كان الانكليز وحدهم يعرفون أهمية جيمس بوند "007" في مكافحة الجريمة والجاسوسية رغم الشهرة الواسعة التي حظيت بها هذه الشخصية السينمائية في كل أرجاء العالم، غير ان الشهرة امتدت لتصل الى "008" وهو الرمز الذي يعرف به الآن بيرند شميد باور الوزير في دائرة المستشار الألماني أعلى هيئة رسمية في البلاد، كما انه المسؤول عن التنسيق بين أجهزة المخابرات الألمانية المتعددة. هذا الرجل يعمل في واد وبقية اجهزة الدولة في واد آخر، اذ بينما تصدر السلطات القضائية أمر حبس مثيراً للجدل ضد وزير المخابرات الايراني علي فلاحيان، كان هو يجري مباحثات هادئة معه، تحقيقاً لمصالح لا تخص، في الضرورة، ألمانيا وحدها كما اتضح في مرات سابقة وخلال عملية التبادل الواسعة للأسرى ورفات القتلى العرب والاسرائيليين. وشميد باور حقق من خلال نجاح الوساطة الأخيرة كسباً كبيراً لبلاده، التي كانت مسرحاً لضغوط كبيرة من الولاياتالمتحدة واسرائيل لثنيها عن المضي قدماً في "سياسة الحوار البناء" التي تتبناها ازاء ايران. وخلال الحديث عن اصداء عملية التبادل الأخيرة كشف شمعون بيريز رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق عن اجراء حكومته حواراً غير مباشر مع الايرانيين بوساطة ألمانية، ولما لم يؤد الى النتائج المرجوة اسرائيلياً أطلق العنان لتوجيه انتقادات علنية واسعة للدور الألماني في تشجيع الحوار مع طهران. الايرانيون، من جانبهم، واجهوا التصعيد الاسرائيلي المفاجئ بتصعيد مماثل، الا انهم لم يغلقوا الأبواب أمام الاتصالات مع ألمانيا، والعلاقات الحميمة التي تربط رجلي المخابرات الايراني فلاحيان والألماني شميد باور. ومع ان الضغوط الأميركية والاسرائيلية وصلت حد المطالبة أحياناً باعفاء المسؤول الألماني من منصبه، باعتباره تجاوز كثيراً الخطوط الحمراء، الا ان المستشار هلموت كول نجح، على ما يبدو، خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة في ابلاغ الأميركيين بأنه "لا بديل عن الدور الألماني الاستثنائي مع ايران في المنطقة". وأوضح كول للأميركيين حقيقة العلاقات الوثيقة بين ايران و"حزب الله" من جهة، وثبات الدور السوري في لبنان من الجهة الأخرى. ولا يوجد في الوقت الراهن، على الصعيد الأوروبي، من يمسك بتلابيب علاقات طيبة مع كل هذه الجهات: ايران وسورية و"حزب الله" اضافة الى اسرائيل سوى الجانب الألماني، فلماذا هذا التفريط بورقة ثبت انها مهمة للغاية في الشرق الأوسط وعملية السلام على وجه التحديد. الواقع ان ما جرى على الحدود الاسرائيلية - اللبنانية الأسبوع الماضي كان شهادة اعتراف بالدور الألماني في المنطقة، من الأطراف نفسها التي كانت تكيد له. فمن اسرائيل ورد شكر رئيس الوزراء لألمانيا، والأهم للدور السوري والايراني في انجاح العملية لأن "قرار الشروع بالتبادل اتخذ في طهران"، كما ورد في تصريحات لرئيس وزراء اسرائيل. ومن "حزب الله" كان الثناء على الدور الألماني كبيراً لأن "أحداً غير الألمان لم يكن جاهزاً للقيام بمثل هذا الدور الخطير" حسب تصريحات الأمين العام لپ"حزب الله" حسن نصرالله. وبات من غير المتوقع بعد نجاح عملية التبادل ان تتواصل انتقادات الولاياتالمتحدة واسرائيل للدور الألماني - الأوروبي في التعامل مع ايران، بل ورد بدلاً عن ذلك ما يشير الى أمل السياسة الاسرائيلية بأن تكون العملية "خطوة مهمة من اجل التفاهم مع حزب الله"، في حين أكد "حزب الله" من جانبه "ان الجهاد المقدس لتحرير الأراضي اللبنانية لن يتأثر بهذه العملية". الاسرائيليون حاولوا من جانبهم طمأنة "حزب الله" بأنهم سينسحبون من الشريط الحدودي المحتل، "اذا توقفت الهجمات من المنطقة على الأراضي الاسرائيلية". ورغم ان "حزب الله" سلم شميد باور رفات اثنين من الجنود الاسرائيليين، اللذين لقيا مصرعهما خلال مواجهات جرت العام 1986، اضافة الى 17 من عناصر جيش لبنان الجنوبي الموالي للدولة العبرية، وتسلّم رفات حوالى 100 من القتلى العرب واللبنانيين و45 أسيراً من عناصر "حزب الله"، فأن الملف لم يغلق بعد اذ ان اسرائيل تؤكد وجود خمسة مفقودين آخرين من جنودها، اضافة الى الطيار رون آراد الذي اسقطت طائرته فوق منطقة شرق صيدا العام 1986. ولپ"حزب الله" أسرى آخرون داخل السجون الاسرائيلية، أبرزهم الشيخ عبدالكريم عبيد. وتريد اسرائيل استعادة عناصرها، ويسعى "حزب الله" الى عودة أسراه، ويدرك الوسيط الألماني ان الجميع، سواء في الولاياتالمتحدة أو ألمانيا، اعترفوا ضمنياً بجدوى الدور الألماني وتصرفات ألمانيا ازاء ايران، لكنه يصر على ان تستمر الوساطة هادئة كما كانت من قبل. لعل أعقد المشكلات هي قضية الطيار رون أراد، فهو أسر قبل عشر سنوات، عندما اسقطت طائرته قرب مدينة صيدا، والذين القوا القبض عليه كانوا ينتمون الى حركة أمل بقيادة الحاج مصطفى الديراني، لكن الديراني انشق بعد العملية عن "أمل"، وأنشأ منظمة "المقاومة المؤمنة"، وهي تجمع صغير لا علاقة له بپ"حزب الله" أو "أمل". الا ان اختطاف الديراني من قبل اسرائيل قبل حوالى عام، لم يسهم كما كان الاسرائيليون يأملون بالكشف عن مكان أراد. ولا يوجد لدى الاسرائيليين أو اجهزة المخابرات الأميركية والغربية تصور واضح عن مصير أراد، أو المكان الذي يحتمل نقله اليه، وكل ما أثير حول هذا الموضوع لا يعدو كونه مجرد تكهنات. الألمان من جانبهم كشفوا انهم تلقوا معلومات من عناصر في "حزب الله" تزيد الغموض في ما يتعلق بمكان وجود الطيار الاسرائيلي، والرواية التي نقلت اليهم تشير الى ان الحارس المكلف بمراقبته ترك مكان الأسر "لأسباب عائلية" اضطرارية، ولدى عودته فوجئ بالباب خلع من مكانه ولم يعثر على أثر لأراد. حركة "أمل" من جانبها رأت "ان ايران تسلمت أراد ونقلته الى مكان آخر داخل أراضيها". لكن لا توجد حتى الآن قرينة تؤكد ذلك. اسرائيل تشير حتى الآن الى استنتاجها بأن "أراد لا يزال على قيد الحياة" وتأمل في استعادته سالماً. والدوائر المطلعة اضافة الى مراقبين محايدين يعتقدون بوجود امكانية للكشف، في المستقبل، عن مصير المفقودين الاسرائيليين وبينهم أراد. وقد يتوجه الوسيط الألماني "008" مجدداً الى بيروت بطائرته الخاصة للشروع بتنفيذ الصفقة الجديدة المتوقعة بين الاسرائيليين و"حزب الله".