مثلما يلتقي الفرقاء السودانيون كل مرة وينفضون، تنادوا الى مائدة المفاوضات خارج العاصمة الكينية نيروبي تلبية لدعوة من الرئيس الكيني دانيال أراب موي الذي يبدو واثقاً من نجاحه في حل مشكلة السودان مثل ثقته في أنه سيحل أزمة الاصلاح والتغيير التي تشهدها بلاده منذ بضع سنوات. وفي كلا الحالين فإن الخطوات البطيئة التي يقطعها المعنيون تصور لاعتبارات عدة باعتبارها "تقدماً جديراً بالثناء"، ولا توصف في أي حال بأنها فشل للمحادثات. غير أن مفاوضات نيروبي هذه المرة لا يمكن الاكتفاء بوصفها بالنجاح أو الفشل، فعلى رغم أنها لم تكن مفاوضات بالمعنى الدقيق للكلمة الذي ينطوي على جلسات محادثات وجهاً لوجه تستمر فترة طويلة، فقد كشفت عن الوضع الحقيقي لكل من طرفيها: الحكومة السودانية والجيش الشعبي لتحرير السودان. وكشفت أيضاً عن ايمان متزايد لدى السودانيين في المعسكرين بأن فصل الجنوب عن الشمال وحده انجع الحلول لمشكلة الحرب الاهلية وما تجره من خصومات بين سكان تلك الرقعة الفقيرة المضطربة. والأهم من ذلك أنها كشفت الوجه الحقيقي لزعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان العقيد جون قرنق الذي قدم مطالب لم يرد لها ذكر في الوثيقة التي توصل اليها مع حلفائه من زعماء الاحزاب السياسية المحظورة في شمال السودان وتعرف ب "مقررات أسمرا". فهي لم تتحدث عن انفصال وقيام كونفيديرالية في كل من الشطرين. ولا شك في أن قيادة "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارضة مطالبة في اجتماعها المقبل بأن تفسر لمواطنيها في الداخل والخارج كيف نسقت مطالب من هذا القبيل مع حليفها القوي؟ وإذا لم تتفق معه على ذلك مسبقاً، فكيف يمكنها تبرير هذا التصرف من قبل قائد "قواتها المشتركة"؟ التأمت محادثات السلام السودانية في نيروبي بعد انقطاع دام نحو ثلاث سنوات، بعدما كانت حكومة الخرطوم رفضت اعلان المبادئ الذي توصلت اليه منظمة "ايغاد" العام 1994 بدعوى أنه ينطوي على الاعتراف بحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم والتزام الفصل بين الدين والدولة. وعقدت هذه المرة إثر تغيير ملموس في مواقفها: فقد آمنت بحق تقرير المصير وإن سيفضي الى فصل الجنوب، ووقعت اتفاقاً مع المنشقين عن قرنق ضمنته التزامها اجراء استفتاء بعد فترة انتقال تمتد اربع سنوات. وبدت الحكومة حريصة على التوصل الى اتفاق مع قرنق، وربما لذلك أوفدت الرجل القوي في النظام المحامي علي عثمان محمد طه وزير الخارجية رئيساً لفريقها التفاوضي الذي ضم فريقاً استشارياً كبيراً. وكانت تلك إشارة واضحة للوسطاء والخصوم الى أن الوفد الحكومي مفوض بالكامل، ويملك صلاحيات التوصل الى الاتفاق المنشود مع الجنوبيين. ولم تخف الحكومة السودانية أنها قررت تبديل مواقفها هذه المرة الى درجة الاستعداد لمناقشة امكانية إقامة دولة علمانية وديموقراطية في البلاد. وهذه هي المرة الاولى التي تومئ السلطات السودانية الى احتمال تقديم تنازلات في هذا الشأن. وكان خطابها في السابق يشدد على أن تحكيم الشريعة من الثوابت التي لا يمكنها أن تحيد عنها. وواكبت ذلك كله دعوات داخل أروقة البرلمان السوداني الى اعتراف الحكومة بالمعارضة الشمالية، بل جهر عدد من الوزراء المحسوبين على التيار الاسلامي الذي يتزعم الحكم بأنه آن الاوان للاعتراف بأخطاء الحكومة والتفاهم مع المعارضة الشمالية ما دامت الحكومة تبذل الغالي والنفيس من أجل التفاوض مع المعارضة الجنوبية. غير أن ذلك لا يعني أن الحكومة عمدت الى تليين موقفها من المعارضة الشمالية، فهي لا تزال تتمسك بأن مفاوضات نيروبي تخص مشكلة الجنوب فحسب، وتصم المعارضين الشماليين بأنهم يبحثون عن مناصب ومكاسب حزبية وفردية. ولم يواكب حديثها عن استعدادها لمناقشة قضايا متفجرة من قبيل فصل الدين عن الدولة أي انفراج في صحافتها ولا في مناخ الحريات العامة. ويزيد ذلك الريبة والتوجس في نفوس من لا يتفقون معها في الرأي. التقى أعضاء الوفدين في نيروبي مرة أو اثنتين، غير أن معظم المفاوضات تمت بطريقة غير مباشرة، إذ كان الوسطاء يجتمعون بكل من الطرفين لمعرفة مقترحاتهما في شأن الحل. وربما لذلك صح أن توصف مفاوضات نيروبي الأخيرة بأنها "نقطة البداية" في عملية السلام السودانية. وعلمت "الوسط" أن كينيا التي ترأس اللجنة الرباعية لمبادرة السلام السودانية تضم أيضاً اثيوبيا واريتريا ويوغندا عينت ديبلوماسيين أحدهما اثيوبي والآخر كيني ليكونا بمثابة أمانة دائمة للجنة "ايغاد" المعنية بتسوية الأزمة السودانية. وعلى ذلك فإن الفترة المقبلة حتى نيسان ابريل 1998 ستشهد اتصالات مكثفة يقوم بها الوسطاء الاقليميون بالفرقاء السودانيين على أمل أن يتبلور حل - وإن على مستوى الحد الادنى - بنهاية الربع الاول من العام المقبل. وتوقع خبير راقب المفاوضات الاخيرة من كثب أن يتوصل الوسطاء في نهاية المطاف الى "حل وسط" مقتبس مما يطرحه الجانبان، في شيء أقرب الى الطريقة التي تم من خلالها استنباط "اعلان المبادئ" الذي يشكل أساساً للمبادرة الحالية. ولكن ماذا سيفعل الطرفان حتى يحين نيسان المقبل؟ بالنسبة الى الجنوبيين، فإن "اتفاقية الخرطوم للسلام" التي توصل اليها النظام مع المنشقين عن العقيد قرنق في 21 حزيران يونيو الماضي ليست مقنعة، لأن طموح قرنق يتجاوز الجنوب كما بدا من الصيغة التي اقترحها حلاً في نيروبي. والارجح أن الزعيم الجنوبي سيواصل سياسة الضغط العسكري على أمل السيطرة على جوبا - كبرى مدن الجنوب - ومحاصرة الحكومة من الشرق والغرب حتى تسقط. وإذا حصل هذا السيناريو فستسقط مع الحكومة اتفاقية الخرطوم للسلام. وستبدأ سلسلة من الأسئلة في فرض نفسها على الساحة السودانية: هل الجنوب يقسم كوحدة ادارية بين مختلف الاعراق التي تعمره؟ ماذا سيحصل في أعالي النيل - منطق قبيلة النوير - حيث لا وجود لقوات قرنق وحيث تتركز احتياطات النفط السوداني؟ هل ستنقل الحكومة "مجلس التنسيق للولايات الجنوبية" الى ملكال عاصمة أعالي النيل لتزيد الصف الجنوبي انقساماً وتشرذماً؟ وهي أسئلة مشروعة، لأن قرنق - كما هو واضح من الانباء الواردة من مقر قيادته - يطمح الى حسم الوضع عسكرياً في اعقاب الانتصارات التي أحرزها منذ مطلع السنة. وحتى إذا كان راغباً في اتفاق فهو لا يريد أن يبرمه مع هذه الحكومة. والرسالة واضحة: إما أن تسقط الحكومة أو أن تضعف ريثما يطبق عليها المعارضون من الجنوب والغرب والشرق. أما على صعيد الحكومة فهي - على النقيض مما يقوله خصومها - تزعم أنها قوية ومتماسكة وتسيطر على الاوضاع في كل أنحاء البلاد. وربما تأكيداً لذلك بدأت بعد مفاوضات نيروبي تدخل البلاد من جديد في أجواء أخطار خارجية ومهددات أجنبية مما يستلزم سياسات تكون حرية التعبير أولى ضحاياها. ولا شك في أنها تعول على معارضة اثيوبيا ومصر واريتريا فكرة انفصال السودان دولتين. غير أن العبور بالعلاقات مع هذه الدول من مرحلة التردي والفتور الى التعاون والمساندة أمر لا يمكن الجزم بحصوله. وما ينبغي ذكره أن عدداً من أعضاء وفد الحكومة للمفاوضات ممن تحدثت اليهم "الوسط" أقروا بأن عدداً متزايداً من المسؤولين بدأوا يشعرون بأن من الضروري التعجيل بفصل الجنوب لوقف الحرب ثم التصدي بعد ذلك للأزمة في شمال السودان. وعلمت "الوسط" أن بعض الموفدين الحكوميين الى نيروبي تساءلوا - في إشارة الى اتفاق الحكومة مع المنشقين عن قرنق على فترة انتقال مدتها اربع سنوات تسبق الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب - لماذا تنفق الخرطوم مواردها الشحيحة على تنمية الجنوب اربع سنوات وتتركه لينفصل؟ وهكذا فإن الاشهر المقبلة ستشهد تصعيداً، وستظهر آثار العقوبات الاميركية الاخيرة بما سينعكس سلباً على الأداء الاقتصادي. ومن شأن ذلك أن يزيد الململة الداخلية. الايام الآتية وحدها ستكشف ما هو مخبأ للسودان مفاوضات نيروبي - القضايا الجوهرية ومواقف الطرفين القضايا الجوهرية التزام الطرفين ببنود اعلان ايغاد للمباديء حق تقرير المصير الاستفتاء على تقرير المصير شكل دولة السلام السودانية موقف الجيش الشعبي طالب بموافقة خطية جديدة من جانب الخرطوم. 1 اعتباره حقاً مطلقاً من حقوق الانسان لكل السكان. 2 يجب أن يشمل الجنوب وجبال النوبة وجبال الانقسنا ومنطقة ابياي. ضروري إجراء الاستفتاء بعد الفترة الانتقالية للمارسة حق تقرير المصير. 1 يريد دولتين كونفيديراليتين، وتشمل دولة الجنوب مناطق النيل الازرق وجبال النوبة وأبياي. 2 فترة انتقالية لعامين. 3 طالب بالغاء قوانين الشريعة الاسلامية وأن يكون دستور كونفيديراليتي الشمال والجنوب علمانياً. 4 نادى بتعددية سياسية على أن تقوم حكومة وحدة وطنية تضم النظام والجيش الشعبي المعارضة الشمالية. موقف الحكومة وافقت ووقعت مجدداً 1 أيدت تقرير المصير. 2 رفضت اطلاقه وطالبت بحل سياسي للمشكلة. 3 لا يمكن أن يشمل غير الجنوب لأن الحدود راسخة منذ الاستقلال. وافقت ولا مانع من الاتفاق على الترتيبات الخاصة بالاستفتاء لاحقاً. 1 أكدت تعددية السودان ثقافياً وعرقياً وسياسياً، وكفالة ذلك بحرية الاعتقاد والعبادة، واعتبار المواطنة أساساً للحقوق والواجبات. 2 اقترحت تنفيذ نظام فيديرالي واقتسام الثروة. 3 مبدأ الديموقراطية مقبول، لكن شكلها يجب أن يخضع للنقاش. 4 مبدأ الحكومة المشتركة مقبول من حيث المبدأ لكن إدخال المعارضة يبت لاحقاً.