زياد الرحباني انقطع عن الشارع، مع انه مادة وحيه الاولى، وهو حذر تجاه الناس جميعاً. هذا ما نكتشفه في الحلقة الثالثة والاخيرة، من الحوار مع الرحباني الابن، وتدور حول قناعاته السياسية وفهمه للكوميديا و... علاقته بالنساء. واذا كان زياد يعتبر الضحك "أفضل ما في الحياة"، فإن ذلك لا يمنعه من التشاؤم بالمستقبل: فالحرية غير ممكنة في العالم، وفي لبنان "ما عاد في وسع أحد أن يغير شيئاً او حتى ان يطمح الى ذلك". وقد يفاجأ القارئ بنظرة الفنان الى المرأة التي تبدو لديه موضوع ريبة دائمة، او يدهش من تفضيله "الجيش على كل الاحزاب". * من هم الناس الذين تعرفت اليهم في الشارع؟ - الناس العاديون، بشكل عام. الفئات الشعبية. لم أحضر في حياتي حفلة رسمية واحدة. ولم أحضر كوكتيلاً إلا على شاشة التلفزيون. في حفلة كهذه ارتبك كثيراً، ولا اعرف ماذا افعل. ثمة كذب كثير، ووقت لا تعرف بأي كلام تملؤه. هذه الاحتفالات لا تهمني، ولا يهمني أهلها. وأنا الآن، على كل حال، انقطعت عن بقية الناس. انقطعت عن الشارع. الناس لا يعرفون انك تحتاج الى وقت لتعمل. أهلاً ابو الزوز. أهلاً أبو الزيز! يظنون ان المسرحية تكتب في عشر دقائق، والاغنية في دقيقتين. "هنالك وقت، لم لا تجلس قليلاً؟". * ما الذي شدك الى "الشعب"؟ هل هو تعاطف اخلاقي مع "المحرومين"؟ - أدلر يقول إن عقدة الذنب تولد باعثاً للخلق والعطاء. كنت أرى نفسي مرتاحاً في البيت، وأنظر من النافذة فأجد البائع ينهض فجراً لتوزيع جرائده، فأحس انه لا يحق لي ان اكون ممدداً في فراشي، هناك من يأتيني بالافطار ويسألني اذا كنت افضل هذا الصنف او ذاك... ولعل عقدة الذنب هذه رافقتني، ودفعتني الى التعويض عن نقص ما لدي. مع العلم انني أتحدر من هؤلاء الناس، وأنتمي اليهم. * ألم تجتذبك في حياة الناس العاديين أشياء محددة، كسلوكهم ولغتهم وتعابيرهم...؟ - طبعاً، يتعاطون مع الحياة بعفوية، وبشكل طبيعي. لو بقي الكاتب او الفنان جالساً الى مكتبه طوال العام، باحثاً عن "خبرية"، عن حكاية، لما وجد شيئاً يذكر بالمقارنة مع ما تحفل به الحياة اليومية من حكايات. * لغة الشعب فتنتك أيضاً... - أنا استعير الكثير من لغة الناس، وأغرف من قاموس الحياة اليومية. ثم يذهب الناس الى المسرح ليسمعوا ما أخذت منهم، ويضحكون كما لو كنت انا مؤلفها ولا يدرون انه كلامهم! لو استطيع لحملت جهاز تسجيل طيلة النهار، ولدرت بها طول النهار لأسجل كلام الناس. فالذاكرة لا تكفي. هناك طبعاً من يعتبر انه ليس مسرح ابتكار، بل غارق في الNaturalisme، يعني واقعية. * طبيعية؟ - طبيعية نعم. ثمة نقاد يقولون هذا الرجل لا يؤلف. إنه ما يحكيه الناس. مجرد نقل. * لغة الناس تتضمن أيضاً حيلهم وخدعهم. - لا يمكنك ان تعرف المحتال، إلا إذا تمرّست بلغته. * لكنك تعرفت الى الناس في الحرب وكانوا في اسوأ صورهم. - بعض ما تعلمته، تعلمته في الحرب. لكن الجزء الاساسي سبق الحرب. كانت الحياة عند ذاك طبيعية والناس طبيعيين. * اذا قارناك بالمدرسة الرحبانية وجدنا ان عملك يصدر من تحت، من واقع مباشر، فيما عمل أهلك يأتي بمعنى ما من فوق، من مجتمع خيالي؟ - أنت تقرر ذلك. * لا تجيب عن هذه النقطة، مع انك خصصت مسرحية كاملة لها! - لكنك تستطيع ان تقدر ذلك افضل مني. انت تلاحظ من بعيد. * ألم تشتمل مسرحية "شي فاشل" على الفكرة نفسها؟ - في "شي فاشل" نقد لصورة الضيعة الوهمية. * والموجودة جزئياً في أعمال أهلك؟ - نعم. * لنعد الى الماركسية ألم تؤثر فيك الهزات التي أطاحت الشيوعية؟ - يا أخي، لم أكن مع تروتسكي في مقولة "الثورة الدائمة"، إنما يظهر انها صحيحة. عاد الشيوعيون وصعدوا بسرعة. * وترك ذلك كثيراً على حد علمي؟ - العالم لا يستطيع ان يمشي على قدم واحدة. الحمار تحمله بطيخة على جانب واحد فلا يمشي. لا يمشي إلا اذا حملته بطيخة اخرى على الجانب الثاني ليجد توازناً كافياً. هذا الحمار فكيف البشر؟ هل يُعقل ان تكون قوة عظمى وحدها قيمة على العدالة الكونية فتقرر وحدها متى يجب ان تتدخل ومتى لا يجب، ولا تجد من يحاسبها او يواجهها ويقول لا؟ عندي أمل بالصين * في مسرحيتك "فيلم أميركي طويل" نقد مفصّل ومتماسك لخطاب "الحركة الوطنية" يومذاك. أظهرت تناقضات الخطاب "اليساري - الوطني" وتنبأت بانهياره. - كان الشيوعيون اضعف اطراف الحركة الوطنية. * لكنهم مع ذلك كانوا محرري، اي كُتّاب، الحركة الوطنية! - كانوا يكتبون لغيرهم، لكن الماركسية تفترض النقد الذاتي. * هل تعتبر "فيلم أميركي طويل" نقداً ذاتياً؟ - نعم. * هل أنت عضو في الحزب الشيوعي؟ - لست حزبياً. * برأيك أو برأي الحزب؟ - هم لا يريدونني في الحزب. * يفضلون ان تبقى مناصراً؟ ذلك أفيد لهم؟ - ذلك بالضبط ما قالوه لي. قالوا تفيدنا أكثر وأنت خارج الحزب. * ألا يزال عندك أمل بالشيوعية؟ - عندي الآن أمل بالصين. الصين لا تزال صامدة. * لكن الصين لم تحافظ من التجربة الشيوعية إلا على الديكتاتورية. - يا أخي لا مجال للحرية في هذا العالم. * هذا تصريح رهيب. - هل تظن ان في أميركا حرية؟ في اميركا يقولون لك تكلم على هواك، لكن لا إياك والتفكير في تغيير اي شيء. يتركون للناس ان يتكلموا. اميركا "هايد بارك" كبير ليس إلا. انا لا اقول انني لست مع الحرية. انا مع الحرية، لكن "الحرية" كلمة: انها في رأسك، وفي اخلاقك، لا في المجتمع. لا يمكنك ان تجد مجتمعاً حراً. * ماذا قرأتَ في الماركسية؟ - كل مختارات لينين. * المجلدات الستة الصادرة عن "دار موسكو"؟ - كلها ومسطّر تحت الذي وجدته مهماً منها. * قرأت لماركس؟ - جرّبتُ ان أقرأ "رأس المال" فوجدت انك تحتاج الى إلمام بعلم الاقتصاد لتفهمه، لا يزال عندي. وبين حين وآخر احاول ان افهم منه شيئاً. * ... - ماركس هو الذي يقول إن التاريخ يكرر نفسه، لكن على شكل مسخرة. * تعرف جيداً كيف تنتقد "الحزب". لكنك تبقى وفياً له. اتساءل اذا كنت بحاجة الى حزب. ابن تربى في بيت مزعزع يحتاج لسند كالحزب؟ - قلت لك انني قدمت طلباً للحزب لكنهم رفضوه. أحب ان اكون عضواً. ليس في قدرتك ان تعمل وحدك، لا بد لك من مجموعة. لكن المجموعات فرطت كلها، والحزب الشيوعي آخر ما استطاعوا فرطه. * أغانيك السياسية تحمل رسالة مبسطة وجامدة. اما اغانيك الغرامية ف"حقيقية" أكثر. - هل ترى ذلك في الشريط الجديد "بما إنّو"؟ * لا. في كل أشرطتك. ما ان تتناول موضوعاً سياسياً حتى يتحول الى درس وبيان مطلبي. "أنا مش كافر" مثلاً. - هل تجد حقاً ان هذه الاغنية مبسطة؟ * تبقى اقل دفئاً من الاغاني العاطفية على الاقل. وحتى في شريطك الجديد "بما انو" نجد هذه المفارقة؟ - هذا الشريط ليس فيه أغانٍ. هناك فقط "بما إنو" التي هي عنوان الشريط. كيف يمكن تناول الواقع اللبناني الراكد والمهترئ؟ من ربح اليوم؟ ماذا ربح الناس؟ ماذا حصل؟ هل تستطيع ان تحرّض شعباً ممزقاً على الخروج من انحطاطه؟ او حتى ان تتكلم عن زحمة السير؟ عملنا اغنية "بما انو كل شيء نضيف/ بما انو شفنا عفيف". * سمعتها قبل ساعتين. - ... قلّي بسرعة نزّل مرتك، وارخي ابنك ع الرصيف". ماذا يمكنك ان تقول اكثر من هذا. ما عاد في وسع احد ان يغير شيئاً او حتى ان يطمح الى ذلك. * كل اعمالك سلبية. لا تبدو متفائلاً ولو مرة واحدة، من "بالنسبة لبكرا شو؟"... الى الآن. - هل ترى في هذا البلد ما يبعث على التفاؤل؟ ماذا تريد المرأة مني؟ * لا، للأسف. أغاني الحب لديك قائمة غالباً على إشكال دائم، على تفاوت. يندر جداً ان نجد الرجل والمرأة على الموجة نفسها. دائماً هناك مفارقة ساخرة. في اغنية تقول: "حبيتيني لأني زعلان... - ... وتركتيني لأني زعلان"! * وهذا جميل. الحب عندك متوتر وحيّ، أكثر من السياسة. - لأني لم أوفّق في أي علاقة. * أحقاً؟ اغنياتك تنم عن تجربة، وتحتوي على تفاصيل مرهفة. هل تستمد بعضها من تجاربك الشخصية؟ - بالتأكيد. * نحس انك تتكلم هنا عن امرأة عرفتها، او تستوحي هناك عن تجربة عشتها. - هذا صحيح. * في اغنياتك الحب قائم على الخلل. - المرأة تسعى الى استقرار. ماذا تريد المرأة؟ الشهرة، المال، او ببساطة الاستقرار. ان تعيش مع رجل، تربي أولاده وتطبخ له. هذه امرأة هنيئة ولذيذة. لا تسألك اين كنت. هل تريد مثل هذه المرأة الهنيئة كما يسمونها في الضيع؟ * هل هي موجودة؟ - نعم. هل حضرت فيلم بوب فوس All that Jazz "كل هذا الجاز"؟ * اكثر من مرة. لماذا؟ - أنا حضرته عشر مرات. في المرة الاولى حين رأيت البطل بدأ يفرك بيديه خرجت من الصالة. توترت لأن هذا يحدث معي ايضاً. دخنت وعدت الى الصالة، في الفيلم امرأة خيالية تظهر للبطل. هذه امرأة لا تجدها، وإذا وجدتها لا تعرف تماماً ماذا تريد منها. ماذا تريد هي منك. هل تريد اسمك وشهرتك. اريد امرأة تحبني لنفسي لا لاسمي. تريد امرأة تحتملك. * ماذا تحتمل فيك؟ - عندي مشكلة مع النساء. اذا شئت ان ندخل في التفاصيل. اسأل دائماً ماذا تريد المرأة مني؟ تقول لك اريدك وحدك، ولا يهمني كيف يراك الناس. لكنك تبقى مع ذلك في شك... وتروح تُراقب. وقد تمضي سنين قبل ان تكتشف الحقيقة. المرأة داهية. ابسط امرأة داهية، تقول لك احبك لذاتك. لكنك تحتاج الى سنين لتعرف من التفاصيل اليومية انها تكذب. هناك شيء يدعوك دائماً الى التشكيك. هذا الموضوع دائماً ملتبس. تقول لستُ جميلاً يعني لست جان بول بلموندو ليفتنها شكلي. فماذا جذبها الى الآن، ان لم تكن شهرتي. تراها تظن انني ثري. هذه اسئلة تظل تنغل في رأسي. تعيش معها والسؤال في رأسك، وتروح تحاول ان تتحقق منها. لكنك لا تتأكد من شيء، لا تصل الى شيء. * هل تعتقد ان للجو العائلي القلق والمضطرب الذي ترعرعتَ فيه، علاقة ما بإحساسك هذا؟ - من دون شك. تجربتي في العائلة هي التي جعلتني أهجر البيت. وزواجي الفاشل الذي انتهى بطلاق، كل هذا جعلني "مشخشباً" متوجساً. كيف تترجمها هذه "مشخشب"؟ * لا عليك، سأكتبها كما هي. - أنظُر الى أنفي وأقول، كيف يمكن أن أعجب امرأة بمثل هذا الأنف؟ أنظر الى خصري، اقول هناك مئة واحد افضل مني. فماذا تريد هذه مني؟ هناك نساء صادقات يأتين الى المسرح ويطلبن توقيعك، أو يقدمن لك وردة ويذهبن من حيث أتين. لا يطلبن منك رقم هاتف، ولا يسعين الى لقاء آخر. النساء اللواتي يجذبنني أتعاطى معهن بحذر، واللواتي يتحرشن بي، أتصرف حيالهن بحذر ايضاً. اعيش حالة حذر دائمة، متواصلة، اذا شئت، حيال هذا الموضوع. يردنك لذاتك او شهرتك؟ حتى مع اصدقائي الرجال أبقى حذراً. * تحس هذا حتى حيال الرجال؟ - أنا حذر تجاه الناس جميعاً. المصريون دمهم خفيف ولكن... * هناك من يعتبرك افضل ممثل كوميدي عربي. ما رأيك بممثل كعادل إمام مثلاً؟ - عادل إمام يريد ان يلعب الذكي والأبله في الوقت نفسه. هذا صعب جداً. * كيف؟ - تعطي لواحد دور أبله فيلعبه ويقنعك، يبدو أبله فعلاً. وتعطي آخر دور محتال، فيلعبه وتصدق انه محتال. دريد لحام يلعب دور المحتال وحسني البرزان دور الأبله. انا افضل حسني البرزان في دور الابله، لكن دريد لحام يبقى في دوره. عادل إمام يريد ان يكون الأبله الذي يشفقنا ويضحكنا، والذكي الشاطر الذي يلعب على الناس ويخدع الجميع. * ماذا تريد انت من الكوميديا؟ - الضحك افضل ما في الحياة. واذا كان له مغزى فإن ذلك أحسن. * انت بين الكوميديين العرب القلائل الذين لا "يزيدونها" على الخشبة. فحركاتك قليلة مدروسة، وأنت تقتصد في ال "إفّيهات" الخارجية. وتبلع صوتك بدلاً من أن "تلعلع" به. - أحاول ألا أصرخ كثيراً. * الكوميديا لديك مختلفة: لا تهريج ولا صراخ ولا تضخيم ولا مبالغة مجانية... بل قدر من الهدوء وقلة الحركة. - مفهوم الكوميديا بدائي وسطحي لدى العرب بشكل عام. فالاعتماد هو على القفشات والتهريج السطحي. كما انهم يركّزون كثيراً على اشكال وجوههم: لا بد ان يكون للواحد وجه قرد، كي يمثل بوجهه الحقيقي. إن الكوميديين الكبار بشكل عام جذّابون في الحياة، وهذا لا يمنعهم من ان يبرعوا في فنهم. * كيف تنظر الى الكوميديا العربية؟ - شاهدت بضع مسرحيات مصرية. المصريون يا أخي قريبون من القلب، لديهم خفة دم. اي مصري تكلمه تجده صاحب نكتة، وسريع البديهة. لكنه اذا وقف على المسرح يعلّق ربع ساعة في كلمة واحدة. "قلت إيه، لأ قلت إيه، بس قلت إيه..." والناس يجاوبونهم من الصالة، ويبادلونهم التعليقات. هل تلاحظ ذلك؟ أنا أحب الممثل عبد المنعم مدبولي، فهو يعرف كيف يسكت اذا احتاج الأمر. يصمت اذا تطلب الموقف ذلك. * معظم انتاجك ظهر اثناء الحرب وبعدها. مسرحك شعبي، لكنه ايضاً جدل سياسي. هل تستطيع ان تتصور مسرحاً غير سياسي؟ - لا. أحس ان حياتي الخاصة لا تنفصل عن الوضع السياسي. حياتي العائلية والعاطفية لا تنفصل عن الموضوع السياسي. اذا لم تؤمّن قسط مدرسة ابنك الذي وضعته في مدرسة راقية 5 ملايين ليرة مثلاً، قد يهز ذلك العلاقة بينك وبين امرأتك. في بيروت مثلاً، ما اكثر الذين تسرّعوا في الزواج اثناء الحرب، لأن الموت كان قبالتهم ولا وقت للتريث، ثم انفرطت العلاقات بالسرعة نفسها. * في "فيلم أميركي طويل" نقد ساخر لخطاب الحركة الوطنية والشيوعيين، في "شي فاشل" نقد للحلم اللبناني وأيديولوجيا الضيعة اللبنانية. مسرحك بعد الحرب ماذا يعالج؟ من ينقد؟ - الناس. * الشعب يعني؟ - نعم. * لماذا الانتقال من نقد السلطة الى نقد الشعب؟ - كنّا ننزل الى الشارع لنتظاهر، لأنه قيل لنا: اذا تغيرت الحكومة يستقيم كل شيء. لكن الحقيقة ان التغيير يبدأ ايضاً من الناس. اكتشفتُ مع الوقت، بمعاشرة الناس، ان ابناء شعبنا لا يجتمعون إلا حول عصبية ما، طائفية، مناطقية، إلخ. أردت ان اقول لهم: اذا لم تجتمعوا حول مشروع وطني سليم، فإن شيئاً لن يتغير! كيف تستطيع ان تغير سلطة، او تصلح نظام حكم، إذا لم يجتمع الناس؟... الشعب العنيد... * كنتّ مفتوناً دائماً بالشعب وعفوية الشعب والآن تسخر منه! - لكن الشعب فهم سخريتي. ثم ان نجاراً يشتغل بالكهرباء ويصوّر أعراس فيديو، لا يمثل كل الناس. ليست كل شخصية تصعد الى المسرح تعميماً للبشرية. لاحظت ان المشاهدين صفقوا بشدة، لأنهم يعانون بدورهم من تلك النماذج. * بعد الحرب تركّبت سلطات مصطنعة احياناً، وأحياناً فظة او سخيفة او مدعية او فاجرة... وثمة حكام يحسبون ان التاريخ يبدأ منهم ويؤسس كل منهم هرمه الخاص. هذا لا يلفتك ولا يثير سخريتك؟ - أنا لا أؤمن إلا بالشعب. * لكن... - عندما تنتقد، تنتقد ما أو من يهمّك. تركز على الأشياء التي تؤمن بها. لماذا تراني ركزت على الضابط؟ لأنني أؤمن بضرورة الجيش للبنان، إذ يمكن في لحظة واحدة أن تعود الحروب الطائفية. * يبدو لي أحياناً انك تعلّم السياسة من دون ان يكون لك معرفة بها. ألا تعلم ان الانظمة العسكرية ليست بعيدة عن الفساد. - ليس هذا ما أطالب به، انت رأيت الضابط على المسرح. كم هو نشيط ومخلص، ولا يرتشي، ولا يرضى بالأكاذيب. * كل الانظمة العسكرية في الدول المتخلفة تبدأ بنقد الفساد وتنتهي بتعميمه. - ليس هذا ما أتمناه. لكنني أفضل الجيش على كل الأحزاب التي زعمت انها البديلة. افضل الجيش اذا عرف كيف يبقى موحداً. ويقضي على جرثومة الطائفية، لا ان تبقى هذه مكبوتة فيه تهدده بالانقسام في اي لحظة كما حدث من قبل. المهم ان يعلم الناس كيف يقفون في الطابور، وهذا ألف باء السلوك الاجتماعي. لا أتكلم عن جيش يدبر انقلاباً عسكرياً، لكن عن جيش يقوم بدوره، يمنع الناس من اطلاق النار في المآتم والاعراس. اتكلم عن الجيش بمفهومه النظيف، وأعتقد ان العسكري هو البروليتاري الوحيد الآن. * لكن هذا الكلام غريب وخطر في منطقة تعج بالأنظمة العسكرية! - خطر نعم. ألم ينته الحديث بعد؟ بات طويلاً. * في مسرحياتك الاخيرة لا نجد بطلاً، او محوراً. - اردت ان اخبر اكبر عدد ممكن من قصص الناس، لهذا انتفت البطولة. بعض الناس مل وقال: اين البطل؟ ×هل يعني ذلك انك انتقلت الى مسرح مختلف؟ - ليس بالضرورة. أنتم في الصحافة تبحثون دائماً عن الجديد. كل عمل له اسلوبه. حين اعمل اسطوانة لفيروز، فهي لا تشبه اخرى اعملها لجوزيف صقر. قد اعود في عمل مقبل الى قديمي، فأقدم شخصية محورية. لو قللوا من الصحافيين لغدت الصحف أنصع وأكثر بياضاً، ولصار في وسع ميشال المر ان ينشر صورة بنايته على صفحة كاملة. * لكنك لم تسكت عن انتقادات الصحافيين لمسرحيتك ما قبل الأخرة، "من أجل الكرامة والشعب العنيد". - أخطأت بالرد على المقالات التي انتقدت مسرحيتي. أعترف بذلك. لم يتغير شيء بين ذاك العمل والعمل الأخير الذي تلاه. ومع ذلك تغيرت لهجة النقاد، وتبدلت مواقفهم احياناً. ماذا حدث؟ الآن يقوم الجمهور بالدفاع عني، اذا كنت تتابع الصحف البيروتية. والمشاهدون الشباب تحديداً هم الذين يردون على انتقادات الصحافيين.