طغت قصيدة النثر على اصدارات العام 1996، واللافت هو الحضور الطاغي للصوت النسائي على الساحة الشعريّة العربيّة. لكن هل استوفى موضوع الجسد في الشعر حقّه من النقاش؟ وهل أخذ الشعر الحديث كلّه أساساً حقّه من النقد والقراءة؟ "الوسط" تلقي نظرة بانوراميّة على الحركة الشعريّة خلال العام المنصرم، وكذلك على أبرز ملامح الفنّ التشكيلي، وعلى أسئلة الحياة الثقافيّة في الأردن والجزائر. ودّع العرب سنة 1996 بمهرجاني المربد في العراق، والقاهرة للأبداع الشعري في مصر. مهرجان القاهرة غلبت على أجوائه حالة تصالح بين أهل قصيدة التفعيلة وأهل قصيدة النثر دعي إلى المهرجان عدد من شعراء قصيدة النثر العرب واستبعد - بشكل غير مفهوم - أكثر شعرائها المصريين، وسجلت جلساته النقدية اهتماماً استثنائياً بالظواهر المثيرة للجدل في قصيدة النثر. فيما حال تقوقع المشهد الثقافي العراقي في الداخل دون معرفة ما دار في المربد على المستويين الشعري والنقدي. لكن معظم ضيوف مهرجان القاهرة كانوا من الشعراء والنقاد العرب الذين دأبوا على ارتياد "المربد" أيّام عزّه. وأقامت سلطنة عمان بدورها، وللمرة الأولى ، مهرجانها الشعري. كما تقاطر الشعراء على مهرجاني أصيلة في المغرب وجرش في عمان. وشهد العام الفائت غياب الشاعر العراقي بلند الحيدري الذي ووري الثرى في بريطانيا قبل أيام من صدور مجموعته الشعرية الأخيرة "دروب في المنفى"، وكذلك غياب الشاعر السوري محمد عمران. حفلت سنة 1996 بصدور كم كبير من الشعر، وكالعادة، لم يحظ هذا النتاج بالتغطية النقدية التي يستحقها. ونشطت ثلاث دور نشر عربية رئيسية في إعطاء الكتاب الشعري فرصته: دار "الجديد"، و"المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، ودار "شرقيات" في القاهرة. وسجلت دار "النهار" في بيروت عودة إلى طبع الشعر، في الوقت الذي دشنت كل من "الهيئة العامة للكتاب"، و"المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة سلسلتين شعريتين الأولى بإشراف ابراهيم عبد المجيد، والثانية بإشراف منتصر القفاش. بادر عبد الوهاب البياتي إلى اصدار ثلاث مجموعات عراقيّة، على نفقته: "خذ الأناشيد ثناء لغيابك" لعلي عبد الأمير، "حياة ثالثة" لمحمد تركي النصار و"أرض خضراء مثل أبواب السنة" لنصيف الناصري. والثلاثة من جيل الثمانينات. وصدرت في العام المنصرم مجموعات لأدونيس "الكتاب - أمس المكان الآن"، ونزار قباني "تنويعات نزارية على مقام العشق"، وسعدي يوسف "قصائد ساذجة"، وسليم بركات "طيش الياقوت"، وسركون بولص "حامل الفانوس في ليل الذئاب"، وقاسم حداد "أخبار مجنون ليلى"، ومحمد بنيس "كتاب الحب"، وحلمي سالم "سراب التريكو"، ووليد خازندار "سطوة المساء"، وعبده وازن "أبواب النوم"، ولينا الطيبي "هنا تعيش"، وسيف الرحبي "جبال"، ومحمد القيسي "ناي على أيامنا"، وزكية مال الله "نجمة في الذاكرة"، وعدنان محسن "نصوص عن الغير"، وناصر فرغلي "رومانطيقا"، ورياض العبيد "حديقة الرغبة"، وهاشم شفيق "مشاهد صامتة"، ونبيل ياسين "مناحة على بلاد الرافدين"، ومريد البرغوثي "منطق الكائنات"، وإيمان مرسال "ممر ضيق يصلح لتعلم الرقص"، وفاطمة قنديل "صمت قطنة مبتلة"، ونجوم الغانم "رواحل"، ومنى عبد العظيم "على بعد حافة من جسد"، وصفاء فتحي "وليلى..."، وميسون صقر "عامل نفسه ماشي"، ومحمد الحمامصي "لا أحد يدخل معهم"، وأحمد الملا "خفيف ومائل كنسيان"، وغازي الذيبة "دقيقة وأخرج حياً"، وجهاد هديب "تعاشيق"، وعائشة أرناؤوط "من الرماد إلى الرماد"، وعلي الشرقاوي "مجاهدة الأنغام الهاربة"، وشريف يوسف "ليلة 30 فبراير"، وحمد الفقيه "نقف ملطخين بالصحراء"، والهنوف محمد "سموات"، وأحمد كتوعة "كرة صوف لفت على عجل"، وأنطوان رعد "وشم على الريح"، ويوسف المحيميد "لابد أن أحداً حرك الكرّاسة" ومحمد العبدالله "بعد قليل من الحبّ، بعد الحبّ بقليل"، وبسّام حجّار "الرجل الذي أحبّ الكناري".... توسّعنا في ذكر المجموعات الصادرة خلال 1996، على رغم وعينا استحالة حصر كلّ ما صدر، لكن لعلها عينة تمثل المشهد العام وتعكس، في تنوعها، الخيارات الأساسية التي سلكتها الشعرية العربية خلال العقد الأخير. ويتضح أن "قصيدة النثر" تحولت خياراً جمالياً يجتذب إليه لا الشعراء الجدد وحسب، وإنما حتى بعض الشعراء المعروفين الذين بلوروا أصواتهم منذ الستينات والسبعينات، وسبق لهم أن كرسوا أنفسهم بصفتهم من شعراء قصيدة التفعيلة، بين هؤلاء: حلمي سالم ومريد البرغوثي ونبيل ياسين وصادق الصائغ الذين أصدروا العام الفائت مجموعات متفاوتة القيمة تخلو قصائدها من الأوزان، وصرح صادق الصائغ أنه اعتمد "قصيدة النثر" نهائياً. وبين اصدارات العام الماضي، هناك أكثر من 20 باكورة شعرية، معظمها ينتمي إلى "قصيدة النثر"، وجزء أساسي منها بتوقيع شاعرات شاعرات. فهل أن الشاعرة الجديدة أكثر ثباتاً واندفاعاً في خوض تجربة "قصيدة النثر"، بعد أن باتت تتمتّع بفرص أفضل لطبع نتاجها؟ حضور سعودي مميز وإذا تمعنّا في المجموعات الشعريّة خلال 1996، سنلاحظ أن الرقعة السعودية تعود إلى تسجيل حضور بارز في الولادة الشعرية. ويفصح جيل الشعراء الجدد هناك عن إدراك لافت لمتطلبات النص الجديد، وعن قدرة جيدة على التعامل مع الجماليات الجديدة. كما أن العراق ومصر هما الطرفان السبّاقان في ميدان التجريب الشعري، على المستويين الكمّي والنوعي. فعلى الرغم من التحولات المأسوية التي شهدتها الحياة الإجتماعية والسياسية في العراق للعراقيين، لا تزال الحيوية الشعرية العراقية على عهدها في الوطن والمهجر، لا ينازعها إلا جيل الجماليات الجديدة في مصر. فالمركز القاهري تصب فيه الأقاليم البعيدة والقريبة خبراتها الإنسانية المتنوعة، وخصوصياتها المحلية التواقة إلى صهر تجاربها في المدينة الكبرى التي تضمّ 12 مليون آدمي ينتمون إلى شتى المناطق والطبقات والشرائح والخصوصيات المتصادمة والمتلاقية. إن جيلا جديداً من الشاعرات والشعراء يولد الآن في مصر، وهو في سبيله إلى مد الحداثة الشعرية العربية بخبرات إنسانية وجمالية لا قبل للعرب الآخرين بها. خبرات أكثر صلة بفكرة الحداثة بما هي فكرة مدينية، في عالم قائم على التنوع الإنساني الهائل. هكذا أخذت الحداثة تطرق، لأجل تحققها في اللغة، شوارع الحياة اليومية، متخلية عن صوفيتها البدوية، وتعاليها الموروث. شعراء مصر الجدد يملكون فرصة أكبر لأستثمار نثر الحياة اليومية، وقدرة استثنائية متنامية على التعامل مع الجماليات التي بدأت معالمها تتضح منذ مطلع التسعينات. منذ متى لم نقرأ نصوصاً حارة، تطوع اللغة لتسخر من الذات، وتسخر من جهامتها وميوعتها الميتافيزيقية؟ منذ الستينات، ربما، منذ أطلق الماغوط صوته الإحتجاجي الساخر، وكوميدياه السوداء، ومنذ أن لعب أنسي الحاج باللغة واستخرج منها ملامح سخرية بمواصفات سوريالية. بعد ذلك تراجع الشعر أمام جهامة النصّ الاستعلائي، ونموذجه الأبرز هو "المهيارية" نسبة إلى "أغاني مهيار الدمشقي" لأدونيس، ومخلوقها الأسطوري الذي هو محور كل شيء. ويمكن أن نلمح في المنجز الشعري العربي الجديد آثاراً لا تحصى للتحول. وليس المقصود الاعلان عن غبطة خاصة لهيمنة خيارات تبدو "وحيدة"، أو "نهائية"، حقيقية كانت أم متوهمة، بقدر ما يدعونا ذلك إلى القلق. فالشعر نادراً ما يغرينا في المجموعات الصادرة خلال العام الفائت، إذا استثنينا بعضها... ولعلّ ذلك ينعكس على ما شغل الحياة الأدبيّة من نقاش، حول الشعر الجديد. أبرز القضايا المثارة دارت حول ما سمّي بظاهرة "شعر الجسد"، وكاد البعض يقول بولادة شيء اسمه "قصيدة الجسد". وكالعادة ظل الكلام في هلام العموميات والانطباعات، بعيداً عن القراءات النقديّة المعمّقة، أو الاجتهادات القابلة للجدل. هكذا امتدّ انشغال النقد بمجموعات استلهم شعراؤها الجسد، أو كتبوه دونما تعيين نهائي لهويته، بينها "سرّ من رآك" لأمجد ناصر و"إيروتيكا" لسعدي يوسف، و"العالق بمشيئة جسد" لعلاء خالد، و"...حافة" لعبد المنعم رمضان. والمجموعة الأخيرة منعت من التداول في مصر، وسيق شاعرها إلى المحكمة. ومع ذلك برز الجسد كثيمة رئيسية في جل الشعر الذي صدر في مصر هذا العام، ولم يكن التركيز عليه في ذاته دائماً، وإنما باعتباره أحد أكثر الموضوعات استقطاباً للصراع وتعبيراً عن التمرد الإجتماعي، لا سيما لدى الشاعرات اللواتي أفصحن عن جرأة كبيرة في التعامل مع موضوعاته. وهل يمكن أساساً لقصيدة حديثة أن تنجو من فكرة التعامل مع الجسد كأرض للخبرات السرية، وساحة للمشاعر، أكان الإفصاح عنه مباشراً أو موارباً؟ بل كيف نتخيل شعراً حديثاً لا يكون في محصلته ثمرة للعلاقة بين الشاعر وجسده؟ الشاعرالحديث يكتب جسده، وقصيدته قطعة من هذا الجسد، وأحياناً معادل رمزي له. لكن هل قاد النقاش إلى ما هو أبعد من السؤال المستعاد: "من بدأ كتابة قصيدة الجسد أولاً"؟ وهل أدّى السجال إلى بلورة تصورات حول الكتابة كمغامرة، يدخل فيها الجسد طرفاً أساسياً؟ وهل طرحت أسئلة جديدة حول النص كجسد، عن نص اللذة، أو اللذة كنص وكموضوع في اللغة، وموضوع في العالم؟ . مرّت سنة 1996 وحملت معها إلى رفوف المكتبات شعراً كثيراً، المجموعات في طبعاتها الأولى، والمجموعات في طبعاتها الثانية. حملت البواكير وحملت الحلقات التي أضيفت إلى المشاريع الشعرية التي تبلورت ونضجت. أما شكوى الشعراء فلم تتغيّر: إن جديد الشعر يصير قديماً، قبل أن يُقرأ القراءة التي تليق به. ولعل في هذه الشكوى مقداراً من الصحة. لكن النقاد أيضاً لديهم شكواهم من الشعراء، لا سيما من تمركز هؤلاء على أنفسهم، ومن نرجسيتهم، وأحياناً أنانيتهم المفرطة. فهم على حد تعبير أحد النقاد يريدون من الناقد أن يكون مبشراً بهم. ونحن بدورنا نتساءل: لم لا يحق للشاعر أن يبشر به ناقد، بشرط أن يكون هذا الناقد مؤمنا بشاعرية هذا الشاعر، ومحباً لشعره؟ ففي تاريخ الشعر العالمي صداقات كبيرة قامت بين شعراء ونقاد أساسها الجمال الفني. لكن يبقى ألا يُطلب من الناقد التخصّص في "التبشير" بشاعر دون سواه، بحيث لا تعود له مهمة أخرى! ولا بدّ من الاعتراف بأن حركة الشعر العربي بأكملها، من الرواد إلى الجيل الجديد مظلومة، لا من النقاد وحسب، وإنما على مستوى القراءة ككلّ. وهذه الحال بمثابة القدر بالنسبة إلى ثقافتنا الشعرية. والبحث في أسباب هذا الظلم يطول، فهي في واقع الحال إجتماعية، وثقافية، وإقتصادية، وسياسية أيضاً. ومع ذلك فلا شكّ في أن التطورات الفنية المختلفة التي دخلت على الشعرية العربية الحديثة، والخيارات الجمالية والفكرية التي اعتمدها الشعراء، في سبيلها إلى استقطاب قراءات جادة. وهناك اليوم مشاريع بحث وقراءة، سريعاً ما سيقف الشعراء والقراء المتلقين عليها. وفي هذا السياق هناك نقّاد بصدد بناء نصّ نقدي يجمع البعدين النظري والتطبيقي، وينتمي إلى الشعرية العربية الحديثة، بما أنتجته من ظواهر وأصوات وتجارب ومشاريع مهمة في العقدين الأخيرين. ولا بد من الأعتراف، ختاماً، أن سنة 1996 شهدت تكريساً لظاهرة سلبيّة وخطيرة. فعدد كبير من دور النشر، كرس فكرة طباعة الكتاب على نفقة صاحبه. وهذا يعطل تقليداً بالغ الأهمية، يمكن اختصاره بمفهوم "سياسة النشر"، أي الخيار الذي تقوم به دار نشر معيّنة، ويحدّد خطّها وتوجّهها وشخصيّتها المميّزة. ما يحصل اليوم هو العكس. فالشاعر يختار الدار، ويقوّم كتابه بنفسه، تتبعاً لامكاناته الماديّة وقدرته على تحمّل نفقات الطباعة. ولا يعود هناك أمام الدار سوى أن تغمض عينيها وتطبع الشعر. والبقية على القارئ!