خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    «الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    تشكيل النصر المتوقع أمام ضمك    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    المياه الوطنية و sirar by stcيتفقان على تعزيز شبكة التكنولوجيا التشغيلية في البنية التحتية لقطاع المياه    "هيئة النقل" تؤكد منع عمل الشاحنات الأجنبية المخالفة للنقل بين مدن المملكة    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    مطربة «مغمورة» تستعين بعصابة لخطف زوجها!    مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يوقع عددًا من مذكرات التفاهم    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ساعتك البيولوجية.. كيف يتأقلم جسمك مع تغير الوقت؟    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    قيمة الهلال السوقية ضعف قيمة الأندية العربية المشاركة في المونديال    المغرد الهلالي محمد العبدالله: لا مكان لنيمار والمترو الأفضل وحلمي رئاسة «الزعيم»    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    هيئة الترفيه وأحداثها الرياضية.. والقوة الناعمة    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    «قمة الكويت».. الوحدة والنهضة    مملكة العطاء تكافح الفقر عالمياً    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    نائب وزير الموارد البشرية يزور فرع الوزارة والغرفة التجارية بالمدينه المنورة    كابوس نيشيمورا !    الاستدامة المالية    لولو تعزز حضورها في السعودية وتفتتح هايبرماركت جديداً في الفاخرية بالدمام    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    بالله نحسدك على ايش؟!    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    محافظ الطوال يؤدي صلاة الاستسقاء بجامع الوزارة بالمحافظة    رئيس مجلس أمناء مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يعقد اللقاء السابع عشر    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة في حياة "زهرة" السينما العربية . نجلاء فتحي ل "الوسط" : لولا عبدالحليم حافظ لما دخلت عالم الفن 1 من 3
نشر في الحياة يوم 02 - 09 - 1996

في الوقت الذي غابت شادية وليلى فوزي ومديحة يسري كلياً، وفي الوقت الذي بدأت فاتن حمامة تتحول إلى جزء من تاريخ السينما، ووسط الغياب المتقطع لميرفت امين، تتصدر نجلاء فتحي إلى جانب سعاد حسني عرش "سيدات الشاشة المصرية" لتبرز كوريثة رائعة لعصر النجوم الذهبي. اليوم نجلاء فتحي تعيش قمة عطائها وتحصد نتاج حياتها الفنية نجاحاً وتقديراً وجوائز، خصوصاً قدرتها على اختيار ادوارها وافلامها بنفسها. في هذا الوضع قصدتها "الوسط" إلى القاهرة حيث حاورتها وسألتها عن مسار حياتها ومسار فنها السينمائي، وكان الحصاد حواراً صريحاً ومسهباً ننشره على ثلاث حلقات هنا أولاها:
حين التقت "الوسط" نجلاء فتحي في القاهرة لاجراء حوار مطول كان اسبوع مضى عليها منذ حصلت على جائزة افضل ممثلة من "المركز الكاثوليكي للسينما"، وهي واحدة من الجوائز الاكثر احتراماً في عالم الفن السابع المصري لأنها تمزج بين العنصر الفني والعنصر الاخلاقي والبعد الاجتماعي في بوتقة واحدة. ومن يعرف نجلاء فتحي عن قرب، ثم يجلس ليتحدث اليها ساعات ويسألها ساعات عن عملها وأدوارها وعلاقتها بالسينما والفن والجمهور، سيلاحظ كيف ان هذه الجائزة تبدو وكأنها مفصلة على قياسها، وتشبهها شبها غريباً.
نجلاء فتحي هي اليوم، ومن دون منازع، واحدة من كبار سيدات الشاشة المصرية والعربية، حتى وإن كان هذا اللقب المستند إلى تاريخ يبدو اليوم طويلاً، لا يزال بإمكانه ان يستند إلى مستقبل يعد بالمزيد من العطاء، وبالتحديد، بالمزيد من الادوار ومن الافلام. ونجلاء التي تحمل اسمها افلام هي اليوم علامات في تاريخ السينما العربية، من "دمي ودموعي وابتسامتي" إلى "لعدم كفاية الادلة" ومن "اسكندرية ليه؟" إلى "سوبرماركت" و "أحلام هند وكاميليا" مروراً ب "المجهول" وصولاً إلى "الكاراج" الذي يعتبر الاحدث بين افلامها، والذي مكنها من الفوز بجائزة "المركز الكاثوليكي"، تقف اليوم في قمة شامخة لا يشاركها فيها سوى سعاد حسني بوصفهما وريثتين لذلك العصر الذهبي، عصر النجوم/ الممثلات الذي شهد كبار سيدات الشاشة من مديحة يسري إلى فاتن حمامة، ومن شادية إلى ليلى فوزي إلى ماجدة... وغيرهن. إلى هذه الفئة من كبيرات الشاشة تنتمي نجلاء فتحي اليوم، وهي تعتز بهذا الارث، الذي تجتمع فيه للفنانة ابعاد الشكل الجميل والشباب الدائم، إلى مزايا الفن الادائي اللافت. وفي هذا الاطار لم يكن من المصادفة ان تنال نجلاء فتحي العديد من الجوائز المحلية والعالمية، وان تكون بعض الافلام التي مثلت فيها، مفتاح السينما المصرية لولوج عالم العالمية، وأن يقف العديد من محبي السينما في العالم، كما في الوطن العربي مبجلين قدرات فنانة تنوعت ادوارها بين الرومانسية والواقعية القاسية، وعرفت دائماً كيف تختار ادواراً كتب لها قدر ما من البقاء. لن نحصي هنا هذه الادوار، فالأمر متروك للحوار المطول الذي اجريناه مع نجلاء فتحي، في مكتبها في القاهرة، حيث يمتزج لديها كونها سيدة اعمال منتجة بكونها فنانة تحمل فوق كتفيها تاريخياً فنياً حافلاً، على رغم مظهرها الغني وابتسامتها المتألقة، بكونها نجمة اسعدت الملايين وأحزنتهم ولا تزال، وكان همها ولا يزال ان تنبههم ايضاً إلى ما يعمل في واقعنا من مآس وضروب بؤس. وهذا البعد الاخير في شخصية نجلاء فتحي يقربها كثيراً إلى صديقتها سعاد حسني على رغم ما يبدو على هذه الاخيرة من ميل إلى الاعتزال، كما يقربها اكثر خصوصاً إلى فنانتين كبيرتين اخريين، هما فردوس عبدالحميد من ناحية وناديا لطفي من ناحية ثانية.
يقيناً ان اسم نجلاء فتحي لا يلمع الآن في سماء الحياة السينمائية المصرية مرة كل موسم او اكثر من مرة، مثل الكثير من نجمات الشباك على الطراز الراهن. لكن لنجلاء، على قلة عملها، مكانة تداني كثيراً مكانة فاتن حمامة وسعاد حسني، وهي مكانة ترضيها كثيراً وتجعلها ترى انها، بعد كل شيء، لم تضيع حياتها سدى.
في حوارها مع "الوسط" وبقدر ما سمح لها، ولنا، الوقت، حاولت نجلاء فتحي ان تتحدث عن كل شيء، رسمت لنا مسارها، حدثتنا عن الافلام التي تحب، وعن الادوار التي لن تنساها ابداً. حدثتنا عن طفولتها وكيف وصلت إلى عالم الفن، ذكرت عبدالحليم حافظ ورشدي اباظة والدموع في عينيها، تألقت نظراتها بقدر كبير من الاحترام وهي تذكر عمالقة من امثال رمسيس نجيب وأحمد بدرخان، وانتابها حزن كبير وهي تحكي عن أمها التي كانت وراء نجاحها، ولم تستنكف عن الحديث عن تفاصيل حياتها الخاصة وزواجها وطلاقها، وكانت ابتسامة حنان تملأ وجهها في كل مرة تأتي على ذكر ابنتها ياسمين.
هنا الحلقة الاولى من هذا اللقاء الذي نترك فيه نجلاء تحدثنا على سجيتها، لكي تضعنا في الاطار العام لمسيرتها، قبل ان نحاصرها بأسئلتنا. وأول ما حدثتنا عنه نجلاء كان "فاطمة الزهراء". اي نجلاء الطفلة التي اغرمت بالسينما باكراً من دون ان يخطر في بالها، ولو للحظة انها ستصبح ذات يوم نجمة، بل واحدة من اكبر نجمات السينما العربية. ولنترك نجلاء تحدثنا عن الفيلم الأول الذي شادهته فاطمة الزهراء، حين لم تكن بلغت الثامنة من عمرها بعد.
- "اول فيلم شاهدته في حياتي، او اذكر اليوم انني شاهدته، كان فيلم "شارع الحب" من تمثيل عبدالحليم حافظ وشادية. كان فيلماً ظريفاً اعتقد اليوم انني شاهدته مرتين، في احدى صالات السينما في منطقة مصر الجديدة التي كنا نقيم فيها. في تلك السنوات، كانت صالات السينما حلوة جداً، وكان الذهاب إلى السينما فسحة عائلية هائلة نقوم بها مرتين اسبوعياً، الاحد والجمعة. وكنا عائلة كبيرة: بابا وماما، وأربعة صبيان وأربع بنات. كنا في كل مرة نذهب لنرى فيلماً، وفي بعض الاحيان ننتشر في صالات عديدة فتكون ماما في "نهر الحب" اختي في "المراهقات" وبابا في فيلم اجنبي. كان ذلك الاختلاف يحمل سر السينما وسحرها. اليوم كله يشبه بعضه البعض. اليوم اعتقد ان فيلمي الاول كان "شارع الحب" الذي ترك لدي انطباعاً جميلاً، لأنني منذ تلك اللحظة بدأت اهتم بالسينما وآخذها مأخذ الجدية".
طفلة شقية ومتفائلة
* اي نوع من الاطفال كنت يومها؟
- طوال عمري، ومنذ بداية طفولتي كنت فتاة مرحة، شقية، متفائلة، إلى درجة ان امي كانت تقول لي دائماً وهي تنظر الي نظرة ذات معنى: انت بنت مسعدة، وسوف تبقين طوال حياتك مسعدة. فأسألها: "لماذ؟ تجيب: لأنك كلما اشتريت لك "حاجة" جديدة ترتدينها وترقصين وترقصين لها وتقفين امام المرآة تغني للفستان وكأنه شخص عزيز عليك. كانت امي تحس انني انسانة متفائلة فرحة فكانت تستنتج من ذلك انني سأكون سعيدة طوال حياتي لأنني، حسب رأيها، اعرف "كيف أزرع البهجة في القلوب كما في الاشياء". وفي الوقت نفسه كانت "مواهبي" في تقليد الناس قد بدأت تتفتح. كنت اقلد الجميع، رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، صديقاً كان او طباخاً او حتى ماراً على الطريق، ما ان تقع عليه نظراتي حتى اشرع في تقليده بشكل ساخر. بالنسبة إلى العائلة كنت عنصر الترفيه رقم واحد. وكان لي أخ يملك طباعي نفسها، ودمه خفيف جداً. فكنا نتبارى معاً، من يمكنه ان يسعد الاسرة اكثر. وعندما بلغت الحادية عشرة من عمري، تحول ذلك كله إلى نوع من الاندفاع الذاتي، حيث بدأت اقفل على نفسي باب الغرفة وأقف امام المرآة، لأبدأ في اداء ادوار، لا اعرف من اين آتي بها، ادوار فيها بكاء وشجن، وحب وحرمان. امثل، مثلاً، اغنية لعبدالحليم حافظ، او اغنية لنجاة الصغيرة. وحين امثل اغنية عاطفية لأم كلثوم تسألني امي عما اذا كنت اعرف معنى ما اغنيه فأقول لها: طبعاً، ثم اشرح لها معاني الاغنية فتنظر اليّ باستغراب شديد. مرة كنت اغني وأقلد اغنية نجاة الصغيرة التي تقول فيها: حتى فساتيني التي اهملتها... اسمها ايه؟
* "أيظن" وكانت اول اغنية تؤديها من كلمات نزار قباني...
- ايوه.. ايوه.. ايظن. سألتني أمي يومها: هل تفهمين معنى الكلام. قلت لها: آه... هي حكاية عن بنت مغرمة بولد لم تره منذ زمن بعيد. والآن سوف تراه. لذلك ستخرج الفستان الحلو من خزانتها، وسوف تستعرض كل اثوابها وهي فرحانة لأنها سوف ترى حبيبها، الذي باتت مشتاقة حتى لسيكارته في المنفضة. فصرخت أمي: الله.. الله.. الله.. انتي جبتي ده كله منين؟". كنا أسرة كبيرة. الاب من اصل تركي، والام من المنصورة. كنا عائلة يحب الناس زيارتها والجلوس معها. لأننا كنا نمتاز بالمرح، نمضي اوقاتنا في التسلية والمزاح، ولا يشغلنا هم. كان الزعل ممنوعاً لدينا. ولكن ذات يوم، تبدل ذلك كله. كنت في الحادية عشرة من عمري، حين دخلت مع بعض اخوتي صالون البيت، فوجدنا بابا وماما جالسين بكل هدوء ووقار وأمي تسأل أبي: حتعمل ايه يا بابا وكان هذا هو اللقب الذي نناديه جميعاً، بما فينا أمي انت سوف تأخذ الاولاد وأنا سأحتفظ بالصغير احمد وكان في الخامسة من عمره. قال أبي: "طيب!". وهكذا تم كل شيء بسرعة ومن دون مقدمات. كان اول شيء حزين يدخل حياتنا. كان الطلاق الذي لم نفهم ابداً اسبابه. فجأة رأيتني مع ستة مع اخوتي نركب عربية ووراءنا عربية ثانية تحمل حوائجنا، ونتوجه جميعاً إلى الفيوم، على بعد مئة كيلومتر من المنزل الذي كنا نعيش فيه مع امنا. كل هذا وابي صامت لا يتفوه بكلمة. فجأة اذن بدلت حياتنا جذرياً وعشنا في الفيوم بعيداً عن ماما التي كنا نحبها حباً كبيراً على رغم قسوتها الاسطورية. كانت الحياة التي دامت سنين، في الفيوم، اقسى من ان تحتمل، خصوصاً ان ابي كان كثير السفر. انتهى الامر بمبارحتنا الفيوم والعودة لنعيش مع أمي، مضحين حتى بطيبة ابي وحنانه علينا. وتركنا "فرنسيسكان" الفيوم لتلتحق ب "كلية البنات الداخلية" في العباسية. وكنت وأنا صغيرة تأسست في مدرسة "نوتردام" ثم في المدرسة القومية بمصر الجديدة. مع امي عادت البهجة مرة ثانية إلى حياتنا. وعدنا إلى المزاح وأمسيات التسلية، والى سينما ايام العطل والى حياة النوادي والاصحاب...
يوم حسم عبدالحليم حافظ الموقف
ظل ذلك هو حالي حتى بلغت الخامسة عشرة من عمري. في ذلك الحين كنا نمضي الصيف في الاسكندرية وكانت لدينا كابينة بحرية في سيدي بشر. وكانت لي صديقة اسمها منى تعيش فصل الصيف مع أهلها في كابينة بالمندرة، واعتدت زيارتها بصورة يومية. ذات يوم وكنت في زيارة منى، كان يجلس قرب كابينتها رجل راح ينظر اليّ نظرات غريبة متفرسة ارعبتني وأزعجتني اول الامر، ثم اقترب الرجل مني وقال لي من دون مقدمات: انت يا آنسة تصلحين للتمثيل في السينما. سألته بشقاوة واستفزاز: "هل تريد ان تعاكسني ايها السيد؟" فقال مبتسماً وهو يعطيني بطاقة زيارة خاصة به، ويشير إلى امرأة تسير بجانبه: "لا.. أبداً.. انا عدلي المولد المحامي، منتج سينمائي وهذه زوجتي، ولست اعاكسك على الاطلاق. أرجو منك ان تعطي هذه البطاقة لبابا وماما، انا قاعد هنا من الصباح اراقب لعبك ومرحك ومزاحك مع رفاقك وشايف قد ايه فيكي سينما". طبعاً، كففت عن مشاكسته وعن ابداء روحي المتمردة، وتناولت منه البطاقة ورحت راكضة نحو الكابينة الخاصة بنا في سيدي بشر. كانت الطريق بين المنطقتين تستغرق اكثر من نصف ساعة، لكني لفرط فرحي وسعادتي، قطعتها في خمس دقائق. كنت كأنني أرغب في ان اقول للناس: الحقوني، انا عايزة أمثل. انا حمثل من بكرة الصبح.
* هل كنت تشعرين قبل ذلك برغبة حقيقية في التمثيل...؟
- لست أدري. ربما كانت الفكرة قد خطرت في بالي باكراً، ولكني لا اعتقد انني اخذتها مأخذ الجد. كانت بالاحرى اشبه بالفكرة الخيالية التي قد تراود المخيلة ولكن صاحبها لا يعتقد انها قد تتحقق في لحظة من اللحظات. قد ارغب اليوم في ان اقول بأن ربنا هو الذي كان يريد لي ان امثل، لأنه لولا مصادفة وجود عبدالحليم حافظ في كابينتنا في تلك اللحظة، ربما لم يكن من شأن امي ان توافق ابداً.
* وما دخل عبدالحليم حافظ في الامر؟
- كان عبدالحليم صديقاً للعائلة ويأتي لزيارتنا باستمرار. ومن المؤكد ان وجوده في زيارتنا، لحظة وصولي ذلك اليوم، لعب دوراً كبيراً. فأنا حينها دخلت على ماما وأنا اصرخ: "ماما.. ماما.. انا سوف امثل، قابلني شخص اسمه عدلي المولد المحامي اعطاني بطاقته وقال انني اصلح للسينما". فكان رد فعل امي الاول انها قالت لي: "بلاش كلام فارغ". وهنا تدخل عبدالحليم وهو ينظر اليّ نظرة طويلة، قائلاً بكل هدوء: "لماذا تقولين: كلام فارغ؟ بالعكس. كيف لم يحدث لي ان اخذت بالي من المسألة. انت فعلاً تصلحين للسينما" فقالت امي غاضبة: "انها لا تزال طفلة" فقال عبدالحليم مصراً: طفلة.. طفلة، لكنها تنفع للسينما". فقالت: "لكن اباها لن يوافق"، فقال عبدالحليم وكأنه يريد ان يحسم المسألة: "لما تنجح، وهي ستنجح حتماً، سيوافق ابوها ولن يعود في امكانه ان يرفض". والحال ان مسألة تمثيل فتاة مثلي في السينما كانت لا تزال مسألة صعبة في ذلك الحين. المهم حسن عبدالحليم حافظ الموضوع واقتنعت والدتي. وفي اللحظة نفسها قرر عبدالحليم ان اسمي الفني سوف يكون نجلاء فتحي...
* وماذا كان اسمك الاصلي؟
- فاطمة الزهراء فتحي. كان من الصعب طبعاً ان امثل في ادوار بنت شقية دلوعة وأنا احمل اسم فاطمة الزهراء. فسررت بالاسم الذي اختاره لي عبدالحليم حافظ. كان اسمي فاطمة الزهراء لأني ولدت يوم ذكرى مولد النبي، وكانت العادة جرت على ان تحمل الوليدات يوم المولد اسم ابنة النبي فاطمة الزهراء. اذن تحولت من فاطمة إلى نجلاء، ودخلت عالم الفن على الفور. خلال الايام الاولى للتصوير، وكان الفيلم اسمه "الاصدقاء الثلاثة" احسست فجأة بالحزن والاختناق وجلست أبكي وأنا اصرخ وأقول انني لم اعد راغبة في ان اكمل التمثيل. في ذلك الحين كانت امي ترافقني يومياً إلى مكان التصوير. كان ذلك في اول فيلم فقط، بعده تركتني اذهب وحدي بعد ان فهمت انني "قدها وقدود". المهم، ذات يوم وكنا لا نزال في البداية، اذن، جلست ابكي وأقول انني اريد ان اعود إلى المدرسة، وأتساءل عن جدوى هذا النوع من التمثيل؟ اي عمل هذا الذي اصور فيه كل يوم 5 دقائق فقط، انا التي كنت اعتقد انني سوف امثل هكذا، على الفور، ثلاثة ايام اعود بعدها إلى عالمي ورفيقاتي. نوع التصوير الذي ابتدأت به كان يجبرني على ان افيق كل يوم عند السابعة صباحاً وأهمل مدرستي. وفي اليوم الذي كنت اتوجه فيه إلى المدرسة، كانت البنات يلتممن من حولي مدهوشات، حيث ان صوري و "أخباري" كانت بدأت تنتشر في الصحف حتى من قبل بدء التصوير وتثير اهتمام وغيرة الرفيقات. فأصبحت نجمة قبل ان يعرض لي اي فيلم، وبدأت اشتهر من دون ان يكون لتلك الشهرة اي سبب موجب. وأنا كنت ألعب اللعبة، كنت اجمع البنات وأحكي لهن قصصاً وهمية اخترعها عن الفن والنجوم وما إلى ذلك، فأقول مثلاً: امس جاء لزيارتنا في الاستديو رشدي أباظة وقال لي اني حلوة قوي. ولم أكن بعد قد شاهدت رشدي اباظة ولو بشكل عارض...
صرت زعيمة للمدرسة فطردوني
* هل كنت معجبة برشدي اباظة في ذلك الحين؟
- ودي عايزة سؤال؟ كان ولا يزال وسيبقى نجمي المفضل. في مراهقتي كان نجمي المفضل وفتى احلامي. المهم، امام الزحام الذي كنت اثيره في المدرسة والفوضى التي كانت حكاياتي تتسبب بها استدعتني المديرة ذات يوم قائلة لي: "انه من الافضل ألا اتوجه بعد ذلك إلى المدرسة لأن اليوم الذي احضر فيه تتوقف الدروس وتتحول الحصص إلى اسئلة وأجوبة، ليس بيني وبين رفيقاتي فقط، بل بيني وبين المعلمات، اللواتي كن مثل بقية البشر، يستمتعن بالحكايات الحقيقية وهي قليلة والوهمية وهي كثيرة التي كنت ارويها وقد سرني ان ابدأ نجوميتي بتزعم المدرسة والتحول إلى نجمة كبيرة فيها. وهكذا ابتدأت أترك المدرسة وأركز على التمثيل، رغم اكتشافي في ذلك الحين انني حتى وإن كنت احب العمل والتفاني فيه، فإن ما كنت احبه هو فن السينما وليس فن التمثيل بشكل خاص. وأصارحك انني حتى اليوم لا زلت احب ان اعمل في السينما ولكن ليس ممثلة وحسب.
* دورك في "الاصدقاء الثلاثة" لم يكن دور بطولة...
- لا.. كان دوراً ثانياً. البطولة المطلقة كانت في الفيلم الثاني الذي انتجه رمسيس نجيب. وكان رمسيس شاهد صورتي وأنا امثل في "الاصدقاء الثلاثة" فقرر ان يتعاقد معي. وهنا مرة اخرى حدثت مصادفة تقول انه حين يكون ربنا راغباً في أمر ما، فإن هذا الامر يتحقق مهما كانت الصعوبات. وأنا اشعر اليوم كما شعرت دائماً بأن ربنا هو الذي اراد لي هذا العمل. انظر إلى هذه المصادفة مثلاً: حين كان رمسيس نجيب في مكتبه يتأمل صورتي قال للموظفين هاتولي هذه الممثلة. ولم يكن اي منهم يعرفني، ولا يعرف لي اسماً او عنواناً، فقالوا له انهم سوف يتصلون بالصحافي الذي كتب عني لكي يسألوه، لكنهم لم يتمكنوا من الاتصال بالصحافي. وشاءت المصادفة ان يكون الاستاذ صلاح ابو سيف موجوداً في المكتب فسألهم: "انتو بتدوروا على مين؟" فقالوا له وهم يناولونه صورتي: "اننا نبحث عن صاحبة هذه الصورة"، فنظر اليها وقال بدهشة: "دي زهرة!" قالوا "زهرة مين؟" قال: "زهرة صديقة ولادي، كابينتها في سيدي بشر" وبسرعة اعطاهم رقم هاتفي. وهكذا رن الهاتف في بيتي وأمسكت السماعة وأنا اسأل "عايزين مين؟" فجاءني الصوت على الخط يقول: "عايزين الآنسة نجلاء" فكدت اقفل السماعة وأنا اقول ليس لدينا احد بهذا الاسم لأني لم اكن معتادة ان يناديني احد به، لكنه لما كرر الاسم صرخت: "أنا.. أنا.. أنا.. نجلاء"، فقال صاحب الصوت معرفاً بنفسه: "انا رمسيس نجيب" فقالت امي بسرعة "اديهولي، ده اكبر منتج في مصر" فقلت له "كلم ماما يا افندم". صباح الخير. صباح النور. انا عايز اشوف بنتك. امتى. دلوقت. فين. في ستديو مصر التابع للمؤسسة وكان ذلك آخر عام من حياة المؤسسة. بعد ربع ساعة. مش ممكن احنا في مصر الجديدة ومحتاجين ساعة لما نوصل. طيب بعد ساعة. وبعد ساعة كنا بالفعل نصل إلى داخل الاستديو حيث شاهدنا في أعلى الدرج رجلين ينظران الينا، الاول أسمر مليان بعض الشيء. والثاني ابيض ورفيع. همست لأمي: من رمسيس نجيب بين الاثنين. قالت الاسمر لأنها قد سبق لها ان شاهدته في الصور مع لبنى عبدالعزيز. طلعنا. وكان الثاني الاستاذ احمد بدرخان. وقعدنا في مكتب رمسيس نجيب ودار بيننا حديث سريع، ونقاش، ثم طلبا مني ان امشي بعض الشيء ففعلت، واذا بأحمد بدرخان ينظر إلى رمسيس ويقول له: "بمبونة". ولقد فهمت بعد ذلك بزمن ان هذه الكلمة كانت كلمة السر بينهما يقولها بدرخان ان اعجبته فيبادر رمسيس إلى التعاقد معي. وبالفعل اخرج رمسيس العقد وهو يقول لي ان التصوير سيتم في لبنان وان السفر سيكون بعد اسبوع وسألني عن عمري فقلتله بسرعة: 18 سنة. ثم طلب مني جواز السفر فلم يكن عندي فاهتم بأن يصدر لي الجواز بنفسه، لكنه حين اراد ان يفعل ذلك وأخذ اوراقي الثبوتية اكتشف انني اكذب وان عمري 15 سنة. فوقف واجماً وهو يقول: "انت لا تزالين قاصراً، والمطلوب موافقة والدك. هل هو على قيد الحياة؟" اجبت بالايجاب، فسألني رمسيس: "اين هو" قلت: "في الفيوم، لكنه لن يوافق" فقال رمسيس: "انا سوف اجعله يوافق لأنك سوف تنجحين" المهم جاء ابي وتحايلنا عليه وعملت عدة مواقف وانتهى الامر بالحصول على موافقته والحمد لله. وسافرنا إلى لبنان، وكانت رحلة في منتهى الجمال. أود هنا ان اقول شيئاً لا بد لي من ان اقوله منذ الآن: انا اذا كنت قد احببت منذ ذلك الحين العمل في السينما واحترمته. فما هذا الا لأني اشتغلت منذ البداية، مع احمد ضياء الدين في الفيلم الاول، ومع احمد بدرخان في الفيلم الثاني. والاثنان يمتازان بالابوة الطاغية. وأعتقد انني لو كنت اشتغلت مع مخرج عصبي او متمرد، لما كنت عدت إلى السينما على الاطلاق. كان من حظي ان بداياتي كانت مع ابوين حقيقيين وحنونين ومن هنا احببت الفن والسينما وحياة الاستديو، وتعلمت، باكراً، كيف احب عمل المخرج واحترمه، وأسلم لهذا الفنان أمر الفيلم وأنا مدركة سلفاً انه لا هم له سوى انجاح الفيلم وان يأخذ من ممثليه وبقية العاملين فيه اقصى مستويات الاداء التي يمكنه ان يحصل عليها. وانطلاقاً من حبي للعمل مع احمد ضياء الدين ومع أحمد بدرخان، احببت العمل مع حسن يوسف وعادل امام، عادل ادهم وأحمد رمزي، وثلاثي اضواء المسرح وغيرهم من عشرات الفنانين والفنيين الذين كانوا اخوة حقيقيين عند بداياتي فلم اشعر معهم بأي غربة، بل صرنا معاً اسرة واحدة، خصوصاً وان ذلك كله جعل امي تكف عن مرافقتي. وهكذا بدأت رحلة فاطمة الزهراء مع نجلاء فتحي. كانت رحلة جميلة وسعيدة، في افراحها وآمالها وآلامها، حتى وان كانت زهرة رفضت ان تخرج من داخلي. فظللت احب ان يناديني الناس "زهرة". فصرت نجلاء على الشاشة وفي الافيشات، وفي المسار السينمائي، وزهرة في الحياة اليومية، ومع الاصدقاء.
الحلقة المقبلة: "في بيروت أول جمهور حقيقي"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.