انطلاق فعاليات مهرجان الأسماك الأول بمركز القحمة    «الإحصاء»: ارتفاع مؤشر الأنشطة النفطية 3.8%.. و«غير النفطية» 2.4%    فن "صناعة الأبواب والنقوش الجصية" لا زال حاضرًا في الذاكرة    استشهاد 19 فلسطينيًا في غزة    «كارثة كاليفورنيا» تلغي رحلة بايدن.. الأخيرة    انطلاق الجولة ال14 من دوري روشن السعودي للمحترفين.. اليوم    النفط يهبط مع مخاوف الطلب وارتفاع الدولار والتركيز على سياسات الطاقة القادمة    افتتاح شارع الخليفة عمر بن الخطاب بالدمام    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    وفاة رجل بسرطان من تبرُّع.. هل تنتقل الأمراض النادرة عبر عمليات الزرع ؟    وزير الخارجية يبحث المستجدات مع نظيريه الإسباني والبريطاني    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    تدشين مشروع مراقبة وضبط مخالفات مصادر المياه واستخداماتها    المحاولة ال13.. هل ينجح لبنان اليوم ؟    مشعبي يطالب بإيقاف أفراح «الكأس» والتركيز على «الدوري»    15 ظاهرة جويّة حادّة شهدها العام 2024    الرماح والمغيرة يمثلان السعودية في رالي داكار 2025    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    النقش على الحجر    وزير الطاقة ونظيره الهيليني يترأسان اجتماعات الدورة الأولى للجنة الطاقة بمجلس الشراكة الإستراتيجية السعودي الهيليني    من أنا ؟ سؤال مجرد    الأردن: السجن ل 3 متهمين في قضية «حج الزيارة»    الاتحاد يصطدم بالشباب.. والقادسية يواجه الرائد    هوبال    ولي العهد عنوان المجد    ما ينفع لا ما يُعجب    رابطة العالم الإسلامي تُدين وترفض خريطة إسرائيلية مزعومة تضم أجزاءً من الأردن ولبنان وسوريا    345.818 حالة إسعافية باشرها "هلال مكة" 2024    تعزيز التعاون السياحي السعودي - الصيني    بلدية محافظة الشماسية تكرّم متقاعديها تقديرًا لعطائهم    أمانة مكة تعالج الآثار الناتجة عن الحالة المطرية    بيئة الجوف تنفّذ 2703 زيارات تفتيشية    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    طالبات من دول العالم يطلعن على جهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    برشلونة يتأهّل لنهائي كأس السوبر الإسباني على حساب أتليتيك بلباو    67 % ضعف دعم الإدارة لسلامة المرضى    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة ينجح في استئصال جزء من القولون مصاب بورم سرطاني بفتحة واحدة    2.1 مليون مستفيد في مستشفى الملك خالد بالخرج    قطاع ومستشفى تنومة يُفعّل حملة "التوعية باللعب الالكتروني الصحي"    الاتحاد والهلال    الاتحاد يوافق على إعارة "حاجي" ل"الرياض" حتى نهاية الموسم    أمير المدينة يطلع على مشاريع تنموية بقيمة 100 مليون ريال    تحرير الوعي العربي أصعب من تحرير فلسطين    التأبين أمر مجهد    قصة أغرب سارق دجاج في العالم    إنتاج السمن البري    أسرتا الربيعان والعقيلي تزفان محمد لعش الزوجية    دكتور فارس باعوض في القفص الذهبي    على شاطئ أبحر في جدة .. آل بن مرضاح المري وآل الزهراني يحتفلون بقعد قران عبدالله    المملكة تتصدر حجم الاستثمار الجريء في عام 2024    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    المنتخب الجيد!    اطلع على إنجازات معهد ريادة الأعمال.. أمير المدينة ينوه بدعم القيادة للمنظومة العدلية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    يهرب مخدرات بسبب مسلسل تلفزيوني    أمير المدينة يتفقد محافظة العيص    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبكة مالية اسلامية تؤجل انتفاضة السودان !
نشر في الحياة يوم 24 - 06 - 1996

تحتفل حكومة الفريق عمر حسن أحمد البشير الاسبوع المقبل بعامها السابع في السلطة. وتتهيأ للاحتفال بهذه الذكرى وهي ترزح تحت وطأة ضغوط دولية واقليمية تهدد في غضون اسبوعين بتشديد العقوبات التي قرر مجلس الامن الدولي فرضها عليها في أيار مايو الماضي. ومع أن خطر تشديد العقوبات أضحى حقيقة ماثلة، الا أن الخرطوم تقلل - في خطابها الاعلامي الداخلي على الاقل - من شأن تلك الاجراءات الدولية وتأثيرها المحتمل. وتتفاقم المخاوف داخلياً إثر تأكيد قطاعات من سكان العاصمة أنهم يدرسون احتمال تنفيذ عصيان مدني بالبقاء في منازلهم حتى تصاب الدولة بشلل تام.
يتوقع المراقبون أن يعمد مجلس الامن الدولي في 10 تموز يوليو المقبل الى تشديد العقوبات على السودان والتي تقتصر حالياً على الجانب الديبلوماسي. ومع أن مصر - التي بدأت أخيراً غزلاً مكشوفاً مع الخرطوم، بلغ ذروته بدعوة الرئيس السوداني الى المشاركة في قمة القاهرة - اعلنت معارضتها فرض عقوبات اقتصادية او عسكرية، إلا أن الولايات المتحدة وأثيوبيا - حليفها الرئيسي في القرن الافريقي - عقدتا العزم على تشديدها تدريجاً، على رغم ما تشيعه الخرطوم من انفراج وشيك في علاقاتها مع واشنطن. والمرجح أن يقرر المجلس الشهر المقبل فرض حظر على الاقل على تحليق طائرات شركة الخطوط الجوية السودانية خارج الاجواء السودانية.
وإذا حدث ذلك فستجد الخرطوم نفسها محرومة من المصدر الرئيسي الثاني للعملات الصعبة بعد الضرائب الباهظة التي تجبى من السودانيين العاملين في بلدان الخليج. كما أن الاجراء نفسه سيزيد العزلة التي تعانيها الحكومة. وإذا لم تستجب الحكومة والجبهة الاسلامية القومية التي تساندها، بزعامة الدكتور حسن الترابي، بعد مهلة جديدة مدتها 60 يوماً، لمطالب الامم المتحدة الداعية الى تسليم اديس ابابا ثلاثة مصريين متهمين بتنفيذ محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في حزيران 1995، فسيدرس المجلس تشديد العقوبات على الصعيد العسكري. وهو احتمال تخشى السلطات السودانية مجرد الاشارة اليه باعتبار أن التنازلات التي بدأت تقدمها منذ فشل محاولة الاغتيال وحتى فرض العقوبات في آذار مارس الماضي كفيلة بإصلاح ذات البين مع واشنطن ومصر، وهما القوتان اللتان تعتقد الخرطوم أنهما تستعديان بلدان المنطقة عليها.
ولكن ما هي - من وجهة النظر القانونية والديبلوماسية - الآثار التي سيتركها تشديد العقوبات، وتصعيد الجانب الاقتصادي منها؟
إن العقوبات التي تتخذ بالاجماع في مجلس الامن اذا التزمتها الدول الاعضاء بشكل صارم، تسري من دون اعتبار لأي اتفاق دولي او عقد مبرم قبل تاريخ صدور القرار. ويعني ذلك أن الآثار الآتية ستترتب عن تطبيق عقوبات اقتصادية، شاملة كانت او تدريجية:
- ستعوق العقوبات انسياب تدفق قطع الغيار لإصلاح القاطرات التابعة لهيئة السكك الحديد، خصوصاً أنه توجد عقود أبرمها السودان مع مصر في هذا الخصوص تبلغ قيمتها نحو مليوني دولار. كما أن ثمة اتفاقات أخرى مع جنوب افريقيا لإعادة تأهيل هيئة السكك الحديد.
- من شأن أي عقوبات اقتصادية أن توطد مواقف الصناديق المالية ومؤسسات التمويل الاقليمية من السودان. وتنبغي الإشارة الى أنه سبق لصندوق النقد العربي أن جمد عضوية السودان في 12 نيسان ابريل 1994 بعدما عجز الأخير عن تسديد ديون الصندوق المستحقة عليه وتبلغ حوالى 250 مليون دولار.
- تأكيد المقاطعة الاوروبية للسودان وتعزيزها. وكانت بلدان الاتحاد الاوروبي قررت منذ العام 1990 تجميد مساعدات تبلغ 400 مليون دولار كانت تخصصها للتعاون مع الخرطوم في نطاق معاهدة لومي.
- سيؤثر افتقار الخزانة السودانية الى موارد ثابتة من العملات الاجنبية في برامجها الخاصة بالتعاون العسكري مع القوى التي قبلت مساعدتها في الفترة الأخيرة، خصوصاً إيران والصين الشعبية وجنوب إفريقيا. كما أن ثمة اتفاقاً عسكرياً بين السودان وروسيا لتدريب عسكريين سودانيين وتزويد الجيش السوداني قطع غيار لمقاتلاته من طراز ميغ - 19 وميغ - 21.
- ستسفر العقوبات عن خلخلة سياسات التحرير الاقتصادي والتخصيص التي تتمسك الحكومة بأنها تطبقها بما يرضي صندوق النقد الدولي. ومن شأن العقوبات ان تعوق القيام باي مبادرات وتفتح الباب أمام أنماط جديدة من الجشع الاقتصادي.
- تعزيز العزلة الديبلوماسية التي رسخها تطبيق قرار مجلس الامن الرقم 1054. وسيؤدي استمرار العقوبات الديبلوماسية واحتمالات تصعيدها في مجالات أخرى الى جعل سفارات السودان في الخارج بؤراً معزولة عن محيطها الديبلوماسي، غير قادرة على ملاحقة الاحداث التي تطاول السودان من حين لآخر ومحاولة التأثير فيها.
- اذا شملت العقوبات الاقتصادية اي قيود على التبادل التجاري مع السودان فهي ستؤثر تأثيراً كبيراً في القطاع الصناعي في البلاد، خصوصاً في ما يتعلق بتوفير مدخلات الانتاج. وقد تتجه الحكومة السودانية وهو ما بدأته أخيراً الى زيادة رسوم الانتاج لزيادة الجباية الضريبية، وذلك على رغم أن القطاع الصناعي يساهم بنحو 8 في المئة فحسب من اجمالي الناتج القومي المحلي.
- سيكون تصعيد العقوبات ذروة فشل السياسة الخارجية للسودان، وضربة قاضية لصدقية النظام أمام الشعب، إذ سيؤدي الى زيادة الضغوط والخيارات القهرية على صانع القرار السوداني، ومن ثم كسر إرادته والحيلولة دون إنجاز برامجه المعلنة التي تقول أجهزته الإعلامية إن أي مساس بها يستلزم الجهاد.
ولن يكون امام الحكومة السودانية في وجه العزلة والحصار والعقوبات المتزايدة سوى خيارين قهريين: إما الانصياع الى الارادة الدولية، والعودة الى حظيرة الأسرة الدولية طبقاً لأسس النظام الدولي الحالي، وإما التوغل في خيارات محلية وايديولوجية كانت أصلاً سبباً في عزلتها، وأهمها سياسة محاور الرفض رفض السلام في الشرق الاوسط ورفض النظام الدولي الجديد والسياسات الاميركية التي تهيمن عليه، وهو محور تنشط فيه كوريا وكوبا وروسيا والصين وايران وليبيا.
غير أن من أخطر جوانب تشديد العقوبات، وهي جوانب لا بد أن قادة الجبهة الاسلامية يدرسونها منذ مدة بعناية وحيرة شديدتين، أن الضغوط الدولية المتلاحقة قد ترغم النظام على طي صفحات طموحه الأممي، بعدما ينفض "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" الذي تجمع القوى الدولية الكبرى على اعتباره تجمعاً لرافضين اسلاميين وراديكاليين يعوقون مصالح الغرب في المنطقة ويعملون على تزكية الارهاب وتشجيعه، ونقل الصراع ووسائله الارهابية الى داخل أميركا والمعاقل الغربية نفسها.
وأسفر مسلك الحكومة السودانية باسم "التوجه الحضاري" المحسوب على الاسلام عن زيادة تغبيش صورة الاسلام لدى الغرب، وتصويره باعتباره ديناً مناهضاً للمسيحية، مجاهداً ضد الغرب، ومعادياً للنموذج الديموقراطي الذي يقول الغربيون إنهم رسخوه عبر تجارب استغرقت مئات السنوات. ونتيجة لذلك بدأت القوى الغربية تأخذ بالنهج الداعي الى ضرب أي تفسير غير غربي للديموقراطية الليبيرالية العلمانية بنموذجها المطبق في الغرب، حتى إذا تطلب الأمر توجيه ضربات ل "الاسلام السياسي" الذي تعبر عنه الحركات الأصولية باعتباره القوة الوحيدة المناهضة للليبيرالية الغربية. وهو نهج بدأ يترسخ على نطاق واسع في الغرب نتيجة مناقشات فكرية وفلسفية نجحت في التأثير على تفكير المؤسسات القيادية هناك.
ولفت مثقف سوداني يقيم في المنفى الى أن من المثير أن حزب الرفاه الاسلامي التركي الذي يتزعمه نجم الدين اربكان بدأ يغير خطابه السياسي على أمل الوصول الى سدة الحكم من دون حاجة الى صدام مع القوى الغربية المتحالفة مع أنقره.
وبالطبع فإن من شأن تصعيد العزلة التي تواجهها الخرطوم حالياً أن ينعكس على قدرة النظام على إطلاق مبادرات سلام لحل مشكلة الجنوب واحتواء التوترات الإثنية في مناطق أخرى من البلاد كالشرق والغرب.
غير أن ذلك لا يعني أن خيار العقوبات - سواء أبقيت على حالها أم شددت - لا ينطوي على جوانب سلبية بإمكان الحكومة الإسلامية السودانية تحويلها لمصلحتها. فعدم تعجيل الولايات المتحدة بعودتها الى الخرطوم تقيم بعثتها الديبلوماسية لدى السودان في نيروبي منذ بضعة أشهر سيدفع السودان الى تعزيز علاقاته مع روسيا وفرنسا والصين. ويدرك الاميركيون والبريطانيون جيداً أن باريس تسعى جاهدة الى ضم السودان الى الحزام الفرانكوفوني، حتى تدعم الخرطوم استقرار دول الجوار الفرانكوفونية، لتقطع فرنسا الطريق بذلك أمام احتمال تغلغل النفوذ الأميركي في وسط القارة الافريقية.
ولوحظ أن فرنسا اكتفت بابعاد ديبلوماسية سودانية من باريس امتثالاً لأحكام قرار مجلس الأمن الرقم 1054 التي تقضي بتقليص الوجود الدبلوماسي السوداني في اراضي الدول الاعضاء في هيئة الأمم المتحدة، فيما عمدت شريكاتها في الاتحاد الاوربي الى ابعاد ديبلوماسيين اثنين او ثلاثة على الأقل. وباتت احتمالات التقارب الفرنسي - السوداني متزايدة بعد فوز اليمين في الانتخابات الأخيرة.
وفي نطاق محاولات الالتفاف على العزلة الحالية، واستثمار التحول المصري المفاجئ في الموقف من تشديد العقوبات الدولية على السودان يبدو النظام السوداني مستعداً للرضوخ لجميع المطالب المصرية مهما كانت تتناقض مع ثوابته السياسية. ويقول مراقبو الشأن السوداني إن المبررات الفقهية لدى الدكتور الترابي في مثل هذه المواقف معروفة، فهناك فتاواه في شأن "فقه الضرورة" و"التقيّة"، وكلها سياسات تجيز للخرطوم أن تنحني حتى تمر العاصفة من دون حرج أخلاقي أو ديني من شأنه أن يلهب الجبهة الداخلية.
تأثيرات مباشرة
ومهما حاولت الحكومة التظاهر بأنها لم تتضرر بقدر يذكر من قرارات مجلس الأمن ومساعي البلدان الغربية لخنقها إقتصادياً، فهي لا شك ستعاني من اختناقات شديدة في جوانب أساسية لوجود نظامها. وفي مقدم ذلك ارفضاض الأممية الإسلامية التي بناها الترابي ونجح في استغلالها لتضخيم قوة النظام، وتصويره بؤرة لمقاومة إسلامية يمكن أن تضرب كل ما هو غير إسلامي في العمق. وكان المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، الذي لا يزال الترابي أميناً عاماً له على رغم أنه أشيع أنه سيتنحى عن قيادته، يجمع الجماعات الآتية: حركة النهضة التونسية، حزب الرفاه الاسلامي التركي، الحزب الاسلامي الأفغاني حكمتيار، الحرس الثوري الايراني، الجماعة الإسلامية باكستان، الجماعة الإسلامية مصر، حزب الله لبنان، حركة المقاومة الإسلامية حماس، الأفغان العرب بن لادن، البلقان العرب العائدون من البوسنة، حركة الجهاد الإسلامي فلسطين، والجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائر.
وتتراوح تقديرات الخبراء لعدد أعضاء تلك الجماعات الموجودين في السودان بين 7 آلاف و40 ألفاً، طبقاً لمصادر أمنية في دول مجاورة للسودان. فيما يقول مراسل "الوسط" في الخرطوم إن العدد يزيد على ألف شخص. ومن المؤكد أن عدداً من عناصر بعض الجماعات المذكورة غادر البلاد قبل فترة من التطورات الأخيرة، كأتباع راشد الغنوشي والموالين للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، والإسلاميين الليبيين الذين طردهم النظام السوداني لإرضاء حليفه العقيد معمر القذافي.
غير أن مجالس العاصمة السودانية لا تزال تتحدث عن وجود عناصر الحركات الاسلامية الفلسطينية والمصرية. والمهم في هذا الوجود الأجنبي أنه يشكل حرجاً بالغاً للنظام، لأنه أسفر عن مشاركة استثمارية ضخمة ساهمت في تنشيط اقتصاد البلاد. وربما لذلك تضاربت تصريحات المسؤولين في شأن مصير ضيوفهم في أعقاب قرار مجلس الأمن الدولي الأخير. وتقول مصادر مطلعة إن النظام اختار اللجوء الى قنوات تنظيمية شعبية ليطلب من ضيوفه مغادرة البلاد.
وأشار مراسل "الوسط" في الخرطوم الى أن مصادر مقربة من تلك الاتصالات غير الرسمية قالت إن الجماعات المعنية طالبت الوسطاء بابلاغ الحكومة بأنها تريد تعويضات مادية عن الأموال التي ضختها في عصب الاقتصاد االوطني وقدرتها ببلايين الجنيهات السودانية. وتشمل تلك الاستثمارات مقاصف ووسائل نقل الركاب. ويملك رجل الأعمال أسامة بن لادن شركة "الهجرة" التي تنفذ طريق الخرطوم - شندي - عطبرة - بورتسودان، وشركة "واط"، الى جانب مجموعة من الشركات الزراعية في ولاية النيل الأزرق على الحدود السودانية - الأثيوبية.
وتؤكد معلومات "الوسط" في الخرطوم أن وجود تلك الجماعات كانت له آثاره السلبية المباشرة على قدرات أجهزة الأمن السودانية، إذ اتضح أن السجون السودانية تعج بعشرات من عناصر تلك التنظيمات لارتكابها مخالفات جعلت قادتهم يوصون باحتجازهم.
أين بن لادن ؟
ومنذ أن أعلنت الخرطوم أن أسامة بن لادن غادر البلاد طوعاً ليجنب السودان مزيداً من القيود التي تعمل "قوى الاستكبار" على فرضها عليه، لم يتأكد سفر أحد ممولي التنظيمات الإسلامية المتطرفة. وحدهم كبار قادة النظام يؤكدون أنه غادر. فيما تبرعت مصادر حكومية للكشف عن توجهه الى أفغانستان. أما السلطات المصرية فأكدت أنه ليس في السودان. ورحبت واشنطن بهذا التطور المثير.
غير أن معلومات ترددت في لندن رجحت أن يكون الثري الذي يقف وراء ظاهرة "الأفغان العرب" توجه الى المناطق التي يسيطر عليها الزعيم الصومالي الجنرال محمد فرح عيديد، مستفيداً من عدم وجود حكومة معترف بها هناك. وقالت تقارير لاحقة إنه ربما نقل مع أتباعه الى مكان آمن في شمال السودان. وعمدت الخرطوم بالطبع الى قطع الاتصالات الهاتفية عن مكتبه لتأكيد عدم قيامه بنشاط يثير ضيق أطراف أخرى.
وزادت الشكوك في الرواية الرسمية السودانية إثر إعلان زعيم الحزب الاسلامي الأفغاني قلب الدين حكمتيار أن بن لادن لا يوجد في الأراضي التي تسيطر عليها قواته. وقال السفير عنايت عبدالحميد رئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس الوطني السوداني البرلمان، معلقاً على استمرار وجود أسرة بن لادن في السودان - إن المجتمع الدولي لديه تحفظات عن بن لادن، وليس على أسرته، فهي غير مطلوبة للمثول أمام أي جهة دولية. وأكد أن السودان بات خالياً من أي عنصر يدعي المجتمع الدولي أنه ذو صلة بالارهاب.
ويقول الديبلوماسي السوداني السابق الحارث ادريس الحارث إن المشكلة الحقيقية تتمثل في أن الممارسة التي رسخها تعامل النظام وآلياته منذ العام 1989 تجعل السودانيين مدركين سلفاً أن كل قيادي أو سياسي يتولى منصباً في الحكومة أو مؤسسات النظام، لكنه لا ينتمي الى الجبهة الإسلامية القومية لا يحيط بما يحصل حقيقة في البلاد، ولا يستطيع أن يصف نفسه بأنه مطلع وعارف. إذن الذين يعرفون حقاً هم أعضاء الجبهة، وربما الدائرة الضيقة المحيطة بالترابي. لكن مشكلة هؤلاء أن صدقيتهم لدى السكان والأسرة الدولية لم يعد لها وجود. وحتى لو كانوا يقولون ما هو عين الحقيقة فهم سيجدون من يشكك في صدقيتهم. وهذه إحدى مشكلات النظام الكبرى.
الترابي نفسه حسم الجدل الدائر حول وجود العناصر الإسلامية العربية في البلاد بقوله إن الحكومة لا تدعم الإرهاب بأي شكل، وأنها لن تسلم أي عنصر لاذ بها الى أي جهة إذا لم يكن له نشاط ضد حكومة بلاده، وانها، على وجه التحديد، لن تسلم أي عنصر من حركة حماس "لأنهم لا يستهدفون أحداً".
وسألت "الوسط" أحد العناصر المقربة الى الترابي عن مصير الجماعات الاسلامية الموجودة في السودان، فقال: "السودان لا يزال يستضيف جماعات إسلامية، ولن تقتنع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بحقيقة أن بعضهم غادر السودان فعلياً، لأنها تريد أن يغادروه جميعاً، وهذا لن يحدث في ظل حكومة ثورة الإنقاذ الوطني مهما كان الثمن".
شبكة بديلة للتمويل
إذا قررت الولايات المتحدة ومصر واثيوبيا تشديد العقوبات على السودان، فإن الحكومة السودانية تعول على شبكة تمويل إسلامي تعتقد أنها قادرة على توفير حاجاتها من العملات الصعبة والتمويل، خصوصاً شراء الأسلحة واستيراد المحروقات من السوق النفطية الحرة. وتضم هذه الشبكة حسب معلومات "الوسط" المؤسسات الآتية:
- مصارف اسلامية في ما وراء البحار منها بنك التقوى الذي يتخذ جزر البهاما مقراً له.
- شبكة البنوك الإسلامية في دولة خليجية عربية علاقاتها حسنة مع النظام.
- مؤسسات مالية اسلامية، يفوق عددها ال 100 مصرف في مختلف أنحاء العالم طلب منها سد العجز الناجم عن تراجع الدعم الليبي والايراني للسودان.
- مجموعات مالية وتجارية عربية يملكها ويديرها اسلاميون بدأت تساهم في مشاريع استخراج النفط السوداني وبناء منشآته الأساسية في جنوب غربي السودان ووسطه.
- تجيير نشاط المصارف الاسلامية داخل السودان لمصلحة الدولة، وهي: بنك فيصل الاسلامي، بنك التضامن الإسلامي، بنك البركة، البنك الإسلامي لغرب السودان، بنك الشمال الإسلامي. ولوحظ أن معظم هذه المؤسسات التمويلية أعفي من ضرائب التنمية والضرائب التجارية بوجه عام لضمان أعلى قدر ممكن من الأرباح.
- الإفادة من هجرة البنوك الإسلامية الدولية التي قدرت حصيلة ودائعها في منتصف الثمانينات بحوالى 13 بليون دولار. وتشمل البنك الإسلامي الدولي الدنمارك، والبنك الإسلامي الأردن، ودار المال الإسلامي سويسرا، وبنك البركة الدولي بريطانيا، بيت التمويل الكويتي، والبنك الإسلامي البحرين.
وحذر خبراء اقتصاديون سودانيون من أن تشديد العقوبات سيسفر على الفور عن ازدياد نفوذ "طبقة الأثرياء الجدد" التي تسيطر أصلاً على وسائل التمويل والتجارة والاستيراد والتصدير، وعزلت الرأسمالية الوطنية التي أرست تلك الضروب من النشاط التجاري منذ ما قبل الاستقلال. وسيؤدي تشديد قبضة هذه الطبقة على النشاط الاقتصادي في ظل العقوبات الى ارتفاع وتيرة الأسعار الى أعلى سقف ممكن، لا سيما المواد التموينية والمحروقات والأدوية وقطع الغيار والنقل العام.
لكن الخرطوم لا تبدو رسمياً وجلة من شيء بعينه، وتتظاهر بأنها لا تهاب ما يدبره معارضوها ومن يقفون وراءهم في الشرق والجنوب والغرب. الفريق البشير توجه الى القاهرة للمشاركة في القمة العربية أملاً في تعزيز التقارب الأخير مع الحكومة المصرية. وزير التجارة عاد من بغداد بعدما نسق مع العراقيين زيادة التبادل التجاري إثر تنفيذ اتفاق النفط مقابل الغذاء.
غير أن الدائرة المسؤولة عن اتخاذ القرار في الجبهة الإسلامية القومية تدرس بقلق شديد احتمالات تصعيد مجلس الأمن موقفه من السودان. ويزيدها قلقاً الحديث الذي يملأ الشارع السوداني عن احتمال إقدام الشعب على عصيان مدني بحثاً عن خلاص نهائي. وهي احتمالات يقول سودانيون غير معارضين في الخرطوم إنها باتت تحظى بنقاش شعبي على نطاق واسع ويزيدها إلحاحاً اقتراب نهاية المهلة التي حددها مجلس الأمن لمراجعة العقوبات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.