مراهقاً، راح زياد الرحباني يقرأ كتابات ماركس ولينين وتروتسكي، وهو لا يزال إلى اليوم يتساءل "إذا كان ممكناً لكلامهم أن يغدو حقيقة". في هذه الحلقة الثانية من الحوار مع "الابن الشقي" للمؤسّسة الرحبانيّة، يخوض الفنّان في السياسة، ويبسط نظرته إلى الأغنية والموسيقى الشرقيّة. هكذا نكتشف أنّه يكره الروك إند الرول ويحب السامبا وسيّد درويش والموسيقى الزنجيّة، ويطمح إلى اعطاء دور أكبر للبيانو، ويؤلّف "على الطلب". ف "الموسيقى تحتاج لانتاج، ورأس المال هو الذي يقرر إذا كانت تستحق أن تخرج إلى السوق". نستطيع القول إن الولد الشقي تعلّم من الشارع إذاً؟ - الشارع هو أفضل مدرسة. مهما بلغت معارفنا النظريّة، فإننا لا نتعلم إلاّ من الشارع والناس. هل هذه "المدرسة" هي التي نمّت حسّ التمرّد لديك، وبلورت في وقت مبكّر وعيك السياسي؟ - لا أعرف تماماً هل نسمّي ذلك وعياً مبكّراً، حسّاً سياسيّاً، أو نزعة إلى التمرّد والعصيان. أذكر أنّني ذات يوم قمت بإضراب وحدي في مدرسة "الجمهور". كانت كل المدارس مُضرِبة، وعلى رأسها، طبعاً، ثانوية "رمل الظريف" الرسمية التي اشتهرت آنذاك بدورها الرائد في التحرك الطلابي. ولم يكن من عادة مدرستنا - كما تعرف - المشاركة في الاضرابات. لكنّني حاولت أن أقنع صفّي على الأقل بالاضراب، فلم يتضامن معي سوى تلميذ واحد هو نفسه الذي أصبح عسكريّاً راجع الحلقة الأولى في العدد السابق. عندها أضربت وحدي، وبدلاً من الذهاب إلى المدرسة قصدت جريدة "النهار" ومعي بيان كتبته أنا بإسم "طلاب مدرسة الجمهور" ويعلن إلتحاق طلاب مدرستنا بحركة الاضراب، مع العلم أن ذلك كان مخالفاً للحقيقة. كان ذلك أيّام خلاف غسان تويني مع الرئيس سليمان فرنجية. فأصبح صاحب "النهار" رمزاً للحركة الطلابيّة. كان وزير التربية يومئذ؟ - نعم وزير التربية. هكذا قمت وحدي بالإضراب. أضربت المدرسة رغماً عنها. كان هناك سجلّ في الصف، يتوجّب علينا، عندما نغيب، أن نذكر فيه سبب هذا الغياب، مثلاً تقرير من طبيب يقول إن معك حصوة تحركت عليك ومنعتك من المجيء. احترت ماذا أكتب؟ تسألني هل أعلمت أبي. كيف أعلمه وهو في غير دنيا، يلحن ويظل يلحِّن. كتبت J'ژtais en grڈve كنتُ مضرباً. ناداني الناظر وهو قبطي مصري يتكلم الفرنسية. تأمل كيف ستكون حاله في هذا الجو، قال لي: "أنت وحدك En grڈve والمدرسة كلها فاتحة. أعطيك أول انذار، والآن أدخل إلى الصفّ"، وكان هذا بالطبع فاتحة الانذارات. كانوا كلما زار المدرسة سفير أو ما شابه ينادونني ويقولون لي: "هذه هي النوتة. تعال أعزف هذا النشيد الوطني أو ذاك". كان ذلك يسرني، فأنا أعزف بينما الطلاب يكابدون ويعانون في الصفّ. ومع ذلك وجه لي الاستاذ انذاراً! قال: "كيف تُضرب. هل يضرب انسان وحده؟". أجبته: "لكن البلد كلها مضربة. بنيتم هذه المدرسة على رأس التلة، وهي تعلو 600 متر عن سطح البحر، وابقيتمونا هناك منقطعين عن العالم كالمعاقين". وفي مرّة ثانية طالبنا أن تكون المدرسة مختلطة. استجوبونا، وعرفوا أنني وراء الاضراب، فأعطيت "آخر انذار". صار عندك في الوقت نفسه مشاريع اضراب وعلمانية وبنات؟ - نعم نعم ضحك من هناك بدأت. من أين جلبت هذه الافكار من قراءاتك؟ من إحساسك؟ - كنت أقرأ. أكيد. ماذا كنت تقرأ؟ - يعني... الصحافة؟ - بدأنا نقرأ جرايد. كنت الوحيد الذي يقرأ ومعي الطالب الآخر. هو نفسه الذي يتكلم بالعربية؟ - نفسه. كنتَ مسيساً ومشاغباً، ألم يجعلك هذا محبوباً من الطلاب. - كانوا يشتكون عليّ. أصحابك في الصف نفسه يرفعون تقارير عن كلّ ما فعلته. صاحبك الذي تمازحه وتلاعبه في الفرصة، يدلّ عليك، يرفع اصبعه ويقول "فلان عمل هيك"، بدل أن يتضامن معك، ويستر عليك. كل هذه التجارب مع أولاد الذوات، ومع التحيّز الواضح في مدرستك، أثّرت فيك حتماً... وأنت تستعين بها في مسرحك؟ - لا أزال حتى الآن عاجزاً عن لفظ ال "إغ" اللعينة هذه. تعرفت على فرنسيين كثر، لطفاء ولا يجدون مشكلة في أن ألفظ الراء راءً. لماذا كانت هذه مشكلة عندهم؟ تتكلم مع مهندس صوت فرنسي فيفهم عليك. تكتب له "فاكس" فيفهم عليك. إنّ أكره ما يكرهه الأجانب هو أن تحاول تقليدهم. كم أحبوا خوليو إيغليزياس، لأنه لا يبالي باللفظ الفرنسي. هذه هي صرعته وحدها. وهذا أكثر ما أحبه الفرنسيون فيه. "أم كلثوم مرض"! يقودنا هذا إلى "مسألة اللغة": هل كانت علامة فارقة بين فئتين ومجتمعين في لبنان؟ - بالضبط. في المدرسة كانوا يتكلمون الفرنسية، وفي البيت كنت تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية كما ذكرت في احدى المقابلات التلفزيونيّة. قلتَ إنك كنتَ تسمع كلاسيك وتشرب شاياً على الترويقة. والأرجح أنك لا تحب الاثنين. كيف كان جوك الموسيقي في البيت؟ - أبي كان يسمع أعمال الرحابنة الموسيقية، أو بعض الموسيقى الشرقية. لم يكن يحبّ الموسيقى المصرية. عندما رغبت في سماع سيد درويش لم أجد شيئاً من أعماله في البيت. حين غنّت فيروز "زوروني كل سنة مرة" سألت لماذا لا نستمع إلى الموسيقى المصريّة في البيت، فكان ردّ عاصي قاطعاً: هذا كل الموسيقى المصرية والباقي مرض. كل الموسيقى المصرية كانت بالنسبة إليه "مرضاً"؟ - كان يحبّ سيد درويش، لكنه يجد غناء أم كلثوم مرضاً. لم يكن يطيق أغنية تستمرّ ساعة كاملة. وربّما كان محقّاً، فأنا لا أطيق أغنية تستغرق كلّ هذا الوقت. ماذا كنتم تسمعون إذاً؟ - الموسيقى الكلاسيكية بشكل أساسي كما ذكرت. كيف بدأت تمردك الموسيقي في البيت؟ ما الذي اجتذبك في البداية؟ - اجتذبتني الموسيقى البرازيلية، السامبا. مَنْ مِنَ الكلاسيكيين اجتذبك. - رخمانينوف. ومن سواه؟ - أحب تشايكوفسكي، أحب كثيراً شوبان وفرانز ليسْت. ومن الفرنسيين أحب برليوز... ألا تحب بيتهوفن؟ - لا. أحببته في البداية. ألا تحب سترافينسكي مثلاً؟ - بلى طبعاً. لكن موسيقاه فيها "عجقة". أنا لا أحب العجقة في الموسيقى. وخارج اطار الموسيقى الكلاسيكيّة. ماذا عن ظاهرة "البيتلز"، وهي طبعت المرحلة التي نشأت فيها؟ - أحب "البيتلز" طبعاً، لديهم أغنيات أحبها كثيراً. أعزف الآن أغنيات لجون لينون. أهميتها في كلامها، لحنها بسيط جداً. هذا ما فتن الناس. أنت أيضاً تحاول أن تضع الحاناً بسيطة لكلمات مميزة؟ - هذا ما أحاول أن أفعله دائماً. والجاز ماذا تحب من الجاز؟ - كل الجاز الحلو أحبه. بعض الجاز الجديد لا أحبه. يكاد أن يتحول إلى روك. ألا تحب الروك؟ - أعوذ بالله. يقولون إنه تعبير عن رفض المجتمع وأشياء أخرى لا أعرفها. يستطيع المرء أن يرفض من دون أن يحطم لك جمجمتك. في كل حفلة روك يسقط أربعة أو خمسة قتلى. يدوسون بعضهم بعضاً. حفلة الروك تضم بضعة آلاف، وهم يحاولون أن يسيطروا على الجو بقوة الصوت لا بفحوى الأغنية وجمال الموسيقى. ينصبون أعمدة من المكبّرات الصوتيّة لتدوي أصواتهم. لا أطيق الروك. ألا يجعلك هذا تبدو وكأنك غير معاصر، متخلّف عن المرحلة؟ - لا. الغناء الجديد ألطف من الروك. أنت بعيد عن الروك، في حين أنك الأكثر معاصرة في الأغنية العربية. ماذا تريد أن تضع في هذه الاغنية؟ - شيئاً شبيهاً بموسيقى أميركا اللاتينية وموسيقى السود. السود لا يعزفون الروك. موسيقى السود التي تأثرت بها تسمى فانغ وسول. السود يرقصون على أنغام الفانغ، لكن النغمة تبقى بطيئة. يقرعون الارض ويخبطون بأقدامهم لكن ليس لموسيقاهم هذا الضجيج الذي للروك. قلت مرة إنك لا تنتج موسيقى إلاّ على الطلب؟ - تأتيني جملة موسيقى. فأسجلها، أي "أنوّطها"، وأتركها. ولا أشتغل عليها إلاّ إذا كان فيها جدوى، هل تريدني أن أكتب وأرمي في الدرج للتاريخ، شو بدّي بهذه القصة. لا يعنيني التاريخ، فأنا أعيش كل يوم بيومه. إذا احتاج أحدهم لموسيقى، وراقته هذه الجملة أكملها أو اشتغلها. إذا لم ترق لأحد أهملها. أما أن أؤلف عملاً كاملاً وأطويه في الدرج فهذا ما لا أفعله. إذا كنت تكتب موسيقى على الطلب، فلا بدّ أنّ شعوراً يطاردك بأنك لا تحقق ما تريد؟ - أكيد. إذا كنت تعثر على جملة ولا تكملها. كيف يمكن لك أن تحقق ما تريد؟ لماذا إذاً تستمر هكذا؟ - تحتاج الموسيقى لانتاج. رأس المال هو الذي يقرر اذا كانت تستحق أن تخرج إلى السوق. تحسب حساب المنتج ورأيه؟ - أعمل للمنتج حساباً. لكن من قال لك إن عنده رأياً؟ ليس له رأي، ما يهمه ان تروج الموسيقى. هل تصنع موسيقى تعرف إنها تهم المنتج؟ - لا. لا أفكر في ذلك. تصنع الموسيقى التي تحبها؟ - نعم. وبعد ذلك أعرضها على المنتج. لماذا دخلت من الموسيقى البرازيلية لا سواها، لماذا لم يجذبك التانغو مثلاً؟ - السامبا فيها حياة حتى ولم تكن صاخبة، فيها حياة حتى وهي منخفضة. في التانغو حزن كثير وندب. ماذا عن الجاز؟ - الجاز وحده تخطى الموسيقى الكلاسيكية. لو فتحت أي قاموس للموسيقى، لوجدت بروز مدرستين متوازيتين: الجاز والموسيقى الكلاسيكية. إنها موسيقى ذات قيم، وليست محض ارتجال. التقسيم يعني أن يرتجل العازف، لكن على النغمة الرئيسية المعدة سلفاً. موسيقاك ليست صاخبة على كل حال؟ - أبداً. ماذا تريد أن تصنع في الموسيقى؟ - أحاول أن أؤلف موسيقى شرقية أحملها للعالم. الغرب هو الذي يصنع موسيقانا الآن ويحملها إلينا. موسيقى شرقية من دون عود ماذا تريد أن تصنع في هذه الموسيقى الشرقية؟ - أريد لهذه الموسيقى أن تتمكّن من الوجود من دون طبلة. البيانو آلة لكل الشعوب. سيد درويش يؤلف للبيانو وكذلك رخمانينوف. الرحابنة استبدلوا الطبلة ببيانو ايقاع. سجلوا دقات طبلة، لكنهم جعلوها منخفضة إلى حد لا تكاد معه أن تُسمع في الاغنية. يصلح البيانو لكلّ شيء وانطلاقاً منه يسعنا أن ننقل موسيقانا الشرقية إلى كل العالم. ليس ضرورياً أن يكون هناك عود كي تكون الموسيقى شرقية. حين تقول موسيقى شرقية ماذا يخطر ببالك، التجويد مثلاً؟ - لا. ماذا إذاً؟ موسيقى الخليج، الفولكلور اللبناني، الأغنية العراقية، سيد درويش، عبد الوهاب...؟ ماذا تقصد بالموسيقى الشرقية؟ - تسمع غناء زكريا أحمد. هل يمكنك القول إنه ليس جميلاً. لكن هذا ليس وحده الموسيقى الشرقية. هناك مدارس واتجاهات وحساسيات كثيرة، وليس ضرورياً أن تلغي بعضها بعضاً. هل أفهم أنك أقرب إلى الغناء الشعبي منك إلى ما يسمى الطرب الأصيل؟ - لا أحب كثيراً الأغنية الطويلة. لا أحتمل أغنية تستغرق ساعة وربع الساعة. طالما لاموا سيد درويش على الطقاطيق كأنها تهمة، لكنّ أحداً لم يستطع أن يصنع أغنية ك "زوروني". من تحب غير سيد درويش وزكريا أحمد؟ - أحب كيف يغني محمد عبد المطلب، أحسه يؤدب الناس. هل تحب الموسيقى الخليجية؟ - أحب الموسيقى الكويتية. فيها ايقاعات لا يعرف سواهم أن يعزفها. عندما غنت فيروز في الكويت اصطحبت معها موسيقيين كل منهم يعتبر نفسه معلّماً في فنه. بعد أن عزفوا "عودك رنان"، صعد إلى المسرح أربعة كويتيين ومعهم مزاهر، عزفوا على المزاهر سمعوا الاغنية مرة وعزفوها. سيّد الطبلة الذي يؤخذ برأيه في التلفزيون، ويفتي بما يصلح ولا يصلح، تعثّر أيضاً مثل الآخرين الذين سمعوا الكويتيين. هل تعلم أن ايقاعات الموسيقى الكويتية قريبة كثيراً من الموسيقى البرازيلية؟ أنت متأثر بالموسيقى الشعبية لشعوب شتى؟ - في آخر شريط لنا تجد اثراً للموسيقى التركية والكردية والأرمنية. أين تقع التجربة الرحبانيّة من هذا كله؟ - الرحابنة اعتمدوا على التراث اللبناني. أنا متأثراً جدّاً بالبلقان. في شريط "بما إنو" مواويل "عتابا"، تحاكي من خلالها بطريقة ساخرة العتابا التقليدية. أما على مستوى اللحن فلم تقم بالمقاربة النقديّة بالدرجة نفسها. - لأن العتابا هي هكذا. هذه هي المادة التراثية الوحيدة التي تضمنها الشريط. هكذا تقال العتابا، كيف تريدها أن تقال؟ لو كان مارسيل خليفة هو الذي فعل ذلك لاعتبرها عتابا سيمفونية! في الشريط أغنية جميلة عن شخص يحسب نفسه "أفلاطون"؟ - أعجبتك هذه، على ما يبدو! كثيراً، وجدتها أجمل أغنية في الشريط. - وأنا أيضاً أفضلها. لكن "عياش" جميلة أيضاً، "تلْفَن عيّاش، كذّب عيّاش". - هذه عادية. ولا تقول جديداً. ما هو الفرق بين أغنية لك وأخرى لعبد الحليم حافظ مثلاً؟ - لا أحب صوت عبد الحليم، ما أحبه لديه هو أنه اهتم بالموسيقى، بالأوركسترا والتوزيع. في الأغاني العربية لا تجد عادةً أيّ اهتمام بالتوزيع. أم كلثوم مثلاً غير موزّعة، فالفرقة الكبيرة التي تراها خلفها لا تفعل سوى أن تعيد النغمة التي تؤديها. حاول عبد الحليم أن يوجد فرقة فيها هارموني وآلات نفخ. تلك هي ميزته، لكنني لا أحبّ صوته. اخترت بالمصادفة عبد الحليم حافظ حين سألتك عن الفرق بين أغنية لك وأخرى له. ما يهمّني هو أن أعرف أكثر ماذا تريد من الأغنية؟ أنت قطعاً لا تفكر بأن تضع أغنية كأغاني عبد الحليم. - هذا سؤال لا أعرف كيف أجيب عنه. في أغانيك سخرية ومزاح ونكتة سوداء، لكن ليس فيها ألم ظاهر؟ - تقصد أنها لا تحتوي على نعي. ما من نعي، ما من رثاء للذات؟ - هذا فرق إذا شئت بيني وبين عبد الحليم. لو تكلمت عن نكبة يبقى لديّ احساس بأن الحياة جارية، مستمرة. لا "إني أغرق، أغرق، أغرق". هل من أثر للجاز في ذلك؟ - ربّما. السود يأخذون الأمور هكذا. يعيشون الحالات المؤلمة كثيراً لكن الحياة مستمرة. اللعنة على الشهرة حدثنا عن تجربتك في الحياة، عن علاقتك بالشعب؟ - عندما غادرتُ بيت أهلي في سن صغيرة، بدأت التعرف على الحياة. في البيت كان كل شيء يأتيني بلا جهد، ولا أعرف ما يصلني بالناس وبالعالم. لم أكن كما قلت لك أدري الفرق بين السرفيس والتاكسي، فلدينا في البيت سائق! عندما رحت أنزل إلى ما كان يسمى "البلد"، إلى الاسواق: صرت أرى ما لم أكن أراه في حياتي ومحيطي، والمحيط الذي أراد أهلي أن يحبسوني فيه. في المدرسة كما قلت لك، مرّوا سريعاً بالقرآن، ومروا أسرع على ماركس... لكننا أمضينا ثلاثة أسابيع ندرس "مشروع مارشال"! مَرّوا بماركس مرور الكرام، ورحت أنا أبحث عن كتبه. عندما نبشت فيها وجدتُ أشياء أفهمها وأخرى لم أفهمها. عليك أن تكون اقتصادياً لتفهم رأس المال، لكن الكتب الأخرى لا تحتاج إلى تعمّق في هذا العلم لفهمها. هكذا بدأت أرى. يكفي أن تجلس في حديقة الصنائع، من وقت فتحها إلى وقت اغلاقها وتراقب الناس كي تتعلّم الحياة. تلاحظ البلد كله. كنتُ أنزل من الأوتوكار المدرسي حيث يجب أن أنزل، أستقل السرفيس وأمضي في سبيلي. أعيش وألاحظ وأطالع. تسطر تحت جمل تظنها مركزية، ثم تعود فتقرأ الكتاب كله. جمل لماركس، لينين، تروتسكي رحتُ أقرأها، وأسأل إذا كان ممكناً لهذا الكلام أن يغدو حقيقة. أعرف أنها نظرية مثالية، مثالية أكثر من الدين. فالشيوعية لا تتحقق إلا إذا التغت النقود. واذا التغت النقود انتفت الحروب وعاد الناس إلى المقايضة. هكذا فهمتها، ولا أعرف اذا كان فهمي صحيحاً. كنت تلاحظ الناس؟ أو تعايشهم؟ - من قبل كنت أعايش الناس، أما الآن فلا أستطيع. لماذا؟ - نكبتني الشهرة. صرت اذا نزلت إلى الشارع لأشتري علبة سجائر، أجد عدداً من الأشخاص عدّة في طريقي، كلّ واحد منهم يريد أن "نقف عشر دقائق معاً" لماذا؟ كلّ ما يريد أن يقوله هو أنه يحبك كثيراً، وأنك عبقري. اللعنة على العبقرية، اذا كانت هذه نتيجتها. إذا جعلتك تنفصل عن المجتمع. أنت متضايق من الشهرة إلى هذا الحدّ؟ - يعاملك الناس كأنك متفرّغ لهم كل وقت. الحلقة الثالثة والأخيرة في العدد المقبل