على رغم مرور اقل من شهرين على مجيئه الى لبنان، نجح الموسيقار العراقي الهام المدفعي في الدخول الى قلوب الجمهور اللبناني في سرعة البرق. ربما لأنه خرج عن النمط السائد واختار تجديد التراث العراقي القديم في توزيع موسيقي جديد ومميز أتاح للجيل الجديد التمتع بجمال هذا التراث في قالب معاصر. يقول: "لو أنشدت المقام العراقي كما كان يفعل أسلافنا، لما احبه احد من جيل اليوم، ولما أراد أحد سماعه، لكن تسريعه تماشياً مع متطلبات العصر جعل هذه المقامات القديمة جداً تتحول الى مطلب للجمهور". بدأت حياة الهام المدفعي الفنية في الستينات، وأحيا حفلات في اكثر من 60 مدينة في العالم. لكنه يشعر اليوم بالحزن ويحتج بقوة على عدم قدرته الدخول الى بعض البلدان كونه عراقياً، ويدعو الى النظر الى الفنان كرسول سلام لا اكثر. يصرّ المدفعي على العودة الى التراث الشعري والموسيقي. وها هو يكشف ل"الحياة" عزمه على تلحين قصيدة للشاعر عبدالوهاب البياتي "الشمس في مدينتي" بعد "قطرة المطر" التي سمعناها في شريطه الاخير، وأخرى للشاعر أبي القاسم الشابي هي "الصباح الجديد". والهام مدفعي، اضافة الى عمله على المقامات العراقية وبعض الألحان التراثية التي تذخر بها الذاكرة العربية يتميّز بصوته وأدائه. وصوته يفيض رقّة وشجى ويخفي في تلافيفه بحات جرح عميق. إنه جرح المغني الذي هاجر أرضه وحمل غيتاره متنقلاً من مدينة الى أخرى في هذا المنفى الذي هو العالم. صوته فيه من العفوية والأصالة ما فيه من الخبرة والتقنية. أما أداؤه فيكمّل ملامح صوته، وينم عن براعة وفطرية في الحين نفسه. في أعالي الرابية حيث يحلو له التمتع بهدوء لبنان وطقسه، على رغم غزارة المطر، كان لنا معه هذا الحوار: أمضيت فترات منتظمة في بيروت في الستينات، لمَ غبت عنها 36 عاماً وكيف تراها اليوم؟ - يضحك صحيح أنني غبت مدة طويلة عن لبنان لكن ذلك لا يعني أنني متقدم جداً في السن كما قد يعتقد بعضهم، كنت أزور لبنان أيام الدراسة جرياً على عادة عائلتي التي اختارت الاصطياف سنوياً في فندق خير الله في بحمدون. في الستينات، لم نكن نفكر بزيارة باريس ولندن بل بالمجيء الى لبنان، ملتقى جميع العرب، يقصدونه للتمتع بثقافته وحريته وموسيقاه وانفتاحه. في ما بعد، لزمت بغداد لإكمال دراستي الثانوية، ثم سافرت الى الكويت حيث مكثت عامين أعزف في فرقة Twister التي أسستها، ثم أكملت دراستي في الهندسة، وهكذا طال الغياب. كيف انتقلت نهائياً من ميدان الهندسة الى عالم الفن؟ - إنهما متكاملان، الهندسة من دون فن غير موجودة. هل أثّرت بيروت في انطلاقتك الفنية؟ - بالطبع، يختلف اسلوب العيش في بيروت عنه في البلدان العربية الاخرى حيث المجتمع المحافظ والتقليدي. توجد في لبنان حرية شخصية على رغم حفاظه على اصالته، كنا نزور لبنان لنستطلع الموضة، والاغاني وكل جديد في العالم. فنياً، أتاح لي لبنان الإختلاط بفنانيين أجانب، اسبانيين، إيطاليين، وفرنسيين والتعرف الى الموسيقى العالمية كلها. أسست في بداياتك فرقةTwisters الصغيرة التي عزفت الألحان الايطالية والاسبانية والجاز، كيف انتقلت الى عزف الاغنيات التراثية العراقية؟ - كان التراث موجوداً دائماً في داخلنا، نعيشه في المنزل حيث التراث الغنائي القديم مقدس. تدريجياً، نمت هذه الاغنيات مع فكرنا وجسدنا، وأنا اعكسها اليوم في الاطار الذي نعيش فيه. ولا استطيع غناءها في القالب القديم لأن الناس لن يحبونها. هل من الممكن ان تجدِّد اغنيات قديمة لا تنتمي الى التراث العراقي؟ - بالطبع. * عندما اخترت تجديد التراث العراقي. ألم تخف من وقوف اللغة عائقاً، ام انك تعتبر ان اللحن يفوق الكلمات أهمية؟ - البتّة، لنأخذ أغنيتي "عبدالقادر" و "يا رايح وين مسافر" وهما في اللغة الجزائرية وقد وصلتا الى الناس بسرعة. للكلمات في أغنياتي معانٍ جميلة. أغنية "خطار" مثلاً، تنتمي الى الشعر الشعبي المفهوم فقط من سكان القرى خارج بغداد. ليس فهم الكلمات شرطاً لحب الاغنية. بالنسبة اليّ، إن اللحن والكلمات يكملان بعضهما بعضاً. قد اخلق لحناً جميلاً من كلماتٍ لا تعني الكثير. مثلاً لم اجد اي معنى لكلام "شربتك الماي"، ثم فكرت انني إذا ربطت بين إيقاعاتها الخليجية خصوصاً، سأقع على لحنٍ مناسب لهذه الكلمات البسيطة الايقاع مع إدخال بعض الآلات المعبّرة، وهكذا نجحت الاغنية. تقول في حديث صحافي بأن التراث لديك مرادف للهوية، الا يمكن الحفاظ على هويتنا وتراثنا الموسيقيين وتجديدهما من دون اللجوء الى الآلات المتطورة الغربية، وما ردّك على من يعتبر انها تحيل تراثنا الغنائي "هجيناً"؟ - بصراحة إن هوية الآلة لا يمكن تحديدها بشرقية او غربية. البيانو مثلاً هو غربي الهوية، لكن لدينا مقامات تناسب السلّم الموجود عليه. مقام العجم مثلاً مطابق للماجور على البيانو والحجاز مطابق للمينور. ان طريقة العزف هي التي تحدد الهوية. أنا لم اغرّب الاغنية التراثية بل عّربتها، وشرّقت الآلات الغربية وطوعتها للنغم الشرقي. كان الموسيقار محمد عبدالوهاب اول من داخل الغيتار والكيبورد في اغنية "انت عمري". وبعد مرور ردح من الزمن ومن النضال، لا يزال التساؤل قائماً عن صحة هذا الدمج، لكن الحقيقة ان ما هو جميل صحيح. إن هذا التطوير الذي ادخلته الى الموسيقى التراثية العربية نال اعجاباً كبيراً في صفوف الشباب، لكن ما كانت ردود فعل الجيل القديم وهل تعرضت للنقد؟ - بالتأكيد، كان النقد كبيراً. اكرر، المجتمع العربي يحافظ على مثالياته الموجودة. اغنية "فوق النخل" مثلاً عزفت في زمن ما وظلت مطبوعة به. وعندما يأتي انسان ويطوّر الاغنية ينظر اليه كمن احدث ثغرة. لكن لو استمرت الاغنية التراثية على حالها لإندثرت. لقد تطورت الاغنيات في مراحل عدة، من "زوروني كل سنة مرة" لسيد درويش، الى اغنيات السيدة فيروز التي وزعت بأسلوب متجدد. لقد ثرت على التقاليد الموسيقية لكنك حافظت على الجوهر. من هو مثالك في هذا المجال؟ - الرحابنة بالتأكيد، إنهم يشكلون بالنسبة اليّ الاصل. لمَ تستهويك الآلات الوترية ولم تفضّل الغيتار وليس العود؟ - يحتاج العود الى عازف قدير من درجة متميزة، يؤدي في طريقة مختلفة. كم عازف عود يؤثر اليوم في عالمنا العربي؟ الوتر بالنسبة اليّ، يعكس إحساساً ويحرك حالة ما داخل الانسان. الوتر يعكس الصوت الذي يريده العازف، إن ضربه في قسوة يجيب في قسوة، او برقة يجيب برقة، لذا هو اساس تكوين اللحن. اخترت في البومك الاخير اغنية للشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي هل ستلحن له قصائد اخرى، وهل من الممكن ان يصبح شاعرك كما هو نزار قباني بالنسبة الى كاظم الساهر؟ - الحقيقة ان البياتي كان صديقاً لي، وقد عشنا معاً في اسبانيا. كنت انظر اليه دوماً كإنسان وليس كشاعر قد استفيد من قصائده في اغنياتي. كان البياتي فيلسوفاً يفهم معاني الحياة في عمق. لقد لحنت له قصيدة "قطرة المطر"، وأنا في صدد تلحين قصيدة "الشمس في مدينتي". اما بالنسبة الى نزار فقد لحنت له عام 1978 قصيدة "بغداد". ان نزار متزوج من قريبتي بلقيس، وبيتنا يقع على ضفاف نهر دجلة وبيتها ايضاً. من ذلك المكان وصف نزار دجلة والغروب. بعد تلحيني لها، كان نزار موجوداً وأخذ يشرح تأثير الأغاني على العالم العربي. لقد نصحني الرجل بأمور كثيرة ولم يطلب مني التلحين. في احد البرامج انتقدت الشاعر الذي يدّعي انه شاعر وعليه ان يتميز بصفات نادرة. يدّعي بعض الناس إرسال الشعر وينسون ان تراثنا العراقي في وادي الرافدين غزير من المتنبي والبحتري وابو نواس الى الجواهري والبياتي وبلند الحيدري وسواهم ... لذا تنبغي العودة الى التراث وهنا طرحت موضوع بعض المطربين الذين يغنون لهؤلاء الشعراء. ما رأيك بالمطرب كاظم الساهر؟ - لكل انسان اسلوبه، وانسان يقف على مسرح ولديه هذه الجماهير لديه حتماً شيء ما. انا افتخر بكل فنان عربي وعراقي خصوصاً، لكن انا لا الجأ الى نزار قباني او سواه لكي ينجحني جماهرياً إذا لم انجح في الحاني. هل من المستبعد ان تتعاون مع شعراء معاصرين؟ - لم لا؟ ثمة شعراء جيّدون. تضمّن شريطك الاخير 14 اغنية ومقطوعة موسيقية وحيدة وقصيرة عنوانها "داعية الرمال" هل تعتبر ان الجمهور العربي لم يصل بعد الى مرحلة يعطي فيها الموسيقى الخالصة حقها؟ - تعكس هذه المقطوعة واقعاً معيّناً عن احساس يخالجني، انها موسيقى عربية وجزء من العالم كله. صارت الموسيقى تعرف بأنها عراقية وأردنية. انا كفنان احتج على ذلك. لقد بات موضوع الهوية حاجزاً احياناً امام الإنتقال من بلد الى آخر. وبما انني عراقي لا استطيع الدخول الى بعض البلدان لأسباب سياسية، لكنني فنان ولا دخل لي بالسياسة. لو كنت حشرة لإستطعت التنقل من مدينة الى اخرى من دون اية مشاكل. انا لا اؤذي احداً، بل احب خدمة اي بلد ادخله عبر فني. بالعودة الى المقطوعة الموسيقية فقد كتبتها اثناء مغادرتي العراق عام 1994، حينذاك التفت الى الصحراء ورائي وبدأت الحدود تصغر فتساءلت ان كنت سأستطيع العودة الى هذه الرمال حاولت إيصال هذا الشعور عبر صوت الناي والخيول وسوف اتابع هذه المقطوعة في الأسطوانة الثانية. أتركُ المغني الهام المدفعي وأنا أردد صمتاً أغنيته "قطرة المطر" وهي تقول: كقطرة المطر... كُنتُ وحيداً يا حبيبتي... لا تحزني... سأشتري غداً لكِ القمر...