في "سنة الأوتوماتيك"، رواية حسن داوود الجديدة دار "النهار"، بيروت، نحتار في كون الراوية أو الاب أو الاخ أو محمد راجحة أو رضوان أو رامز أو فرحات أو محمد حرفوش موجودين فعلاً. ونتساءل إذا كانوا أبطالاً على الأقل. الراوي يروي عنهم، وهم مجرد رواية. لا نكاد نحس أنهم حقيقيون إلى الحد الذي نتصوّره، وأن لواحدهم وجداناً ونفساً وقلقاً وتنازعاً وتضارباً وسعياً مضطرباً إلى مصيره. لا لشيء إلاّ لأنهم من اللحظة الأولى، يبدون وكأنهم نتيجة كتابة ثانية: لقد تأخروا عن زمنهم الأوّل وكتابتهم الأولى. فما عاد قلقهم بقلق ولا فرحهم بفرح ولا عذابهم بعذاب ولا غربتهم بغربة. كل ذلك مرت عليه الحياة فبات كلاماً وسيرة تروى. ذلك لا يعني البتّة أنهم أشباح، فليس كمثل حسن داوود في تفصيله وهوسه بالدقيق الصغير، بالحركة الجسدية العابرة، والفوارق الضئيلة والملاحظات النادرة. ليسوا أشباحاً بقدر ما هم هياكل من دقائق وتفاصيل، لكننا مع ذلك نشعر أن هذه الدقائق والتفاصيل عبارات السرد وجمله وفواصله وتقاطعاته. وأنّها هكذا تأخذ ايقاع السرد ونفَسه، ولا يعود لها ايقاع ونفس سواهما. نقرأ ونحن نسمع السرد يقف ويتصل ويتنمنم وينتشر ويصنع فضاءاته وهياكله ومناخاته، وهو يفعل ذلك في خيط وايقاع متصلين. يقل في السرد السفول والعلو، ولا تتضارب فيه الايقاعات ولا تصل إلى حالٍ من التوتر والصخب والعنف. لا نسمع نشيجاً وإذا شئنا أن نتميز هذا الايقاع، قلنا إنه أقرب إلى نمنمة وإنه سلس لطيف. ذلك أننا هنا لا نتألم فوراً إذا رأينا ابهام محمد راجحة على أرض الفرن. ولا نشمئز إذا رأينا رضوان يفتح الحمام على الأرمنية، أو نستعيذ بالعقل اذا رأينا الأب في سبحات تخريفه وظلاميته. فهذه كتابة ثانية، كتابة استوت متكاملة، وبات غرضها في نفسها. بات "السرد" غرضها بما هو ايقاع خاص، بما هو أسلوب، بما هو تأليف. هكذا نجد أولاً أن نفَس السرد ليس تراجيدياً ولا درامياً: إنه نفس الفكاهة والطرافة والواقع، وقد شفي من دراميته وتراجيديته وبات طرفة ومزاحاً وسخرية. إنه عالم شفايك ودون كيشوت، وقد شفي من جراحه وبات معروضاً لمفارقاته وغرابته ومزاحه. عرّض حسن داوود روايته لهذه الفكاهة فجاء السرد خفيفاً، سرد يروي الاشياء وقد استحالت مفارقات ونوادر وفكاهات. ولا جدوى عند ذلك من أن نسمع نشيجاً ونحن نودع ابهام محمد راجحة، أو نتابعه في خيباته المتوالية، وهي خيبات مردها خروج الوهم الفقير البائس إلى "الحقيقة" الفقيرة البائسة. لا نسمع نشيجاً وتشنجاً. إلاّ أن ما كان جذره ألماً، لا ينفصل تماماً عن جذره. فهذا الابهام المقطوع المتروك الذي يقترح الاب حمله إلى المستشفى في رغيف، ويذبل حين يخاط إلى بقيته، ويترك اليد بعد موته أشبه بمحفظة... هذا الاصبع - دعنا من المزاح - يتخذ حضوراً كابوسياً. إنه ينزاح عن صاحبه، عن اليد والشخص ليغدو فجأة ذا كيان وقصة قائمة بذاتها. والواقع أن هذا ليس حال الاصبع، بل هو حال كل شيء في الرواية. فأنت تشعر أن كلام الأب ينزاح عنه كما لو كان هو الآخر إصبعاً ساقطاً. وكذلك سلوك محمد راجحة وفرحات ورامز ومحمد حرقوص. كأن ما يجري لا يمت كثيراً إلى أصحابه بصلة، أو أنّه يفارقهم فور ولادته فيتخذ مساره ونسقه، أو يدخل في مسار ونسق آخرين هما مسار السرد ونسقه. نتأمل هذه الافعال وكأنها تحصل بذاتها، ونراها وكأنها ليست بطاقة لهذا الشخص أو ذاك: إنها قائمة في نفسها، مهما كان أصلها وكان صاحبها وكانت فحواها. وإذا شفيت تلك الأفعال من أصحابها، باتت عصية على "التشخيص"، وغلب عليها ما يغلب على النادرة والطرفة والخبر. فالقارئ يرى عندئذ سقوط محمد راجحة كأن مرده إلى خبر لا إلى شخص، ويتعامل مع تخريف الاب على هذا النحو... فلا يجد في الأول مساراً تراجيدياً لا شك فيه، وفي الثاني هذياناً ومرضاً. لكنّه إذا سعى إلى قراءة ثانية، سيعيش احساساً مغايراً، إذ انّه لن يستطيع اغفال ما ينطوي عليه كلّ ذلك من هلهلة وبؤس واستسلام وانسداد آفاق. ولن يستطيع أن يتجاهل كابوسية الابهام المقطوع، وجنون السلطة الأبوية الغارقة في استيهامات قدرتها المسلوبة. كما لن يستطيع أن يغضّ الطرف عن افتقار الحياة المروية إلى أبسط ارادة أو وعي لذاتها وامتلاك لمصيرها، خارج الاستسلام والتلقي السلبي والآلية الميتة والاستيهام والهذيان. رواية حسن داوود الجديدة هي، ببساطة، رواية فرن، أو لنقل إن الفرن بؤرتها. وفي فلكه تدور العائلة: الأب المتنقّل بين الطب الخرافي والسحر، والعم وزوج العم والابن الاصغر - الراوية - فضلاً عن الابن الاكبر الذي يحوز سلطة الأب، وإن كان في انتقال السلطة ما يضعفها أصلاً. والرواية تستحضر أيضاً عمالاً مهاجرين، يحملون معهم من ديارهم الأولى - حلب - عراقة تتجلى في فن الموشحات. لكنها عراقة معرّضة لانحطاط وبؤس هما أصلاً حياة الفرن، تصطدم بالأفق المسدود النجومية في الغناء. ولا تلبث المطامح أن تنقلب حزناً وركوداً وإحباطاً. كما يستقطب الفرن من حوالي العائلة والاقارب تلامذة مراهقين، غارقين كما الآخرين في استيهامات جنسية هي الأخرى لا منفذ لها. والفرن نفسه في شارع بلس الراقي في بيروت، يحمل إلى هذا الشارع أشخاصاً لا صلة لهم به، ولا أمل لهم بالانخراط فيه. لذا يتحول الفرن إلى "سجن" وعزلة. ويستقبل - في المقابل - فتيات من الجامعة الاميركية يتحولن إلى مثالات لا تطال، كما يستقبل أجانب، أو شبه أجانب: أميركي وأرمنية، يحط دخولهما إلى الفرن من قدرهما، فيغدو الاميركي بيتر "فقيراً"، وهذا يعني - على لسان الأب - من جملة ما يعني التواضع والبساطة. أما المرأة فتتعرض مباشرة، ودون وازع او هالة، إلى شهوات العمال. والغريب أن محل استقبال هؤلاء الاجانب داخل الفرن، ليس سوى "الحمام"، وهو ليس داخل الداخل واسفل الاسفل فحسب، ولكنه حياة الفرن الداخلية كلها، في انحطاطها واستيهاماتها وانعزالها. أي أننا أمام حكايات شتى. حكاية عائلة بشبكة علاقاتها، وما تستبطنه من تراتب وتجاذب وتنافر. إلاّ أن ذلك كله يمر في طور انتقالي: مصادرة سلطة الاب، تنافر الاب والعم وتوسط زوج العمة الملتحق بالعائلة. حكاية العمال المهاجرين والمقيمين، حكاية التلامذة المراهقين، حكاية الصلة بين الفرن والخارج، وأخيراً حكاية الفرن نفسه. وتعدد الحكايات يبدو في النص على قدر من التداخل والاستواء، بحيث تصبح كلها أقرب إلى حكاية واحدة. وعالم "سنة الاوتوماتيك" من هذه الناحية، قريب من عالم "بناية ماتيلد" رواية حسن داوود الأولى، ففيه أيضاً خليط حكايات وأقوام وبيئات. وكما في "بناية ماتيلد"، يبدو السرد الروائي هو البطل، وربما توسعنا فقلنا إن البطولة هي الزمن الروائي نفسه. منعطف انتقالي طالما قال رامز إن حركة يدي محمد حرقوص التلميذ الخائب، تشبه حركة يدي بائع الكلسات. وقد صحت نبوأة رامز فبات محمد حرقوص بائع كلسات. إنّه ضرب من الغرابة يسوقه النص بصمت مقصود. ف "الواقعية الساخرة" ليست أسلوب الرواية، لكن مصير محمد حرقوص ما كان يهم لولا هذه الغرابة التي جعلته وليد نكتة، كأنه صُمّم في مزحة، مجرد مزحة. لكنّنا لا نجد اهتماماً بمصائر الآخرين. فالأغلب أن الرواية لا تتلو مسارات وحوادث، بل تستحدث صوراً، بالمعنى الذي ننسبه إلى الشعر. أي انها صور تحتمل دلالات وتآويل شتى. فهذيان الأب، وبلاهة خليل الفوكزيه، وفن محمد راجحة وغناؤه، وكلام العم بوجهه وحركات يديه، وجسد الأخ الرياضي الذي يجعل لكل حركة مظهراً رياضياً، ورحلة السيارة، ومشوار السباحة. كل هذه صور أكثر منها حوادث. وهي تتوسع كصور، أي أنها لا تتسلسل بقدر ما تتوسع وتنجلي وتزداد تفاصيل ومدىً. لذا تتناظر الصور وتتناظر الحكايات على الرغم من تضاربها وتنافرها أحياناً. بل وتنخرط لا في سياق واحد فحسب، ولكن في ايقاع واحد ودلالات متقاطعة. لعل الرواية هي في المنعطف الزمني. منعطف المراهقة، وهي عمر انتقالي. منعطف حياة المنطقة، منعطف التجديد الآلي للفرن، منعطف العلاقات العائلية التي آلت أكثر فأكثر إلى الاختلال، منعطف الصلة بين بيئات متضاربة مهاجرون، جنوبيون، نازحون إلى المدينة، أهل مدن، أجانب. إننا في المنعطف، في الزمن الانتقالي، زمن التحول والاختلال. لكنه أيضاً الزمن الضائع المهدور، الزمن الذي يبدو وكأنه فقط عتبة ومحطة، ولا قوام له بذاته. بل يبدو وكأنه هو نفسه بلا مادة، سوى الطموح والاستيهام والادعاء. ولهذا السبب ربّما تبدو رواية حسن داوود، بدرجة ما، فكاهة سوداء.