قبل تسعة عشر عاماً تغلب مناحيم بيغن على شمعون بيريز ليصبح بذلك أول رئيس وزراء من تكتل ليكود. وجاءت مبادرته الأولى فور توليه رئاسة الحكومة، زيارة مستوطنة "ايلون موريه" قرب نابلس في الضفة الغربية، حيث أعلن أمام المستوطنين أنه "انتصر نيابة عن دعاة إسرائيل الكبرى". ومضى يقول: "سنبني المزيد والمزيد من مثيلات ايلون موريه... فهذه أرض إسرائيل المحررة... ونحن نناشد المتطوعين الشباب في إسرائيل وفي الشتات القدوم إلى هذه البلاد والاستيطان هنا". أما اليوم فقد ماتت إسرائيل الكبرى بعدما هزمتها الانتفاضة الفلسطينية ودفنتها اتفاقات أوسلو. حتى بنيامين نتانياهو خلف بيغن أصبح يعترف الآن ان حلم ليكود بإقامة إسرائيل الكبرى بات بعيد المنال. إذ قال في حديث له مع صحيفة "جيروزاليم بوست" قبيل فوزه في الانتخابات بفترة قصيرة: "لقد دخلنا الآن عصراً جديداً لا بد لنا من أن نقبل معه اننا لا نستطيع تحقيق أحلامنا دائماً". ويظهر أن نتانياهو يفضل كبح جماح أولئك المتشددين داخل حزبه الذين ينادون بالمزيد من الاستيطان في الضفة الغربية ولا يكفّون عن اطلاق التصريحات النارية عن الاستيطان. إذ أنه لم يعلن - مثلما فعل بيغن قبله - أنه سيكون هناك العديد من "مثيلات ايلون موريه". كما أنه لن يحذو حذو اسحق شامير الذي أعلن انشاء ما أصبح يعرف ب "مستوطنات بيكر" التي بدأت اقامتها عشية إحدى الزيارات العديدة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي السابق إلى إسرائيل ابان حرب الخليج. لكن كل هذا لا يعني أن حكومة نتانياهو لن تنادي بحق الإسرائيليين في "أرض إسرائيل"، أو أنها لن تبني مستوطنات جديدة في الضفة الغربية. ففي حكم المؤكد أنها ستفعل ذلك. لكن نتانياهو يحبذ، إذا ما استطاع كبح جماح المتشددين من أمثال ارييل شارون، العمل بهدوء ومن دون أي ضجة، على غرار ما فعله كل من اسحق رابين وشمعون بيريز عندما ارتفع عدد المستوطنين في عهدهما إلى مئة وخمسين ألف مستوطن من دون أن يؤدي ذلك إلى إثارة أي تذمر فلسطيني أو دولي حقيقي. لقد ولد نتانياهو وترعرع في حزب حيروت، المركز الايديولوجي لتكتل ليكود. ولهذا من البديهي ان يكون تأييده لمبادئ الحزب الأساسية حق إسرائيل في اقامة إسرائيل الكبرى بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط وحق الشعب اليهودي في الاستيطان في جميع أنحاء تلك المنطقة طبيعة ثانية. ولذا يتوقع ان تستأنف إسرائيل في عهده مصادرة الأراضي العربية في القدسالشرقية وتوطين اليهود في الضواحي مثل سلوان والعيزرية وأبو ديس وفي البلدة القديمة من المدينة. إذ قال نتانياهو قبل فوزه في الانتخابات: "علينا أن نتذكر أن سلوان تجاور مدينة داوود. وأنا لا أتوقع حدوث أي مشكلة في استيطانها، كما انني لا أرى أي مشكلة في إقامة المسلمين في الحي اليهودي من المدينة أو في شرائهم البيوت في الضواحي اليهودية... فإذا كان اليهود سيحرمون من العيش في مدينة داوود موطن الملك والأنبياء، فأين يمكن أن يعيشوا؟". ويرى نائب رئيس بلدية القدس شموئيل مائير في فوز نتانياهو ضوءاً أخضر للمضي قدماً في البرنامج الهائل لبناء المساكن للإسرائيليين في القدسالشرقية واستئناف تعبيد الطرق الجديدة، وهو البرنامج الذي جمّدته الحكومة السابقة. وتتوقع بلدية القدس التي يهيمن عليها ليكود الشروع في تنفيذ برنامج واسع النطاق من البناء وتعبيد الطرق في القدس والضواحي. كما أن البلدية مصممة على هدم أكثر من 2500 منزل بناها الفلسطينيون دون رخص حسب ادعاء مائير. مستوطنات شارون وكان ارييل شارون الذي كرس من وقته وحياته لتوسيع المستوطنات أكثر مما كرّسه أي زعيم آخر في ليكود، قد أوضح السياسة الاستيطانية التي يرجح أن تنتهجها حكومة ليكود قبل الانتخابات بفترة وجيزة، إذ قال: "من الواضح بالنسبة إليّ أن المجتمعات الحالية ستنمو وتشع. وعلى أي حال فإن هذا التوسع وارد في الخطط الأساسية وسيتم على أرا ضي الدولة. لكنني سأضيف مستوطنات جديدة في المناطق الأمنية التي يصف اتفاق أوسلو بعضها بالمنطقة ج خارج المناطق السكنية العربية، على سبيل المثال، لنأخذ المناطق الواقعة شرق الخط الأخضر: ليس هناك ما يحول اطلاقاً دون اقامة مجتمعات جديدة في المناطق الخالية من السكان. بل ويمكننا ان نطلق على ذلك توسيع المستوطنات الراهنة. وهكذا ستبدو هذه التجمعات السكنية في البداية مواقع معزولة... لكنها ستصبح في نهاية المطاف منطقة جغرافية مأهولة ومتواصلة". ومضى شارون يقول: "من الضروري أيضاً الاستيطان في المناطق اللازمة لحماية الغالبية اليهودية في القدس الكبرى وفي التلال التي تطل على السهل الساحلي. كذلك سنقيم المزيد من المستوطنات بين القدس وشمال البحر الميت وفي المنطقة الواقعة بين وادي الكلت وجدول كيذرون. ولهذا سنوسع معال ادوميم الواقعة إلى الشرق من القدس بهذه الطريقة. وإذا ما أكملنا الاستيطان في القدس، فإن أفضل مكان للاستيطان بعد ذلك هو المنطقة الواقعة إلى الشرق من معال أدوميم. لكن الاستيطان في الدرجة الأولى سيتركز على توسيع المستوطنات الحالية". نهاية التنازلات الجغرافية والواقع ان اتفاقات أوسلو تركت لإسرائيل السيطرة الكاملة على نسبة سبعين في المئة من الضفة الغربية. ومن الواضح ان الحكومة الإسرائيلية الجديدة عقدت العزم على توسيع المستوطنات الموجودة في تلك المنطقة وبناء مستوطنات جديدة فيها. ويرى نتانياهو ان اتفاق أوسلو الثاني الذي أعطى السلطة الوطنية الفلسطينية السيطرة على أقل من نسبة ثلاثين في المئة من الضفة الغربية وعلى حوالى تسعين في المئة من قطاع غزة يمثل نهاية للتنازلات الجغرافية التي يمكن أن تقدمها إسرائيل، لا بداية لتلك التنازلات. وهو يعتقد أيضاً بأن القيادة الفلسطينية تستطيع الاستمرار في ممارسة سلطاتها على هذا الأساس. ولهذا السبب وافق نتانياهو على التنازلات الأساسية التي تشكل جوهر اتفاق أوسلو الثاني، بناء على نصيحة من إلياهو بن أليسار أحد أوثق مستشاري بيغن. فهو يقبل سيطرة الفلسطينيين على المدن الرئيسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن شريطة ضمان مستقبل المستوطنات الإسرائيلية والمستوطنين، إذ قال بن أليسار: "انني على استعداد حتى للتنازل عن السيادة شريطة استمرار الحكم الإسرائيلي في تلك المستوطنات". وتقول مجلة "نيكودا" التي يصدرها المستوطنون ان عدد المستوطنين اليهود ارتفع في عهد الحكومة العمالية بين عامي 1992 و1996 من حوالى مئة ألف في شهر حزيران يونيو عام 1992 إلى حوالى 152 ألف مستوطن في حزيران عام 1996. أما عدد الإسرائيليين في القدسالشرقية وحدها فيزيد الآن عن 200 ألف نسمة أي بزيادة حوالى 50 ألف نسمة عما كان عليه في شهر تموز يوليو عام 1992. وبهذا يصبح عدد اليهود في القدسالشرقية أكثر من عدد الفلسطينيين فيها. علاوة على ذلك، تقضي برامج الاسكان والإعمار التي ورثتها حكومة نتانياهو عن حكومة العمل بزيادة عدد المساكن اليهودية في القدسالشرقية بخمسة آلاف كل سنة ولسنوات عدة مقبلة. وعملية البناء هذه في القدسالشرقية جزء من برنامج أوسع يقضي، حتى قبل فوز ليكود في الانتخابات، ببناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية للإسرائيليين في المناطق الواقعة بين مدينة رام الله إلى الشمال من القدس ومدينة أريحا في الشرق ومدينة الخليل في الجنوب، أي في المنطقة التي يطلق عليها اسم "القدس الكبرى". ويؤلف عدد المستوطنين اليهود في المستوطنات الواقعة ضمن إطار "القدس الكبرى" حوالى ثلث عدد المستوطنين في الضفة الغربية 47 ألف نسمة. وكان بيريز يعتزم بناء 13 ألف وحدة سكنية خلال الفترة بين عامي 1995 و1998، على أن تتركز تلك الوحدات في مستوطنات مثل معال أدوميم وبتير وعفرات وعيفات زائيف وتؤمن السكن لأكثر من 50 ألف يهودي آخرين. 20 ألف مسكن إن إلقاء نظرة على خطط زعماء ليكود الاستيطانية تبين أنها تستند إلى النجاح السياسي والجغرافي الذي حققته سنوات رابين - بيريز والبناء على هذا النجاح. فقد طرح إسرائيل هاريل أحد كبار قادة الحركة الاستيطانية خطة لبناء عشرين ألف وحدة سكنية في الضفة الغربية بحلول عام ألفين، ثلثها في منطقة القدس الكبرى والثلث الثاني في المستوطنات الكبرى الواقعة على محاذاة الخط الأخضر مثل آريال وآلفي مناش والثلث الأخير في المناطق الجبلية من الضفة الغربية لإقامة "ستين مستوطنة سياسية". كذلك أعدت "أمانة" وهي دائرة الاستيطان في "مجلس مستوطنات يهودا والسامرة" الضفة الغربية برنامجاً سيؤدي إلى زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى أكثر من ثلاثة أضعاف العدد الحالي ليصل إلى نصف مليون نسمة بحلول عام ألفين. وهذه الخطة التي تزيد تكاليفها على أربعة آلاف مليون دولار هي الأساس الذي تقوم عليه برامج الاستيطان التي ينادي بها المستوطنون ومؤيدوهم في ليكود وفي الحزب الديني القومي منذ أوائل السبعينات. ومع أن معظم برامج الاستيطان الأخرى لم تحقق كامل أهدافها الأصلية، فإن تلك البرامج نجحت على الأقل في تقرير السياسة الاستيطانية التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من حزبي العمل وليكود. وكانت "أمانة" أعدت خطتها انطلاقاً من توقعها فوز ليكود في الانتخابات واغتنام فرصة هذا الفوز ل "خلق حقائق اضافية على أرض الواقع" تؤدي إلى الحيلولة دون توسيع رقعة سيادة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى ما وراء رقعة سيادتها الحالية. إذ تنص خطة "أمانة" على "ضرورة تركيز موارد الاستيطان من منطلق الافتراض بأن الحكومة التي ستتولى مقاليد السلطة بعد الانتخابات ستكون راغبة في استمرار الاستيطان". وتمضي الخطة: "ان حجم تلك المستوطنات والاتصال بينها وربطها بمراكز السكان والمدن اليهودية الأخرى سيكون عاملاً مهماً في نظرة الرأي العام الإسرائيلي إليها، وسيؤدي بالتالي إلى التأثير بصورة مباشرة في القرارات السياسية التي ستتخذها الحكومات الإسرائيلية في السنوات المقبلة". وتعتمد خطة المستوطنين هذه على توسيع المستوطنات الحالية، لا سيما الكبيرة منها، واستغلال الفرص التي ستتيحها الطرق الالتفافية الجديدة التي كلفت أكثر من 600 مليون دولار في عام 1995 وحده التي شرعت الحكومة في بنائها عقب التوصل إلى اتفاق أوسلو مباشرة، لأن هذه الطرق تفتح الباب أمام توسيع المستوطنات الحالية واقامة مستوطنات جديدة. ويقول هاريل: "ان برنامج الطرق الالتفافية أدى من دون قصد إلى تعزيز فرص الاستيطان" في الضفة الغربية إلى درجة كبيرة. سيطرة فلسطينية اسمية ويبدو أن الحركة الاستيطانية مستعدة لقبول سيطرة فلسطينية "اسمية" على الأقل في المنطقتين اللتين تمارس فيهما السلطة الفلسطينية قدراً من السلطة منذ عام 1995، إذ أن الخطة تخلو من أي توسيع للمستوطنات في هاتين المنطقتين. وكانت حكومة شامير قد صادقت على بناء المستوطنات الاثنتي عشرة التي تعتزم الخطة انشاءها. وتقع في أراضٍ أعلنت حكومة شامير ملكية الدولة لها أو في اراضٍ تقع ضمن الحدود الأصلية للمستوطنات الحالية. والمعروف ان السلطة الفلسطينية اعترفت في اتفاقات أوسلو ب "حقوق إسرائيل القانونية" في اراضي الدولة. وسيتم تحقيق هذا التوسع في المستوطنات من دون استخدام جزء كبير من الأموال العامة. إذ أن "أمانة" تريد الاعتماد على القطاع الخاص، لكنها تريد من الحكومة الاستمرار في تقديم القروض المالية للراغبين في الاستيطان وبفوائد منخفضة. وباعتماد "أمانة" على أموال القطاع الخاص تضمن عدم صدور احتجاجات ذات شأن من الولاياتالمتحدة على برنامجها. وكان مجلس الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية قد قدم قائمة من الطلبات إلى نتانياهو في أول اجتماع عقده بعد فوزه مع ممثلي المجلس. إذ قال بنحاس والرشتاين أحد اعضاء المجلس: "لقد عشنا فترة جافة وحان الوقت الآن لتغيير ذلك. ولهذا طالبنا الحكومة بأن تتعهد تنفيذ السياسات التي ستخلق الحقائق على أرض الواقع، أي أن تخلق وضعاً جديداً لا يمكن التراجع عنه أو تغييره، ويجعل من المستحيل على أي حكومة في المستقبل أن تقترح حتى فكرة اخلاء المستوطنات". وتشتمل الطلبات أيضاً الآتي: - توسيع المستوطنات الحالية. - عدم سحب القوات الإسرائيلية من مدينة الخليل. - ضمان وحدة مدينة القدس من خلال إقامة المستوطنات في كل جزء من أجزاء المدينة. - اغلاق جميع المؤسسات التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية في القدس. - استئناف برامج البناء والإعمار على نطاق واسع لمنع اخلاء أي مستوطنات صغيرة في المستقبل. وعلّق إسرائيل هاريل، على هذه الطلبات بقوله: "إن المستوطنين سيكونون سعداء إذا ما نفذ نتانياهو مجرد ما وعدنا به بيريز". واضافة إلى المطالب السابقة هناك أيضاً مطلبان آخران رئيسيان، هما: ضم غور الأردن إلى إسرائيل والاحتفاظ بالسيطرة الإسرائيلية المطلقة على أراضي الغور ومياهه، والبدء في تنفيذ برنامج لإنعاش مستوطنات الاغوار ينطوي على اقامة مشاريع زراعية وسياحية مشتركة مع الأردن. ضم أجزاء كبرى من الضفة الغربية على مراحل إلى إسرائيل استناداً إلى خطة تقضي بضم جميع الأراضي التي توجد فيها غالبية يهودية من السكان. وفي هذا الإطار قدم زعماء المستوطنين إلى نتانياهو خطة لضم المستوطنات الواقعة ضمن حدود القدس الكبرى إلى المدينة "الموحدة": من كفار عصيون جنوب الخليل إلى بيت إيل الواقعة إلى الشمال من مدينة رام الله.