى "ان الدرس الاخير يجب ان ينبهنا إلى المخاطر فنعدل المسار في الوقت الحرج الآن قبل فوات الاوان، وإلا فإننا سنفقد هيكل الدولة الحديثة". ويلاحظ الشيخ منصور "ان الاسلاميين لم يخدعوا بالحكومة منذ تشكيلها، وقلنا ذلك اثناء مناقشتنا الثقة بها. وعلى رغم ذلك، وانطلاقاً من المصلحة العامة مددنا ايدينا للتعاون معها". ويؤكد ان اكبر "جناية" مارستها الحكومة كانت "موجة الاسعار التي ما زالت تستفز كل مواطن فهي لا تحظى بأي ثقة شعبية وفقدت غالبيتها البرلمانية التي وقفت ضد قرارها رفع اسعار الخبز". ويختم: "ان حكومة لا تحظى بثقة الشعب والبرلمان وارتبط وجودها بارهاق المواطن، واذا كانت ثمة نية للمراجعة والاصلاح، فإننا نفضل ان يتم في غياب هذه الحكومة".